زهير بن القين الأنماري البجلي
الشيخ ذبيح الله المحلاتي
منذ سنةزهير بن القين الأنماري البجلي (1)
يجب أن لا يفوت القارئ أنّ زهير بن القين من الرجال المرموقين ومن الفرسان صائدي الأُسود ، ومن الخطباء الفحول ، والأصحاب الأوفياء ، وكان على ميمنة الحسين عليه السلام ويُعرف بأصالة الرأي والحكمة وحسن القيادة والشجاعة والمقاتلة واللّابس لكلّ ظرف لبوسه ، لا تجده إلّا في المقدّمة في الحوادث الكبار قولاً وعملاً ، يتقدّم الرعيل بخطى الواثق الشجاع ، وأقواله الآتية دليل على ذاته.
في كتاب الدرّ النظيم وهو من تأليفات جمال الدين يوسف بن حاتم الفقيه الشامي المعاصر لابن طاووس وتوجد نسخته الخطّيّة في حيازتي ، روى بسنده عن بعض بني فزارة وكان السدّي يقول أيضاً في زمن الحجّاج بن يوسف الثقفي قال : التقيت يوماً في منزلي برجل من قبيلة بني فزارة فقلت له : أخبرنا عن لقاءك بالحسين مع زهير في سفركم إلى العراق ، قال : خرجنا مع زهير بن القين البجلي من مكّة نريد العراق ، وكنّا نكره النزول مع الحسين في منزل واحد خوفاً من بني أُميّة ، فكنّا نرحل إذا نزل ، وننزل إذا رحل « إلى أن نزلنا منزلاً لم نجد بُدّاً عن مقاربة الحسين بن عليّ عليهما السلام » فنزل هو بأصحابه في جانب ونزلنا في الجانب الآخر « فبينا نحن نتغدّى إذ أقبل رسول الحسين عليه السلام حتّى سلّم وقال : يا زهير ، إنّ أبا عبدالله بعثني إليك لتأتيه ، فطرح كلّ إنسان منّا ما في يده حتّى كأنّما على رؤوسنا الطير.
فقالت له امرأته : ( ديلم أو دلهم بنت عمرو ) : سبحان الله ! يبعث إليك ابن رسول الله فلا تأتيه ، لو أتيته فسمعت من كلامه ثمّ انصرفت ، فأتاه زهير فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله فقوّض وحمل إلى الحسين عليه السلام وحمل إلى الحسين عليه السلام ، وقال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك فإنّي لا أُحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير ، ثمّ قال لأصحابه : من أحبّ منكم أن يتّبعني وإلّا فهو آخر العهد وإنّي سأُحدّثكم حديثاً :
غزونا البحر ( بلنجر ) ففتح الله علينا وأصبنا غنائم فقال لنا سلمان الفارسي رحمة الله عليه (2) : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم ؟ فقلنا : نعم ، فقال : إذا أدركتم شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم ، فأمّا أنا فأستودعكم الله ، ثمّ لم يزل مع الحسين عليه السلام حتّى قُتل رحمة الله عليه (3).
وفي رواية أعثم الكوفي أنّ زوجة زهير « ديلم » قالت له : أنت تقاتل مع ابن المرتضى وأنا أُواسي ابنة المصطفى (4).
وقال المرحوم فرهاد ميرزا في القمقام : وكانت زوجته معه حتّى شهادته (5).
وروي في عاشر البحار أنّ ( عسكر ) الإمام لمّا بلغ ذا حسم خطب الإمام هذه الخطبة ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ قال : إنّه قد نزل بنا من الأمر ما ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله حقّاً حقّاً ، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً (6).
قال : ووثب هلال بن نافع البجلي فقال : والله ما كرهنا ربّنا وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك.
وقام برير بن حضير فقال : والله يا ابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك فيقطع فيك أعضائنا ثمّ يكون جدّك شفيعاً يوم القيامة.
ولمّا قطع الحر الطريق عليهم قال له زهير بن القين : ( يا ابن رسول الله ) إنّ قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به ، فقال له الحسين : ما كنت لأبدأهم بالقتال ، فقال له زهير بن القين : سِر بنا إلى هذه القرية حتّى ننزلها فإنّها حصينة وهي على شاطئ الفرات فإن منعونا قاتلناهم ، فقال الحسين عليه السلام : فأيّة قرية هي ؟ قال : هي العقر.
