الخراساني والرايات السود ورايات خراسان
الشيخ علي الكوراني
منذ 14 سنةحديث أهل المشرق والرايات السود
وقد ورد في مصادر الشيعة والسنة ، ويعرف أيضاً بحديث الرايات السود ، وحديث أهل المشرق ، وحديث مايلقى أهل بيته صلى الله عليه وآله بعده. وقد روته المصادر المختلفة عن صحابة متعددين ، مع فروق في بعض الألفاظ والفقرات ، ونص عدد من العلماء على أن رجاله ثقات.
ومن أقدم المصادر السنية التي روته أو روت قسماً منه ابن ماجة في سننه : 2/518 و 269 ، والحاكم : 4/464 و 553 ، وابن حماد في مخطوطته الفتن ص 84 و 85 ، وابن أبي شيبة في مصنفه : 15/235 ، والدارمي في سننه ص 93 ، ثم رواه عنهم أكثر المتأخرين.
ولعل الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة وغيرهم : ( يخرج ناس من المشرق يوطؤون للمهدي سلطانه ) جزء منه.
وهذا نص الحديث من مستدرك الحاكم :
( عن عبد الله بن مسعود قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله فخرج إلينا مستبشرا يعرف السرور في وجهه ، فما سألناه عن شئ إلا أخبرنا به ، ولا سكتنا إلا ابتدأنا ، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين ، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه! فقلنا يا رسول الله ، ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه! فقال :
إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد ، حتى ترتفع رايات سود في المشرق فيسألون الحق فلا يعطونه ، ثم يسألونه فلا يعطونه ، فيقاتلون فينصرون! فمن أدركه منكم ومن أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبوا على الثلج ، فإنها رايات هدى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، فيملك الأرض ، فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ). انتهى.
أما من مصادرنا الشيعية فقد رواه ابن طاووس في الملاحم والفتن ص 30 و 117 ، ورواه المجلسي في البحار : 51/83 عن أربعين الحافظ أبي نعيم ، الحديث السابع والعشرين في مجيئه ـ أي المهدي عليه السلام ـ من قبل المشرق. وروى شبيهاً به في : 52/243 عن الإمام الباقر عليه السلام قال : ( كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلايعطونه ، ثم يطلبونه فلايعطونه. فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم. فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يقوموا. ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم ( أي المهدي عليه السلام ) قتلاهم شهداء. أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر ).
ويستفاد من هذا الحديث بصيغة المختلفة عدة أمور.
الأول : أنه متواتر بمعناه إجمالاً ، بمعنى أنه روي عن صحابة متعددين بطرق متعددة بحيث يعلم أن هذا المضمون قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعمدة مضمونه : إخباره صلى الله عليه وآله بمظلومية أهل بيته عليهم السلام من بعده ، وأن إنصاف الأمة لهم يكون على يد قوم من المشرق يمهدون لدولة مهديهم عليهم السلام ، وأنه يظهر على أثر قيام دولة لهؤلاء القوم فيسلمونه رايتهم ويظهر الله به الإسلام على العالم ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
الثاني : أن المقصود بقوم من المشرق وأصحاب الرايات السود : الإيرانيون ، وهو أمر متسالم عليه عند جيل الصحابة الذين رووا الحديث الشريف وغيره فيهم ، وعند جيل التابعين الذين تلقوه منهم ، ومن بعدهم من المؤلفين عبر العصور ، بحيث تجده عندهم أمراً مفروغاً عنه ، ولم يذكر أحد منهم حتى بنحو الشذوذ أن المقصود بهؤلاء القوم وبهذه الرايات أهل تركيا الفعلية مثلاً ، أو أفغانستان ، أو الهند ، أو غيرها من البلاد. بل نص عدد من أئمة الحديث والمؤلفين على أنهم الإيرانيون. بل ورد اسم الخراسانيين في عدة صيغ أو فقرات رويت من الحديث ، كما سيأتي في حديث رايات خراسان.
