الصلة بين الحياتين : الدنيوية والأُخروية
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 3 سنواتالصلة بين الحياتين : الدنيوية والأُخروية
هذه الشبهة هي الأخيرة من الشبهات الأربع التي انتخبناها ، وحاصلها : انّ الموت فناء للإنسان وإعدام له ، فبموته تبطل شخصيته وكيانه ، فإذا تعلّقت مشيئته سبحانه بإحيائه ليجزيه وفق أعماله فلا صلة بين الحياتين ولا بين الشخصين ، فكيف يمكن القول بأنّ المعاد هو نفس الإنسان الذي مات وبطلت شخصيته ؟
وهذه الشبهة هي التي يبيّنها قوله تعالى عنهم : ( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ). (1)
وهذه الآية وإن لم تكن صريحة في بيان الشبهة ، لكن يوضّحها ما أجاب به سبحانه عنها ، بقوله :
( بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) وقد مرّ بيانه.
( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ). (2)
ولا يقف الإنسان علىٰ حقيقة الجواب إلّا بإمعان النظر في قوله : ( يَتَوَفَّاكُم ) ، فليس المراد من التوفّي هو الموت كما هو الدارج على الألسن ، بل المراد منه هو الأخذ ، وقد فسر به ابن منظور في لسان العرب. (3)
ويفسره أمين الإسلام الطبرسي ، بقوله : أي يقبض أرواحكم جميعاً. (4)
وعلى ذلك فالقرآن يرد على الشبهة بأنّ حقيقة الإنسان عبارة عمّا يأخذه ملك الموت الذي وكّل بأخذه بأجمعه وهو شيء لا يضلّ في الأرض ، وأمّا الضالّ في الأرض كالعظام البالية والأجزاء المتلاشية فهي طارئة على الإنسان.
فإذا كانت حقيقة الإنسان محفوظة عند الربّ بأجمعها ، فالإتيان به يوم الحشر إتيان لنفس الإنسان الذي عاش في الحياة الدنيا.
وإن شئت قلت : الإنسان مؤلف من بدن وروح ، فالبدن قشر والروح هو الأصل ، والحافظ للوحدة بين البدنين هو الروح ، فإذا كانت الروح باقية في كلتا النشأتين فلا تضرُّ بشخصيته ، فيصدق على المحيا في النشأة الأُخرى ، انّه نفس الإنسان الذي عاش في نشأة الدنيا.
ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الآية ليست ناظرة إلىٰ بيان أنّ المعاد روحاني لا جسماني بل هي ساكتة عن هذا الأمر ، وإنّما يعلم ذلك من خلال الآيات الأُخرىٰ الدالّة على أنّ المعاد روحاني وجسماني.
بل هي ناظرة إلىٰ دفع الشبهة العالقة في الأذهان ، وهي كيف يمكن جزاء الإنسان في النشأة الأُخرىٰ بالأعمال التي اكتسبها في النشأة الدنيا مع أنّه بموته بطلت شخصيته وانفصمت وحدته.
فيجيب سبحانه بأنّ الحافظ للوحدة ، هو وحدة الروح والنفس ، في أيّ بدن دخلت ، وبأي بدن حشرت ، فهناك صلة قويمة بين الحياتين.
نعم دلّت الآيات على أنّه سبحانه سيجمع عظامه ورفاته فينشئ نفس ما أنشأه في الحياة الدنيوية.
قال سبحانه : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ). (5)
هذا هو جواب الذكر الحكيم عن الشبهة ، وهو مبني علىٰ تجرّد الروح عند الموت الذي يصحح بقاءه وإن فسدت مادته وتناثرت أوصاله ، وهذا الجواب مدعم بدلائل عقلية دامغة ، وإليك بيانها :
البرهان الأوّل : ثبات الشخصية في دوّامة التغيير
إنّ الإنسان منذ نعومة أظفاره إلىٰ ريعان شبابه إلى كهولته وشيخوخته في دوامة التغيّرات والتحوّلات ، وهو أمر ملموس لكلّ إنسان.
وعلى الرغم من ذلك فثمة أمر ثابت غير متغير يواكبه في جميع تلك التغييرات والتحولات وإليه ينسب أفعاله كلّها التي صدرت منه طيلة حياته ، وهذا الأمر الثابت يعبّر عنه بـ « أنا ». ويقول كنت طفلاً رضيعاً ثمّ صرت مراهقاً ثمّ شاباً ثمّ كهلاً وشيخاً هرماً ، وهذا يدل على أنّ المنسوب إليه أمر ثابت في منأىٰ عن طروء التحول والتغير عليه ، وما هذا شأنه فهو مجرّد لا مادي.
