العزاء والرثاء سُنّة قرآنية
الشيخ محمد السند
منذ سنةالعزاء والرثاء سُـنّة قرآنية
بسم الله الرحمٰن الرحيم
يطرح بعضهم سؤالاً عن المبرّر الشرعي والأهداف الدينية وراء تكرار العزاء وإقامة المأتم علىٰ سيّد الشهداء عليه السلام وبضـعة المصطفىٰ صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّ عام ، مع تطاول المدّة ، بنحو رتيب وندبة راتبة ، والحال إنّ الندبة والرثاء علىٰ السبط الشهيد سُـنّة إلٰهية تكوينية وقرآنية ، وكذلك هو سُنة نبوية .
وقد أوضحت الكثير من الكتب والمراجع التاريخية والدراسات عدّة من هذه الوجوه :
فالوجه الأوّل : وهو السُـنّة التكوينية الإلٰهية .
يشير إليه قوله تعالىٰ : ( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ) (1) ؛ إذ أنّ الله سبحانه وتعالىٰ قد نفىٰ ـ في هذه الآية الكريمة ـ بكاء السماء والأرض علىٰ هلاك قوم فرعون الظالمين ، وهو ما يقضي بوجود شأن فعل البكاء من السماء والأرض كظاهرة كونية ، وإلّا لَما كان للنفي معنىً محصّـل . .
وقد أشارت المصادر العديدة من كتب أهل سُـنّة الجماعة بوقوع هذه الظاهرة الكونية عند مقتل الحسين عليه السلام من مطر السماء دماً ، وٱحمرارها مدّة مديدة ، ورؤية لون الدم علىٰ الجدران وتحت الصخور والأحجار في المدن والبلاد الإسلامية ، فلاحظ ما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة الحسين عليه السلام بأسانيد متعدّدة (2) .
بل قد أطلعنا أخيراً بعض المؤمنين علىٰ كتاب ( ذي أنكلوساكسون كرونكل ) ، كتبه مؤلّفه سنة 1954 م ، يشتمل علىٰ ذكر الأحداث التاريخية التي مرّت بها الأُمّة البريطانية منذ عهد المسيح عليه السلام .
وهو يذكر لكلّ سنة أحداثها ، حتّىٰ يأتي علىٰ ذكر أحداث سنة 685 م ، التي تقابل سنة 61 هـ سنة استشهاد السبط عليه السلام ، فيذكر المؤلّف أنّ في هذه السنة مطرت السماء دماً ، وأصبح الناس في بريطانيا فوجدوا أن ألبانهم وأزبادهم تحوّلت إلىٰ دم (3) . .
هذا مع أنّ الكاتب لم يجد لهذه الظاهرة تفسيراً ، ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلىٰ مقارنة ذلك لسنة 61 هـ .
وأمّا الوجه الثاني : وهو كون ذلك سُـنّة قرآنية .
فهو علىٰ نمطين :
الأوّل : افتراض الباري تعالىٰ مودّة أهل البيت عليهم السلام ، بل وجعل هذه الفريضة من عظائم الفرائض القرآنية ، وذلك في قوله تعالىٰ : ( ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّـهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (4) . .
فقد جعل المودّة أجراً علىٰ مجموع الرسالة المشتملة علىٰ أُصول الدين العظيمة ، ممّا يدلّل علىٰ كون هذه الفريضة في مصاف أُصول الديانة .
ثمّ بيّن تعالىٰ أنّ المودّة لها لوازم وأحكام ، منها : الاتّباع ، كما في قوله تعالىٰ : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (5) .
ومنها : الإخبات والإيمان بذلك ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) (6) .
ومنها : الحزن لحزنهم ، والفرح لفرحهم ، كما في قوله تعالىٰ : ( إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ ) (7) . .
ففد بيّن تعالىٰ ـ من خلال دلالة هذه الآية علىٰ أنّ العداوة للرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم مقتضاها الحزن لفرحه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السلام ، والفرح لمصيبته صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السلام ـ أنّ المحبّة تقتضي الحزن لمصابهم ، والفرح لفرحهم .
ونظير هذه الدلالة قوله تعالىٰ : ( إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ) (8) . .
