كيف يأخذ السمّ الإمام الحسن عليه السلام وهو معصوم عندما قدّمت له عليه السلام جعدة ؟ كيف يرمي نفسه إلى التهلكة وهو إمام معصوم ، وهو يعلم بساعة وفاته ويعلم أنه سيقدّم له السم ؟
كان الأئمّة عليهم السلام يعلمون بتعليم من الله ورسوله صلّى الله عليه وآله بوقت شهادتهم وكيفيّتها ، لكن ليس في اقدامهم على الشهادة إعانة على ازهاق أنفسهم وإلقائها في التهلكة الممنوع عنه بنصّ الذّكر المجيد (1).
فان الإبقاء على النفس والحذر عن إيرادها مورد الهلكة انّما يجب شرعاً اذا كان مقدوراً لصاحبها او لم يقابل بمصلحة أهمّ من حفظها. (2)
وامّا اذا وجدت هناك مصلحة أهمّ من حفظ النفس كما في الجهاد والدفاع ، فليس الإلقاء في الهلكة حراماً بل الشارع المقدّس يأمر بالإلقاء في التهلكة.
وقد أمر الله تعالى الأنبياء والمرسلين والمؤمنين بالجهاد (3) ، فمشوا إليه موطنين أنفسهم على القتل ، وكم فيهم سعداء وكم من نبي قتل في سبيل دعوته (4) ، بل قد أمر الله تعالى قوم موسى بإلقاء أنفسهم في التهلكة ، فقال عزّ وجل : ( فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) (5).
فلم يكن اقدام الأئمة عليهم السلام على القتل أو تناول السموم جهلاً منهم بما صنعه حكّام الجور بل هم على يقين من ذلك. وانّما تناولوا السمّ مثلاً لأن الله تعالى أمرهم في ذلك الوقت بالاقدام على ذلك. ولذا نرى أنّ الامام الحسن عليه السلام يستشفى بتربة جدّه تارة ويعمل بقول الطبيب تارة أُخرى ويأخذ بقول أهل التجربة ثالثةً ، مع علمه بأن ذلك المرض لا يقضي عليه.
وللأجل حدّ معلوم ولكنّه أراد إرشاد الناس إلى أنّ مكافحة العلل تكون بالاسباب العادية فلا غناء عنها ، لكنّه لما حان الأجل المحتوم لم يعمل شيئاً تسليماً للقضاء وإطاعة للأمر الإلهي ، فلمّا قدّمت إليه جعدة بنت الأشعث اللبن المسموم وكان الوقت حاراً والامام صائماً ، فرفع رأسه إلى السماء قائلاً إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، الحمد لله على لقاء محمد سيّد المرسلين وأبي سيّد الوصيين وأمّي سيّدة نساء العالمين وعمّي جعفر الطيّار في الجنّة وحمزة سيّد الشهداء ، ثمّ شرب اللبن وقال لها لقد غرّك وسخر منك فالله يخزيك ويخزيه ، وهي تضطرب كالسعفة (6).
ولعلّ المصلحة التي كانت أهمّ من حفظ النفس هي ما أشار إليها الإمام عليه السلام بقوله « ويخزيه » حيث ان وفاة الامام وشهادته بالسمّ الذي دسّه إليه معاوية بواسطة زوجته جعدة أظهرت خبث معاوية ودجله وكفره الباطني مع أن كان يظهر للناس التزامه بالدين والاخلاق وقد اغترّ به الكثير من المسلمين.
الهوامش
1. البقرة : 195 :
( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )
2. منها :
التوبة : 11 :
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
الصف : 4 :
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
البقرة : 193 :
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ
3. منها :
التحريم : 9 :
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
البقرة : 193 :
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ
4. منها :
آل عمران : 46 :
وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
البقرة : 61 :
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ
5. البقرة : 54.
6. مقتل الحسين عليه السلام « لعبد الرزاق المقرم » / الصفحة : 58 / الناشر : مؤسسة الخرسان للمطبوعات :
وعلى هذا كان الإمام المجتبى الحسن بن أمير المؤمنين عليه السلام يستشفي بتربة جده تارة ويعمل بقول الطبيب أُخرى ويأخذ بقول أهل التجربة ثالثة مع علمه بأن ذلك المرض لا يقضي عليه وللأجل حد معلوم ولكنه أراد ارشاد الناس إلى أن مكافحة العلل تكون بالأسباب العادية فلا غناء عنها حتى يساير هذه الأسباب العادية لكنه لما حان الأجل المحتوم لم يعمل كل شيء تسليماً للقضاء وذلك عندما قدمت إليه جعدة بنت الأشعث اللبن المسموم وكان الوقت حاراً والحسن صائما فرفع رأسه إلى السماء قائلاً : إنا لله وإنا إليه راجعون الحمد لله على لقاء محمد سيد المرسلين وأبي سيد الوصيين وأمي سيدة نساء العالمين وعمي جعفر الطيار في الجنة وحمزة سيد الشهداء ثم شرب اللبن وقال لها : لقد غرك وسخر منك فالله يخزيك ويخزيه وهي تضطرب كالسعفة.
التعلیقات
١