الثالث : أن حركتهم تواجه عداء من العالم وحرباً ، وأنها تكون خروجاً على حاكمهم ثم قياماً قرب ظهور المهدي عليه السلام.
الرابع : أن نصرتهم فريضة على كل مسلم من الجيل الذي يعاصرهم ، مهما كانت ظروفه صعبة ، حتى لو أتاهم حبواً على الثلج.
الخامس : أن الحديث من أخبار المغيبات والمستقبل ، وإحدى معجزات النبي صلى الله عليه وآله الدالة على نبوته ، حيث تحقق ما أخبر به صلى الله عليه وآله من مظلومية أهل بيته عليهم السلام وتشريدهم في البلاد على مدى العصور ، حتى وصلوا الى أربع جهات العالم فلا نجد أسرة في العالم جرى عليهم من الإضطهاد والتشريد والتطريد مثل أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله من أبناء علي وفاطمة عليهم السلام.
هذا ، وقد تضمنت صيغة الحديث المتقدمة عن الإمام الباقر عليه السلام وصفاً دقيقاً لحركتهم ، والمرجح عندي أنه يتعلق بحديث النبي صلى الله عليه وآله المذكور. ( كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق ) يدل على أن هذا الحدث من وعد الله المقدر المحتوم ، وهو ما يعبر عنه النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بـ ( كأني بالشئ الفلاني أو الأمر الفلاني قد حدث ) فهو يدل على حتميته ووضوحه في أذهانهم ، ويقينهم به حتى كأنهم يرونه.
بل يدل على رؤيتهم له بالبصيرة التي خصهم الله بها ، المتناسبة مع مقام النبي صلى الله عليه وآله ومقام أهل بيته عليهم السلام.
كما يدل على أن حركة الإيرانيين هذه تكون عن طريق الثورة ، لأنه المفهوم من قوله ( قد خرجوا ) أي ثاروا.
( يطلبون الحق فلا يعطونه ، ثم يطلبونه فلا يعطونه. فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، فيعطون ماسألوا فلايقبلون حتى يقوموا ولايدفعونها إلا إلى صاحبكم ).
وهذا التسلسل في حركتهم يعني أنهم ( يطلبون الحق ) من أعدائهم أي الدول الكبرى ، وهو أن لايتدخلوا في شؤونهم ويتركوهم مستقلين عن دائرة نفوذهم فلا يعطونهم ذلك ، حتى يضطروهم إلى أن يضعوا سيوفهم على عواتقهم أي إلى الحرب فيحاربون وينتصرون ، فيعطيهم أعداؤهم ما سألوا أول الأمر فلايقبلون ذلك ، لأنه يصير أمراً متأخراً بعد فوات الأوان وتغير الظروف.
( حتى يقوموا ) حيث تبدأ ثورتهم الجديدة المتصلة بظهور المهدي عليه السلام الى أن يظهر فيسلمونه الراية.
وقد ذكرت إحدى روايات الحديث أنهم يقاتلون بعد رفض مطالبهم الأولى ، وينتصرون فيها ، كالحديث المروي في البحار : 51/83 : ( فيسألون الحق فلايعطونه فيقاتلون وينصرون ، فيعطون ما سألوا فلايقبلون .. الخ. ).
وينبغي الإشارة الى أن تكرار قوله عليه السلام : ( يطلبون الحق فلايعطونه ) يدل أن مطالبتهم به تكون على مرحلتين قبل الحرب وبعد الحرب ، وأن ثورتهم الشاملة ( حتى يقوموا ) تكون قرب ظهور المهدي عليه السلام.
وتعبيره عليه السلام عن بداية حركتهم بالخروج ، وعن حركتهم المتصلة بالظهور بقوله عليه السلام ( حتى يقوموا ) ، يدل على أن هذا القيام أعظم من خروجهم وثورتهم أول الأمر.