فعلىٰ هذه الدلالة القرآنية يكون العزاء وإقامة المأتم والرثاء والندبة علىٰ مصاب السبط عليه السلام ، بضعة المصطفىٰ ، سـيّد شباب أهل الجنّة ، ريحانة الرسول الأمين صلّى الله عليه وآله وسلّم ، من مقتضيات الفريضة العظيمة الخالدة بخلود الدين ، وهي : مودّة القربىٰ .
الثاني : ما عقدنا هذا المقال له ، وهو : إنّ القرآن قد تضمّن الرثاء والندبة علىٰ خريطة وقائمة المظلومين طوال سلسلة أجيال البشرية . .
وقد استعرض القرآن الكريم ظلامتهم ، بدءاً من هابيل إلىٰ بقية أدوار الأنبياء والرسل ، وروّاد الصلاح والعدالة ، والجماعات المصلحة المقاومة للفساد والظلم ، كأصحاب الأُخدود ، وقوافل الشهداء عبر تاريخ البشرية ، وحتّىٰ الأطفال المجني عليهم نتيجة سُـنن جاهلية ، كالموؤدة ، بل قد رثىٰ وندب القرآن الناقة ـ ناقة صالح عليه السلام ـ لمكانتها .
ولم يقتصر القرآن علىٰ الرثاء والندبة لمن وقعت عليهم الظلامات ، بل أخذ في التنديد بالظالم والعتاة الظلمة ، وتوعّدهم بالعذاب والنقمة والبطش ، كما نجده في جملة من الموارد التي سنتعرّض لها ـ في هذا المقال ـ في السور القرآنية ، وهي :
* الأُولىٰ : قصّة أصحاب الأُخدود في سورة البروج .
فالسورة تستهلّ بالقَسم الإلٰهي أربع مرّات : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) (9) ، وهذا الابتداء بمثابة توثيق للواقعة والحادثة التي يريد الإخبار عنها ، وفي هذا منهجاً ودرساً يحثّ علىٰ توثيق الحادثة أوّلاً ، ثمّ الخوض في تفاصيلها ورسم أحداثها .
ثمّ تسرد السورة وقائع الحدث الذي جاء القسم الإلٰهي علىٰ وقوعه ، مبتدئة بلفظ : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ) (10) ، وهو أُسلوب رثاء وندبة وعزاء ، نظير قول الراثي : قتل الحسين عطشاناً . كما أن توصيفهم بأصحاب الأُخدود بيان لكيفية القتل التي جرت عليهم .
وتواصل السورة تصوير مسرح الحدث ؛ استثارة للعواطف وتهييجها ، وذلك بوصف الأُخدود : ( النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ) (11) ، وهو بيان لشدّة استعار النار التي أُجّجت لإحراقهم ، وهو وصف لبشاعة الجناية وفظاعتها .
ثمّ يتابع القرآن الكريم قوله : ( إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ) (12) ، وهو بيان للقطة أُخرىٰ من مسرح عمليات الحادثة التي أوقعها الظالمين علىٰ المؤمنين ، من إرعابهم وتهديدهم بإجلاسهم علىٰ شفير الأُخدود المتأجّج أوّلاً ، ولأجل ممارسة الضغط عليهم للتخلّي عن مبادئهم التي يتمسّكون بها ، وفيه بيان لشـدّة صلابة المؤمنين مع هذا الإرعاب المسلّط عليهم .
ثمّ تتابع السورة : ( وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) (13) ، وهذا بيان يجسّد فوران الشفقة الإلٰهية علىٰ الظلامة ، والتلهّف علىٰ ما يُفعل بالمؤمنين .
ثمّ تتلو السورة : ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (14) ، فيبيّن براءة المؤمنين في قبال شـدّة الظلامة ، ومن جهة أُخرىٰ يبيّن شـدّة صلابة المؤمنين وصمودهم وعلوّ مبدأهم .
ثمّ يبدأ الباري تعالىٰ بتهديد الظالمين وتنديده بهم من موقع المالك للسماوات والأرض ، والشاهد المراقب لكلّ الأُمور : ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (15) .
ثمّ يقول تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ . . . إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) (16) . .