وفي المناقب : قال زهير : فسر بنا حتّى ننزل بكربلاء فإنّها على شاطئ الفرات فنكون هنالك فإن قاتلونا قاتلناهم ، واستعنّا الله عليهم ، قال : فدمعت عين الحسين عليه السلام ثمّ قال : اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء ( ونزل الحسين في موضعه ) ... (7).
لعلّ الذي خوّفتنا في أمامنا |
يصادفه في أهل المتخوّف |
* * *
نحن بنو الموت فما بالنا |
نعاف ما لا بدّ من شربه |
|
تبخل أيدينا بأرواحنا |
على زمان وهي في كسبه |
|
فهذه الأرواح من حوّه |
وهذه الأجسام من تربه (8) |
|
ما بتو دل بستگان نه نفس پرستيم |
بندهٔ شاهيم ودلخوشيم که هستيم |
|
خار ملامت به پاى دل نخليديم |
تير بلاى تو بسينه شکستيم |
|
طاير قدسيم ز آشيانه رميده |
کوى تو را آشيانه ديديم نشستيم |
|
عارف عامى فکار فکر پريشند |
ما بغم تو ز دام غم هله هستيم |
الإلمام بالشعر العربيّة :
نحن رهنا القلب في حبّكم |
وما عبدنا النفس في حبّكم |
|
وعبدكم جذلان من أسره |
لا يبتغي الفكاك من أسركم |
|
لم نلم القلب على ودّه |
وفي الصدور انكسرت نبلكم |
|
طائر قدس نام عُشّه |
وسعده الغامر من سعدكم |
|
لمّا رأى الراحة في حيّكم |
طار ليبنى العشّ في حيّكم |
|
ما أجمل الوقوع في فخّكم |
لأنّ قدس الحقّ من قدسكم |
وتقدّم في ترجمة حبيب بن مظاهر عصر التاسع من المحرّم حين ختم حبيب كلامه بدأ زهير الحديث معهم لمّا ردّ عزرة بن قيس على حبيب قائلاً : إنّك تزكّي نفسك يا حبيب ، فقال : بل الله زكّاها وأنعم عليه بالهداية بلا شكّ أو شبهة ، اتّق الله يا عزرة إنّي لك ناصح مشفق ، وإنّي أُقسم بالله العظيم أنّك تعين الظالمين الضالّين وأهل الضلال وتقاتل النفوس الزكيّة.
فقال له عزرة بن قيس : ما عهدناك من شيعة أهل هذا البيت وإنّما كنت لعثمان شيعة ولحزبه متّبع.
فقال له زهير : ألا يدلّك موقفي هذا على موالاتهم ، والله ما كتبت إليه بالنصرة ولكن جمعني وإيّاه الطريق فذكرت مقامه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وقربه منه فرأيت نصرته فرضاً عليّ واجباً ليكون جدّه شفيعاً لي يوم القيامة ، وحفظت من وصيّة رسول الله فيه ما ضيّعتموه.
قال الرواي : فلمّا بلغوا هذا الحدّ عاد أبو الفضل يطلب منهم المهلة سواد الليلة فأتمر الجند فيما بينهم ثمّ رضوا بتأخير الحرب ليلة واحدة.
زهير وليلة عاشوراء
خطب الإمام الحسين أصحابه ليلة عاشوراء فقال بعد أن أثنى على الله أحسن الثناء : أحمده على السرّاء والضرّاء ، اللهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين.
أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، ألا وإنّي لأظنّ يوماً لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم بالانصراف فانطلقوا جميعاً أنتم في حلّ من بيعتي ، ليس عليكم حرج منّي ولا ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم فإنّهم لا يريدون غيري ( أنتم انجوا بأنفسكم فإنّ الليل ستّير ، والحرّ غير هجير ، والطريق لكم غير خطير ).
فقام زهير بن القين وقال : يا سيّدي ، والله لوددت أنّي قُتِلت ثمّ نُشِرت ثمّ قُتلت حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك (9).
وفي زيارة الناحية : « السلام على زهير بن القين البجلي ، القائل للحسين عليه السلام وقد أذن له في الانصراف : لا والله لا يكون ذلك أبداً ، أأترك ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله أسيراً في يد الأعداء وأنجو ، لا أراني الله ذلك اليوم أبداً » (10).