وبتعبير آخر : انّ الجانب المادي للإنسان عبارة عن البدن الذي يتألف من خلايا كثيرة التي لم تزل في تحول وتغير مستمر ، وهذه الخلايا تقطع أشواطاً طويلة حتى تصل إلى الهرم ثمّ تموت وتحل محلها خلايا أُخرىٰ جديدة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يلمس كلّ إنسان انّ ثمة أمر ثابت لا يتغير بتغير الزمان ويكون محوراً لتلك التغييرات ، وهو عبارة عن بقاء ذاته وشخصيته وانيّته عبر الزمان.
فثبت من ذلك أمران :
أ. الجانب المادي في مهبِّ التغيّرات والتحوّلات.
ب. الجانب الروحي والنفسي ثابت غير خاضع للتغيّر.
فنستنتج من هاتين المقدمتين : انّ النفس الإنسانية التي تدور عليها شخصيته وذاته أمر غير مادي بشهادة انّها غير خاضعة لآثار المادة.
البرهان الثاني : علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه
إنّ الإنسان قد يغفل في ظروف خاصة عن كلّ شيء حتى عن بدنه وأعضائه وما حوله من الأشياء ولكن لا يغفل أبداً عن نفسه سليماً كان أم سقيماً ، وهذا يدل على أنّ المغفول عنه غير اللا مغفول عنه.
توضيحه : تخيّل نفسك في حديقة غنّاء زاهرة وأنت مستلق لا تُبصر أطرافك ، ولا تنتبه إلىٰ شيء ، ولا تتلامس أعضاؤك ، لئلّا تحس بها ، بل تكون منفرجة ومرتخية في هواء طلق ، لا تحس فيه بكيفية غريبة من حرّ أو برد أو ما شابهه ممّا هو خارج عن بدنك ، فانّك في مثل تلك الحالة تغفل عن كلّ شيء حتى عن أعضائك الظاهرة وقواك الداخلية فضلاً عن الأشياء التي حولك ، إلّا عن ذاتك فلو كانت الروح نفس بدنك وأعضائك وجوارحك وجوانحك ، للزم أن تغفل عن نفسك إذا غفلت عن أعضائك والتجربة أثبتت خلافه. (6)
البرهان الثالث : عدم الانقسام في الشخصية
إنّ من آثار المادة هو التجزئة والانقسام ، فكلّ أمر مادي حتى الجزء الذي يسمّونه بما لا يتجزّأ أمر منقسم عند العقل وإن تعذر تقسيمه بالأجهزة الحديثة ، فما يسمّىٰ في الفيزياء بالجزء الذي لا يتجزّأ هو مصطلح علمي أسموه بذلك لعدم استطاعة الأجهزة تجزئته ، ولكنّه عند العقل جزء يتجزّأ كما ذكرنا.
وبناء على هذا الأصل فكلّ موجود مادي قابل للانقسام ولكن الشخصية الإنسانية التي تكون محوراً لأفعاله وأوصافه لا تقبل التجزئة والتقسيم فلا يتصور لشخصيته التي يعبر عنها بـ « أنا » أجزاء ، وهذا دليل علىٰ أنّ الشخصية الإنسانية رغم ازدواجها مع المادة غير خاضعة لأحكامها ، فهي أمر ثابت غير منقسم ، وما هذا شأنه أمر مجرّد غير مادي.
إنّ هذه البراهين الساطعة تدعم وجهة النظر القائلة انّ الإنسان لا يفنىٰ بموته وإنّما الفاني غير الباقي ، وأنّ النفس أمر مجرد فما ينسب إليها أيضاً مثله.
مثلاً انّ حبك لولدك وبغضك لعدوك ممّا لا يقبل الانقسام وإن كانا يقبلان الشدة والضعف ، فالنفس والنفسانيات أو الروح والروحيات أُمور فوق المادة لا تخضع لآثارها.
القرآن وخلود النفس
إنّ الذكر الحكيم يؤكّد على خلود الروح وبقائها ، والآيات في هذا المضمار على قسمين : قسم يدل بصراحة على التجرّد ، وقسم آخر ظاهر فيه ، وإليك نقل شيء من القسمين :
القسم الأوّل : ما هو صريح في خلود الروح ، يقول سبحانه :
1. ( اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ). (7)
ودلالة الآية مبنية على إمعان النظر في لفظة « التوفّي » وهي بمعنى الأخذ والقبض لا الإماتة ، وعلى ذلك فالآية تدل على أنّ للإنسان وراء البدن شيئاً يأخذه سبحانه حتى عند الموت والنوم.