ويدل على أنه مرحلة نضج وتطور لهذه الثورة يصل فيها الإيرانيون إلى مرحلة النفير العام والقيام لله تعالى تمهيداً لظهور المهدي عليه السلام.
وقد يفهم من التعبير بـ ( حتى يقوموا ) وليس ( فيقوموا ) مثلاً أنه يوجد فاصل زمني بين إعطائهم مطالبهم وبين قيامهم الكبير ، أو على وجود مرحلة من التأمل والتردد عندهم ، بسبب وجود اتجاه في داخلهم يريد القبول بما كانوا يطالبون به فقط ، أو بسبب الظروف الخارجية التي تحيط بهم ، ولكن الاتجاه الآخر يغلب فيقومون من جديد قياماً شاملاً يتحقق فيه التمهيد للمهدي عليه السلام.
( قتلاهم شهداء ) هذه شهادة عظيمة من الإمام الباقر عليه السلام لمن يقتل في حركتهم سواء في خروجهم أو حروبهم أو قيامهم الكبير الأخير ..
وقد يقال إن شهادة الإمام الباقر عليه السلام بأن ( قتلاهم شهداء ) إنما تدل على صحة نية مقاتليهم ومظلوميتهم ، ولكنها لاتدل على صحة نية قادتهم وخطهم.
ولكن حتى لو سلمنا ذلك جدلاً ، وتجاوزنا قاعدة صحة عمل المسلم ونيته ، فإن مثل هذا التفسير لايغير من الموقف شيئاً.
( أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر ) يخبر بذلك عن نفسه عليه السلام أنه لو أدرك حركتهم لحافظ على نفسه أن يقتل وإن كان قتلاهم شهداء ، لأجل أن يبقي نفسه إلى ظهور المهدي عليه السلام ونصرته. وفي ذلك دلالة على المقام العظيم للإمام المهدي عليه السلام ومن يكون معه ، بحيث يحرص على ذلك الإمام الباقر ، وهو تواضع عظيم أيضاً منه لولده المهدي الموعود عليهما السلام.
وفيه دلالة أيضاً على أن مدة حركة الإيرانيين إلى ظهور المهدي عليه السلام لاتزيد عن عمر انسان ، لأن ظاهر كلام الباقر عليه السلام أنه لو أدرك حركتهم لأبقى نفسه لنصرة المهدي عليه السلام بالأسباب الطبيعية ، وليس بالأسباب الإعجازية ، وهي دلالة مهمة على دخولنا في عصر الظهور واتصال حركتهم به ، وقربها منه.
ومن طريف ما سمعته من التعليق على حديث رايات المشرق وقوله صلى الله عليه وآله : ( فليأتهم ولو حبواً على الثلج ) أن أحد كبار علماء تونس وهو عالم جليل متقدم في السن لانريد الإضرار به بذكر اسمه حفظه الله ، زار إيران في فصل الشتاء والثلج ، وبينما كان خارجاً من الفندق زلقت قدمه فوقع على الثلج. قال صاحبه : بادرت لأنهضه فقال لي : لاتفعل ، إصبر ، أريد أن أنهض أنا بنفسي! ونهض على يديه ببطء ، حتى إذا استوى واقفاً قال : كنا عندما نقرأ هذا الحديث عن المهدي وأنصاره ونصل إلى قوله صلى الله عليه وآله : ( فليأتهم ولو حبواً على الثلج ) نتساءل : إن المهدي يخرج من الحجاز وأين الثلج في الحجاز أو الجزيرة حتى يأمرنا النبي صلى الله عليه وآله بهذا التعبير؟ والآن عرفت معنى قوله صلى الله عليه وآله فأردت ألمس الثلج وأنهض عنه بنفسي!
رواه عدد من علماء السنة كالترمذي : 3/362 وأحمد في مسنده ، وابن كثير في نهايته ، والبيهقي في دلائله ، وغيرهم. وصححه ابن الصديق المغربي في رسالته في الرد على ابن خلدون. ونصه : ( تخرج من خراسان رايات سود فلا يردها شئ حتى تنصب بإيلياء ).