من قصيدة فاخرة للسيّد حيدر الحلّي :
بنفسي وآبائي نفوساً أبيّة |
يجرّعها كأس المنيّة مترف |
|
تطلّ بأسياف الضلال دمائهم |
وتلغى وصايا الله فيهم وتحذف |
|
وهم خير من تحت السماء بأسرهم |
وأكرم من فوق السماء وأشرف |
|
وهم يكشفون الخطب لا السيف في الـ |
ـوغى بأمضى شبا منهم ولا هو أرهف |
|
إذا هتف الداعي بهم يوم من دم |
الفوارس أفواه الضبا تترشّف |
|
أجابوا ببيض طائعاً يغضب القضا |
إلى حيث شائت ما يزال يصرف |
|
ومن تحتها الآجال تسري وقوفها |
لواء من النصر الإلهي يرفرف |
|
لهم سطوات تملأ الدهر دهشة |
وتنبثّ منها الشمّ والأرض ترجف |
|
عجبت لقوم ملأ أدراعهم ردّى |
وملأ ردائيهم تُقًى وتعفّف |
|
هُداة أجابوا داعي الله فانتهى |
بهم لقصور في ذُرى الشهد أشرف |
|
فأيّة نفس ليس تذهب حسرة |
عليهم وقلب بالأسى ليس يتلف .. (11) |
خطبة زهير وشهادته
قال أبو مخنف : فحدّثني عليّ بن حنظلة الشبامي ( وعلى هذا من المؤرخين وأبوه من شهداء كربلاء وقد مرّت ترجمته آنفاً ) عن رجل من قومه شهد مقتل الحسين حين قُتل يقال له : كثير بن عبدالله الشعبي ( وهو قاتل زهير عليه السلام ) قال : لمّا زحفنا قبل الحسين عليه السلام خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب ، شاك في السلاح ، فقال : يا أهل الكوفة ، نذار لكم من عذاب الله نذار ، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ونحن حتّى الآن إخوة ( و ) على دين واحد ، وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا أُمّة وأنتم أُمّة ( وكنتم أُمّة ) ، إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرّيّة نبيّه محمّد صلّى الله عليه وآله لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيدالله بن زياد ، فإنّكم لا تدركون منهما إلّا بسوء عمر سلطانهما كلّه ( إلّا السوء عمر سلطانهما كلّه ) ليسملان ( إنّهما يسملان ) أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثّلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النحل ، ويقتلان أماثلكم وقرّائكم أمثال حجر بن عدي ( الكندري ـ كذا ) وأصحابه ، وهاني بن عروة وأشباهه.
قال : فسبّوه وأثنوا على عبيدالله بن زياد ودعوا له ( على عبيدالله وأبيه ) وقالوا : والله نبرح حتّى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيدالله سلماً.
فقال لهم ( زهير ) : عباد الله ، إنّ ولد فاطمة رضوان الله عليها أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة ، فإن لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم فخلّوا بين الرجل وبين ابن عمّه يزيد فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين ( فخلّوا بينه وبين يزيد فلعمري إنّه ليرضى من طاغيتكم ).
قال فرماه شمر لعنه الله بسهم وقال ( له ) : اسكت أسكت الله نأمتك ( فقد ) أبرمتنا بكثرة كلامك.
فقال له زهير : يا ابن البوّال على عقبيه ، ما إيّاك أُخاطب ( ما أنا أُخاطبك ) إنّما أنت بهيمة ، والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.
فقال له شمر : إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.
قال ( زهير ) : أفبالموت تخوّفني ؟! فوالله إنّ الموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم. قال : ثمّ أقبل ( فأقبل ) على الناس رافعاً صوته ( وصاح بهم ) فقال : عباد الله ، لا يغرّنّكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه ، فوالله لا تنال شفاعة محمّد قوماً أهراقوا ( أهرقوا ) دماء ذرّيّته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حرمهم.
قال : فناداه رجل فقال له : إنّ عبدالله يقول لك : أقبل فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ (12).