فيسطّر تعالىٰ قاعدة وسُـنّة إلٰهية عامّة من الوقوف بصفّ المظلومين ومواجهة الظالمين ، وهو بذلك يربّي المسلمين والمؤمنين والقارئ للقرآن علىٰ التضامن مع المظلومين ، والنفرة من الظالمين والتنديد بهم عبر طول التاريخ ، ولا يتخاذلوا باللامبالاة بأن يقولوا : هذه الأحداث والوقائع غابرة في التاريخ ولا تعنينا . بل يحثّ علىٰ التضامن في صفّ كلّ مظلوم من أوّل تاريخ البشرية والتنديد بكلّ ظالم .
وهذا الجوّ القرآني تراه لا يكتفي من المسلم والقارئ للسورة بالتعاطف وجيشان الأحاسيس تجاه المظلوم ، بل يستحثّهما علىٰ النفور من الظالم والتنديد به ، وإن كان ولّىٰ زمانه في غابر التاريخ .
كلّ ذلك لتطهير الإنسان من الذوبان في مسير الظالمين ، وٱنجذاباً له مع مبادئ المظلومين .
وإضافة إلىٰ إقامة الندبة والرثاء علىٰ أصحاب الأُخدود ، والتنديد بقاتلـيهم ، نرىٰ السـورة تضمّ : ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ) (17) ، فتذكّر قارئها بمسيرة بقية ظلامات الظالمين ، من عصابة جنود فرعون ، وثمود ، الّذين جنوا علىٰ ناقة صالح عليه السلام .
فالسورة ابتدأت بقَسم علىٰ تأكيد وقوع الفادحة في المؤمنين ، وتحسّر في ندبتهم ورثائهم وإظهار العزاء عليهم ، وبيان عظم التنكيل بهم ، وبراءتهم عن الجرم سوىٰ صمود الإيمان وبسالته ، ثمّ توّعدت علىٰ الانتقام بتصوير مليء بالأحاسيس الجيّاشة ؛ إثارة للعاطفة .
ثمّ إن ها هنا إلفاتات مهمّة :
الأُولىٰ : إنّ هذه السورة حيث كانت في أُسلوب أدب الرثاء والندبة والعزاء وإقامة المأتم علىٰ أصحاب الأُخدود ، فلا بُدّ أن تكون قراءة هذه السورة في كيفية التجويد بنحو من التصوير البياني والطور الإيقاعي المناسب لجوّ معاني السورة ، وهذه الكيفية هي المعروفة بطور الرثاء والنوح .
وقد تقرّر في علم التجويد أخيراً ضرورة التصوير والترسيم البياني لجوّ معاني الكلام ، فلا تصحّ قراءة القرآن علىٰ وتيرة واحدة ، بل آيات البشارة بالجنّة والثواب والنعيم تقرأ بنحو الابتهاج والفرح ، وآيات النذر والوعيد تقرأ بكيفية الخوف والقشعريرة ، وآيات التشريع والأحكام تقرأ بكيفية التبيين والتعليم ، وآيات الحكمة والمعارف والموعظة تقرأ بنحو الطور الصوتي المناسب لجوّ الموعظة والحكمة .
فمن ذلك نستخلص : إنّ النوح والترديد الرثائي من ألحان القراءة القرآنية لهذه السور المتضمّنة للمراثي .
الثانية : إنّ الكثير من المفسّرين أشاروا إلىٰ أنّ القرآن قد نزل علىٰ أُسلوب أمثال ، ومواعظ ، وحكم ، وإنذار ، وبشارة ، وأحكام ، ومعارف ، وأخبار ، وأنباء ، و . . . ولم يشيروا إلىٰ وجود أُسلوب وأدب الرثاء والندبة في القرآن الكريم ، مع أنّه من الفصول المهمّة في الأدب والأُسلوب القرآني ، كما سنذكر نموذجاً من بعض قائمة المراثي والندب في السور القرآنية .