فيمسكه إن كتب عليه الموت ويرسله إن لم يكتب عليه ذلك إلى أجل مسمّى ، فلو كان الإنسان متمحضاً في المادة وآثارها فلا معنى « للأخذ » و « الإمساك » و « الإرسال ».
2. ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّـهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ). (8)
وصراحة الآية غير قابلة للإنكار حيث تعدّهم أحياء أوّلاً ، وتحكم عليهم بالرزق وتثبت لهم آثاراً نفسية كالفرح والاستبشار وعدم الخوف والحزن.
ونظيره قوله سبحانه : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَـٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ). (9)
وربما يتراءى من بعض الذين أخلدوا إلى المادة ، تفسير حياة الشهداء بخلود ذكراهم في المجتمع والأندية والمحافل ، ولكنّه تفسير بعيد عن الصواب ، إذ لو كان المراد هو هذا فما معنى قوله سبحانه : ( يُرْزَقُونَ ) ، ( فَرِحِينَ ) ، ( يَسْتَبْشِرُونَ ) ، بل وما معنى قوله : ( وَلَـٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ) فانّ الحياة بالمعنى الذي ذُكر أمر يشعر بها كلّ الناس ؟
3. ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ). (10)
نرى أنّه سبحانه يحكم علىٰ آل فرعون بأنّهم يعرضون على النار كلّ يوم وليلة قبل يوم القيامة ولكنّهم يدخلون في النار حين تقوم الساعة ، فلو كان الموت بطلاناً للشخصية فما معنى عرضهم على النار صباحاً ومساءً ؟
4. ( مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّـهِ أَنصَارًا ). (11)
فالآية تحكي عن أنّ قوم نوح عليه السلام بعدما غرقوا أُدخلوا النار بلا تراخ ، فلو كان المراد من دخول النار هو نار القيامة لا يصح التعبير عنه بالفاء ، في قوله : ( فَأُدْخِلُوا نَارًا ) الحاكية عن الاتصال ، وعلى ذلك فالمراد من النار هي النار الموجودة في النشأة البرزخية.
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة عن خلود الشخصية الإنسانية وبقائها بعد موته.
القسم الثاني : ما هو غير صريح في خلود الروح وإن كان ظاهراً في تجرّده وخلوده.
1. ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ). (12)
نرى أنّه سبحانه يخصّ النجاة ببدنه ، وهو يعرب عن أنّ هناك شيئاً آخر لم يشمله النجاة.
أضف إلى ذلك خطابه سبحانه بقوله : ( نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ) حيث يدل على أنّ هناك واقعية وراء البدن يكلمها ويخاطبها ويُعْلِمْها بأنّ النجاة يشمل البدن لا غير.
2. ( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَـٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ). (13)
فهذه الآية والآية التالية تدلّان على بقاء الروح بعد الموت ووجود الصلة بين النشأتين الدنيوية ، والبرزخية ، وإليك الآية الثانية :
( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ ). (14) ودلالة الآيتين علىٰ نمط واحد حيث إنّ كلاً من صالح وشعيب يخاطبان قومهما بعد هلاكهم ويقولان : ( يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ) فلو كان الموت فناء الشخصية ، فما معنى هذا الخطاب الجدي والذي يوضحه دخول الفاء علىٰ قوله : « فتولىٰ » والذي يعرب عن تأخّر التولّي والمحاورة عن هلاكهم ؟!
3. ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ). (15)
والآية تأمر النبي بسؤال المتقدمين من الرسل في شأن التوحيد ، والسؤال فرع وجود المسؤول أوّلاً وإمكان الاتصال ثانياً ، فالآية ظاهرة في وجود أرواح الأنبياء وإمكان الإتصال بهم.
وهناك آيات أُخرى صريحة أو ظاهرة في خلود الروح وإمكان الاتصال بها ، اقتصرنا على ما ذكرنا روماً للاختصار.
الهوامش
1. السجدة : 10.
2. السجدة : 11.
3. لسان العرب : 15 ، مادة وفى.
4. مجمع البيان : 4 / 328.
5. يس : 79.
6. هذا البرهان ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات : 2 / 92 ؛ وفي كتاب الشفاء قسم الطبيعيات في موردين ، ص 282 و 464.
7. الزمر : 42.
8. آل عمران : 169 ـ 171.
9. البقرة : 154.
10. غافر : 45 ـ 46.
11. نوح : 25.
12. يونس : 92.
13. الأعراف : 77 ـ 79.
14. الأعراف : 92 ـ 93.
15. الزخرف : 45.
مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 8 / الصفحة : 55 ـ 63
التعلیقات