ولمّا رأى عمرو بن الحجّاج الزبيدي أنّ كلّ رجل من أصحابه كلّما خرج إلى الميدان وقع فريسة لسيوف الأُسود الهائجة رفع عقيرته وصاح مغضباً : يا حمقى ، أتدرون من تقاتلون ؟ إنّكم تقاتلون من ارتضعوا دَرّ الشجاعة ، وشربوا الماء من شفار السيوف ، احملوا عليهم حملة رجل واحد وقاتلوهم ولئن كانوا على قلّة عددهم وكثرة عددكم وقوّة المدد لكم يقتلون منكم هذه المقتلة ويعرضونكم للإبادة فعليكم أن تحموا الجيش على قتالهم وتحملوه على قتلهم ، فلو رميتموهم بالحجارة لأتيتم على آخرهم.
ولمّا سمع ابن سعد قوله قال : هذا هو الرأي الصحيح الراجح ، ثمّ حمل عمرو بن الحجّاج من ناحية الفرات على ميمنة أصحاب الحسين ، وحمل الشمر على الميسرة وتتابعت الحملات ، وحمي الوطيس ، واستحرّ القتل فيهم ، وفتحت أفاعي الموت أشداقها ، وصرّ ذئب الأجل أسنانه ، وقامت الحرب على قدم وساق ، وفتح الأجل ذراعيه لاستقبال أرواح المقاتلين ، وكان أصحاب الحسين يتهافتون على المنيّة ولا تهافت العرّيس على حجلة الزفاف كأنّهم الأُسود الضارية هاجت على فرائسها ، وأغار الفرسان كأنّهم الرجوم هوت على شياطين ، وشتّت شمل جيش ابن سعد ذات اليمين وذات الشمال.
فأُصيب ابن سعد من هذا الوضع بالذهول فاستدعى الحصين بن نمير فأمره بتقديم خمسمائة من الرّماة ليرشقوا أصحاب الحسين عليه السلام بالنبل ، وحمل شمر بن ذي الجوشن كالذئب الجائع على سلالة أسد الله وخلاصة عالم الإمكان ، فاستقبلهم أصحابه عليه السلام على قلّة عددهم كالسيل المنحدر والنمر الشرس ، وهجموا عليهم وكلّ واحد منهم كأنّه القضاء الجاري من السماء ، والبلاء المفاجئ ، وصنعوا من القتلى سدوداً يحمون بهم ظهورهم ولكن لا يبيّن فيهم النقص لكثرتهم ، أمّا أصحاب الإمام فقتل الواحد منهم يظهر النقص فيهم لقلّتهم وتقدّم العدوّ في ساحة الحرب حتّى بلغوا طنب الخيام فارتفعت صيحة النساء والأطفال ، فصاح شبث بن ربعي بعمر بن سعد : ثكلتك أُمّك يابن سعد ، ماذا تبغي بإرعاب هؤلاء الصبية ؟! فكأنه استحيا ـ ولا حياء له ـ فأمر جيشه بالتقهقر والتأخّر ، فقتل في هذه الحملة خمسون من أصحاب الحسين عليه وعليهم السلام.
ولمّا صكّت مسامع زهير استغاثة النساء والأطفال فارقه الصبر واستولت عليه الدهشة فحمل عليهم كالصاعقة المتأجّجة بلظى الجحيم ، حتّى ردّهم على أعقابهم خاسئين ، عند ذلك صاح الشمر لعنه الله : عليَّ بالنار لأحرق خيام الظالمين ، فصاح به الحسين عليه السلام : يا ابن ذي الجوشن ، أنت تطلب النار لتحرق بيوتي على أهلي ، أحرقك الله بنار جهنّم.