الثالثة : إنّ اشتمال الكتاب العزيز في العديد من السور القرآنية علىٰ المراثي والندبة والعزاء ، وهو قرآن يتلىٰ كلّ صباح ومساء ، وفي كلّ آن وزمان ، وهو عهد الله تعالىٰ إلىٰ خلقه اللازم أن يتعاهدوه بالقراءة والتدبّر كلّ يوم ، ولا سيّما في شهر رمضان الذي هو ربيع القرآن ، وذلك يقضي : دعوة القرآن لإقامة الرثاء والندبة والعزاء علىٰ ظلامات المظلومين وروّاد الإصلاح الإلٰهي في البشرية في كلّ يوم ، فضلاً عن كلّ أُسبوع ، فضلاً عن كلّ شهر وكلّ موسم وكلّ سنة بنحو راتب رتيب ، في كلّ قراءة للقرآن وخـتمة .
فإذا كانت تلك سُـنّة القرآن في ظلامات المظلومين ، حتّىٰ الناقة ، ناقة صالح عليهالسلام ـ كما سنتعرّض لبيان الرثاء القرآني فيها ـ فما ظنّك ببضعة المصطفىٰ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وريحانة خاتم الأنبياء ، وسـيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام ، ولا سيّما مع أمر وٱفتراض القرآن بمودّته والحزن لمصابه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كما تقدّم في النمط السابق ؟ !
* الثانية : قصّة يوسف عليه السلام ويعقوب عليه السلام في سورة يوسف .
ويستهلّ القرآن الكريم تفصيل أحداث المأساة التي جرت عليهما بقوله تعالىٰ : ( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ) (18) ، كما يختم كلامه في السورة : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ . . . ) (19) ؛ ليبيّن أنّ ما قصّه وسرده من فعل يوسف ويعقوب عليها السلام سُـنّة تستنّ بها هذه الأُمّة .
ويبدأ الحديث عن ظلامة يوسف عليه السلام وهو في سن يافع ناعم الأظافر بقوله تعالىٰ : ( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ) (20) . .
فيرسم للقارئ مسرح الحدث بتعصبّهم بجمعهم علىٰ الطفل الصغير آخذينه ليلقوه في ( غيابة ) الجبّ ؛ ليبيّن فظاعة فعلهم وأنّهم ألقوه في أعماق الجـبّ ، وهذا نظـير قوله تعالىٰ : ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) (21) ، وهـذا التعبير الرثائي يشابهه ما استعمله شاعر أهل البيت عليهم السلام بقوله : « أفاطم لو خِلْت الحسين مجدّلاً » ، وهو نحو من تجييش العاطفة ليعيش السامع والقارئ الحالة المأساوية وكأنّه يخوضـها .
ثمّ يقول تعالىٰ في ذيل التصوير الأوّل : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) (22) ؛ لتبيين مدىٰ شـدّة القساوة الجارية علىٰ يوسف عليه السلام وهو في نعومة أظفاره ، وأنّ العناية الإلٰهية لا تتركه من دون لطفها .
وتتابع السورة آثار المصيبة علىٰ يعقوب عليه السلام : ( وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّـهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّـهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (23) . .
فتبيّن أنّ الجزع والندبة قـد اشتدّا بالنبيّ يعقوب عليه السلام إلىٰ حدّ إصابة عيناه الشريفة بالعمىٰ ، وقد اشتدّ حزنه وشكواه إلىٰ الله تعالىٰ إلىٰ درجة أن اتّهمه أبناءه بالسوء في عقله أو بدنه ، وهو معنىٰ الحرض ، والبثّ : شـدّة الحزن ؛ وهذا يدلّ علىٰ أنّ الجزع من فعل الظالمين ممدوح ، وإنّما الجزع من قضاء الله وقدره هو المذموم ، وأمّا اللواذ والالتجاء إلىٰ الله تعالىٰ في الجزع والشكوىٰ والبثّ والحزن فهذا ممدوح ، وهو تنفّر من الظالمين .
* الثالثة : قصّة قتل الأنبياء عليهم السلام .
وقد ندّد القرآن الكريم بقتل الأنبياء عليهم السلام ، وٱستنكر هذا الفعل ، في ما يقرب من تسعة مواضع : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) (24) .
و : ( أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ) (25) .
و : ( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّـهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (26) .
و : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ . . . ) (27) .
و : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) (28) .
و : ( سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) (29) .
و : ( . . . قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (30) .
و : ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّـهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ . . . ) (31) .
و : ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) (32) .
وكذلك ندّد القرآن بقتل روّاد الإصلاح الإلٰهي في البشرية : ( وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (33) .
* الرابعة : قصّة الموؤدة .
قوله تعالىٰ في سورة التكوير : ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) (34) . .
وهذه ندبة قرآنية للوليدة التي كانت تُقتل في زمن الجاهلية نتيجة السُـنن العرفية الجاهلية الظالمة ، ويبيّن في هذا الأُسلوب الرثائي كيفية مسرح الجناية برمس الوليدة وهي حيّة في التراب مع كمال براءتها .
* الخامسة : عزاء الشهداء .
وهم ممّن يُقتل في سبيل الله تعالىٰ : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتٌ ) (35) .
* السادسة : قصّة هابيل .
وجريمة قتله من قبل قابيل في قوله تعالىٰ : ( لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (36) . .
فيبيّن البراءة في جانب هابيل ، والوحشية والقساوة في جانب قابيل ، والبيان يصوّر شدّة الأحاسيس من الطرفين أثناء التحامهما في الحدث ، إلّا أنّ أحاسيس هابيل مملوءة بالصفاء والإحسان ، وأحاسيس قابيل مشحونة بالعدوان والتجاوز لمقتضيات الفطرة .
* السابعة : قصّة فرعون وهامان .
وما ارتكباه من طغيان وٱستكبار في الأرض : ( يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) (37) .
* الثامنة : قصّة ناقة صالح عليه السلام .
قوله تعالىٰ في سورة الشمس : ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّـهِ نَاقَةَ اللَّـهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ) (38) . .
فبيّن طغيان ثمود ، وأنّ الذي ارتكب الجريمة هو من الأشقىٰ في قوم ثمود ، وبـيّن حرمة الناقة بإضافتها إلىٰ ذاته المقدّسـة مع كونها ناقة صالح عليه السلام .
ثمّ صوّر بإحساس ملتهب عملية الجناية من المعتدي بأنّه قام بعملية العقر ، واللفظ يبيّن قساوة الفعل ، والسورة تسند الفعل إلىٰ قوم ثمود كلّهم ؛ لرضاهم بذلك ، كما سبق أن وصف المعتدي بالشقاء البالغ غايته .
ثمّ بيّن بجانب وقوفه بصفّ المظلوم وتضامنه معه تنديده بالظالم ، وٱنبعاث الغضب والنقمة الإلٰهية العاجلة ، وسخطه الشديد عليهم ، فلم يكتف برثاء المظلوم بل قرنه بشجب الظالم والإنكار عليه ، بل وإدانة قوم ثمود لموقفهم المتفاعل تأييداً للجريمة .
فإذا كان موقف القرآن من ناقة صالح عليه السلام يبدي مثل هذا التضامن معها ، وهي دابّة وآية إلٰهية ، ويدين ظلم قوم ثمود لها ، فبالله عليك ما هو موقف القرآن الكريم من بضعة سـيّد النبيّين ، وأشرف السفراء المقرّبين ، وسـيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام ؟ !
وإذا كان القرآن يدعونا إلىٰ تلاوة الندبة والرثاء علىٰ ناقة صالح عليه السلام والظلامة الحادثة بآيات تتلىٰ إلىٰ يوم القيامة تتلقّىٰ منها البشرية دروساً من التربية ، ويحثّنا علىٰ إقامة هذه الندبة ، وعلىٰ التنديد بمرتكبي تلك الظلامة ، فكيف بك بالظلامة المرتكبة بسيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام ، ريحانة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وما يمثّله من مبادئ وأُصول للدين الحنيف متجسّدة فيه عليه السلام ؟ !
هذه نبذة من المراثي والندب التي تصدّىٰ القرآن الكريم لاستعراضها وإقامتها في السور القرآنية ، بأُسلوب وأدب الرثاء والندب والعزاء ، ونحو من النياحة الهادفة المطلوبة لإحياء المبادئ المتمثّلة في مَن وقعت عليهم تلك الظلامات ، من أجل كونهم يحملون تلك المبادئ ويسعون لإقامتها وبنائها .