فسمع زهير نعرات الشمر فحمل على شمر وأصحابه كالليث الغضبان وسرعان ما ألحق أبا عزرة الضبابي ـ وهو من أعضاد شمر وأقربائه ـ بجهنّم الأبديّة ، وحمل زهير مع الحرّ على الأعداء وقاتلا قتال الوالهين إلى مرضاة ربّ العالمين فكانا إذا حمل أحدهما على الأعداء وغاص في أوساطهم والتحم بالعدوّ حمى الآخر ظهره ثمّ حمل عليهم ليستنقذه ، فامتدّ القتل ساعة من الدهر على هذا الشكل إلى أن استشهد الحرّ ابن يزيد الرياحي فحمل عليهم زهير كأنّه التنّين الصائل أو الشهاب الحارق ، وقلب الميمنة على الميسرة ، وحمي أتون الحرب فقال مرتجزاً :
أنا زهير وأنا ابن القين |
وفي يميني مرهف الحدّين |
|
أذودكم بالسيف عن حسين |
إنّ حسيناً أحد السبطين |
|
ابن عليّ طاهر الجدّين |
من عترة البرّ التقي الزّين (13) |
|
ذاك رسول الله غير المين |
وعن إمام صادق اليقين |
|
يا ليت نفسي قسمت قسمين (14) |
أضربكم محامياً عن ديني |
|
أضربكم ولا أرى من شين |
أضربكم ضرب غلام زين (15) |
وحمل عليهم كالصاعقة النارية بعد أن أتمّ رجزه وغاص في أوساطهم ، وقلب الميمنة على الميسرة حتّى قتل منهم مقتلة عظيمة.
وفي رواية محمّد بن أبي طالب المذكورة في البحار : كان عدد القتلى مائة وعشرين رجلاً من صناديد الكوفة (16).
وفي رواية أبي مخنف أنّ شهادة زهير كانت بعد شهادة حبيب بن مظاهر ، ولمّا استشهد حبيب بان الانكسار في وجه الحسين عليه السلام ، فقال له زهير : بأبي أنت وأُمّي ، ما هذا الانكسار الذي أراه في وجهك ؟ ألست تعلم أنّا على الحقّ ؟! قال : بلى والله أنّي لأعلم علماً يقيناً أنّي وإيّاكم على الحقّ والهدى ، فقال زهير : إذاً لا نبالي نحن نصير إلى الجنّة ونعيمها (17) عند ذلك ودّع زهير الحسين بأُرجوزة وسار نحو ميدان القتال :
فدتك نفسي هادياً مهديا |
اليوم تلقى جدّك النبيّا |
|
وحسناً والمرتضى عليّا |
وذا الجناحين الشهيد الحيّا |
|
وفاطم الطاهرة الزكيّا |
ومن مضى من قبلنا تقيّا |
وهجم ثانية كالصرصر العاصف على جيش العدوّ المخالف ، وقاتل قتال الوالهين إلى مرضاة ربّ العالمين ، وبينما هو يقاتل إذ بصر به عبدالله الشعبي والمهاجر بن أوس التميمي وكانا في شغل به ، فحانت منه فرصة فطعنه أحدهما بالرمح وضربه الآخر بالسيف ، فخرّ صريعاً إلى الأرض ، ولمّا علم الحسين عليه السلام بشهادته قال : لا يبعدك الله يا زهير ، ولعن الله قاتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير.
رفت با ايمان کامل زين جهان |
در رياضِ قربِ حق کردى مکان |
|
لقي الله كامل الإيمان |
وتبوّأ بالقرب خير مكان |
الهوامش
1. قين ـ بفتح القاف وسكون الياء ـ في الأصل اسم للعبد وللحداد ، والأنماري نسبة إلى أنمار بن أراش من كهلان من القحطانيّة لا أنمار بن نزار بقرينة البجلي فإنّه نسبة إلى بجيلة على وزن نخيلة وهم بطن من أنمار بن أراش ، وبجيلة اسم أمهم.
وقال في العِبر : هم بنو بجيلة بن أنمار بن أراش ، وكان زهير بن القين رجلاً شريفاً في قومه نازلاً فيهم بالكوفة شجاعاً ، له في المغازي مواقف مشهورة ومواطن مشهودة ، وكان أوّلاً عثمانيّاً فحجّ سنة ستّين مع أهله ثمّ عاد من الحجّ فوافق الحسين في الطريق ومال إليه واستشهد بين يديه رضي الله عنه.