فنستخلص : أنّ الندبة والرثاء الراتب سُـنّة قرآنية ، يمارسها القارئ والتالي لكتاب الله العزيز ، وهي مجلس من المجالس المقامة في أندية القرآن الكريم .
وأما الوجه الثالث ـ الأخير ـ : وهو كون العزاء والمأتم علىٰ سـيّد الشهداء عليه السلام سُـنّة نبوية أيضاً .
فقد كتب في بيانه جملة من الأعلام ، أذكر علىٰ سبيل المثال لا الحصر ما أشار إليه العلّامة الأميني قدّس سرّه في سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وسُـنّته من كتابه سيرتنا وسُـنّتنا (39) ؛ فقد ذكر اثنا عشر مأتماً ومجلساً عقدها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لندبة الحسين عليه السلام وهو يافع في نعومة أظفاره ، في ملأ من المهاجرين والأنصار في المسجد تارة ، وأُخرىٰ في بيته مع بعض زوجاته ، وثالثة مع بعض خواصّه .
وقد نقل تلك الوقائع المتكرّرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الكثير من الحفّاظ وأئمّة الحديث في مسانيدهم ، والمؤرّخين أصحاب السير في كتبهم ، منهم : أحمد بن حنبل في مسـنده ، والنسائي والترمذي ، وٱبن عساكر في تاريخه ، وغيرهم (40) . .
فلاحظ ثمّة ما كتبوه ، وكذلك ما كتبه العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين في كتابه المأتم الحسيني . . مشروعيّته وأسراره .
الهوامش
1. سورة الدُخان 44 : 29 .
2. تاريخ مدينة دمشق 14 / 226 ـ 230 من ترجمة الإمام الحسين عليه السلام .
3. لاحظ : ص 35 وص 38 وص 42 من كتاب The Anglo-Saxon Chrovicle وقد سجّل الكتاب في مكتبة Everyman’s Libarary برقم 624 .
4. سورة الشورىٰ 42 : 23 .
5. سورة آل عمران 3 : 31 .
6. سورة الحُجرات 49 : 7 .
7. سورة التوبة ( براءة ) 9 : 50 .
8. سورة آل عمران 3 : 120 .
9. سورة البروج 85 : 1 ـ 3 .
10. سورة البروج 85 : 4 .
11. سورة البروج 85 : 5 .
12. سورة البروج 85 : 6 .
13. سورة البروج 85 : 7 .
14. سورة البروج 85 : 8 .
15. سورة البروج 85 : 9 .
16. سورة البروج 85 : 10 ـ 14 .
17. سورة البروج 85 : 17 ـ 20 .
18. سورة يوسف 12 : 7 .
19. سورة يوسف 12 : 111 .
20. سورة يوسف 12 : 15 .
21. سورة يوسف 12 : 102 .
22. سورة يوسف 12 : 15 .
23. سورة يوسف 12 : 84 ـ 86 .
24. سورة البقرة 2 : 61 .
25. سورة البقرة 2 : 87 .
26. سورة البقرة 2 : 91 .
27. سورة آل عمران 3 : 21 .
28. سورة آل عمران 3 : 112 .
29. سورة آل عمران 3 : 181 .
30. سورة آل عمران 3 : 183 .
31. سورة النساء 4 : 155 .
32. سورة المائدة 5 : 70 .
33. سورة آل عمران 3 : 21 .
34. سورة التكوير 81 : 8 ـ 9 .
35. سورة البقرة 2 : 154 .
36. سورة المائدة 5 : 28 ـ 30 .
37. سورة القصص 28 : 4 .
38. سورة الشمس 91 : 11 ـ 15 .
39. سيرتنا وسُنّتنا : سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وسُنّته ؛ للعلّامة الأميني قدّس سرّه ، ط مكتبة نينوىٰ / طهران ، وط منشورات دار الغدير ودار الكتاب / بيروت .
40. قد ذكرت عشرات المصادر في كتاب سيرتنا وسُنّتنا ؛ فلاحظ .
مقتبس من مجلّة : تراثنا / العدد : 79 ـ 80 / الصفحة : 115 ـ 130
التعلیقات