2. بفتحين وسكون النون وجيم مفتوحة وراء كغضنفر مدينة ببلاد الخزر خلف « باب الأبواب » ( بلنجر أيضاً اسم لمدينة قرب بادكوبه ) فتحت من زمن عثمان بن عفّان في سنة 32 من الهجرة على يد عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ، وقال البلاذري : على يد سلمان بن ربيعة الباهلي قبل عبد الرحمن ، ودفن في بلنجر ثمّ أخذ الراية أخوه سلمان بن ربيعة فلم يزل يقاتل إلى أن فتح الله على يديه ثمّ سار بجيشه خلف بلنجر فقُتل في تلك الواقعة أربعة آلاف من المسلمين ، وقتل سلمان بن ربيعة في قصّة طويلة. وكان زهير بن القين في تلك الحروف رضي الله تعالى عنه غير أنّه لم يكن مع عليّ بن أبي طالب في حروبه الثلاثة وكان عثمانيّاً ، إنّما الأُمور خواتيمها ، فختم الله له بالشهادة رضي الله تعالى عنه. ( منه )
3. داخل الرواية الدرّ النظيم كلام ليس منه ونحن ميّزنا روايته بوضع أقواس صغيرة لحصر كلام الدرّ النظيم بينها ـ المترجم. راجع الدرّ النظيم ، ص 548 ؛ وعزاه إلى الإرشاد ، ج 1 ص 221.
4. لم أعثر عليها في موضعها من كتاب الفتوح ولم يعزها المؤلّف إلى كتاب غيره.
5. عبارة القمقام كما يلي : وقيل : رافقته المرأة إلى كربلاء ولم تفارقه حتّى استشهد. ( قمقام زخّار ، ترجمة وتحقيق محمّد شعاع فاخر ، ج 1 ص 474 ط الشريف الرضي ـ قم ).
6. هذه الخطبة وردت في ج 44 ص 381 وليس فيها ذكر لذى حسم ، نعم ذكر ملجأ اسمه ذو جشم نقلاً عن كتاب اللهوف ص 69 و 70 وذلك في لقائه عليه السلام مع الحر.
7. بحار الأنوار ، ج 44 ص 381 نقلاً عن المناقب.
8. هذه الأبيات الثلاثة من شعر المتنبّي ذكرها في أعيان الشيعة ، ج 2 ص 538 وأوّلها :
لا بدّ للإنسان من ضجعة |
لا تقلب المضجع عن جنبه |
.. الخ.
9. ذكر البحار شطراً من ذلك ج 44 ص 393 ومثله العوالم ، ص 243 ؛ لواعج الأشجان ، ص 118 ؛ موسوعة كلمات الحسين ، ص 479 ، ولم أعثر على سياق المؤلّف فيها ولا في غيرها وأحسب الزيادة التي وضعتها بين قوسين مقحمة في النصّ وليست منه.
10. إقبال السيّد ابن طاووس عن الشيخ الصالح أبي منصور بن عبدالمنعم بن النعمان البغدادي رحمه الله ، قال : خرج من الناحية سنة اثنتين وخمسين ومائتين ... راجع العوالم ، ص 327.
11. من قصيدة له أوّلها :
على كلّ واد دمع عينيك ينزف |
وما كلّ واد جُزت فيه المعرّف |
الدرّ النضيد ، ص 218.
12. مقتل أبي مخنف ، ص 119 وكان المؤلّف قد وضع النصّ العربي في الهامش وفيه زيادات عمّا في المقتل وضعناها بين قوسين كما أنّ الترجمة إلى الفارسيّة تخلّلتها كلمات هي من مقوّمات النثر الفارسي ولكنّها مفسدة للنثر العربي مثل : وعاد زهير للكلام مرّة أُخرى كالبحر المائج الخ ، وهذا القول يحسن من المترجم أن يأتي به لا ناقل النصّ.
13. المناقب ، ج 3 ص 253 باستثناء أشطر ؛ الأمالي ، ص 224 ؛ روضة الواعظين وفيهما « أذبّكم بالسيف ».
14. بحار الأنوار ، ج 45 ص 25 ؛ العوالم ، ص 269.
15. يعزى شطران منها إلى أبي الفضل ، مناقب ابن شهر آشوب ، ج 3 ص 256.
16. بحار الأنوار ، ج 45 ص 25.
17. راجع مقتل أبي مخنف الأزدي ص 147 ، وفي تذكرة ابن الجوزي أنّ زوجة زهير قالت لغلام له : اذهب فكفّن مولاك ، فذهب فرأى الحسين مجرّداً ، فقال : أُكفّن مولاي وأدع الحسين ، لا والله ، فكفّنه ثمّ كفّن مولاه في كفن آخر. ( سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواصّ ، ص 320 ).
مقتبس من كتاب : فرسان الهيجاء / المجلّد : 1 / الصفحة : 191 ـ 202
التعلیقات