وروت شبيهاً به مصادرنا كالملاحم والفتن لابن طاووس ص 43 و 58 ويحتمل أن يكون جزء من الحديث المتقدم.
ومعناه واضح ، فهو يتحدث عن حركة عسكرية وجيش يزحف من إيران نحو القدس التي تسمى إيلياء وبيت إيل.
قال في مجمع البحرين : ( إيل بالكسر فالسكون ، اسم من أسمائه تعالى ، عبراني أو سرياني. وقولهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بمنزلة عبد الله وتيم الله ونحوهما. وإيل هو البيت المقدس. وقيل بيت الله لأن إيل بالعبرانية الله ).
وقال صاحب شرح القاموس : ( إيلياء بالكسر ، يمد ويقصر ، ويشدد فيهما. اسم مدينة القدس ).
وقد نص علماء الحديث على أن هذه الرايات الموعودة ليست رايات العباسيين. قال ابن كثير في النهاية تعليقاً على هذا الحديث : ( هذه الرايات ليست هي التي أقبل بها أبو مسلم فاستلب بها دولة بني أمية. بل رايات سود أخرى تأتي صحبة المهدي ). ( فيض القدير : 1/466 ، ولم أجده في طبعة ابن كثير الفعلية ).
بل وردت عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله تميز بين رايات العباسيين التي هدفها دمشق ، وبين رايات أصحاب المهدي عليه السلام التي هدفها القدس ، منها ما رواه ابن حماد في مخطوطته ص 84 و 85 وغيرها ، عن محمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله : تخرج من المشرق رايات سود لبني العباس فتمكث ما شاء الله ، ثم تخرج رايات سود صغار تقاتل رجلا من ولد أبي سفيان وأصحابه ، من قبل المشرق ، يؤدون الطاعة للمهدي ).
وقد حاول بنو العباس استغلال أحاديث الرايات السود في ثورتهم على الأمويين ، وعملوا لإقناع الناس بأن حركتهم ودولتهم وراياتهم مبشر بها من النبي صلى الله عليه وآله وأن المهدي الموعود عليه السلام منهم ، وقد سمى المنصور ولده المهدي ، وأشهد القضاة والرواة على أن أوصاف المهدي الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله تنطبق عليه .. الخ. وللعباسيين قصص في ادعائهم المهدية واتخاذهم الرايات السود والثياب السود ، وهي مشهورة مدونة في كتب التاريخ.
وقد يكون ذلك نفعهم في أول الأمر ، ولكن سرعان ما كشف زيفه الأئمة من أهل البيت عليهم السلام والعلماء ورواة الحديث ، ثم كشف زيفه الواقع حيث لم يكن أحد منهم بصفات المهدي الموعود عليه السلام ، ولا تحقق على يده ما وعد به النبي صلى الله عليه وآله ، ولا ملأ أحد منهم حتى قصره عدلاً!
بل تذكر الروايات أن الخلفاء العباسيين المتأخرين قد اعترفوا بأن قضية ادعاء آبائهم للمهدية كانت من أصلها مجعولة ومكذوبة.
ويبدو أن ادعاء المهدية كان أشبه بالموجة في أواخر القرن الأول الهجري ، حيث رزح المسلمون تحت وطأة التسلط الأموي ، ولمسوا ظلامة أهل البيت عليهم السلام فانتشر بينهم تداول أحاديث النبي صلى الله عليه وآله عن ظلامة أهل بيته الطاهرين عليهم السلام والبشارة بمهديهم. فكان ذلك أرضية لادعاء المهدية لعديدين من بني هاشم ، وحتى من غيرهم أيضاً مثل موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي.
ويبدو أن عبد الله بن الحسن المثنى كان أبرع من ادعاها لولده محمد ، فقد خطط لذلك منذ طفولة ابنه فسماه محمداً لأن المهدي عليه السلام على اسم النبي صلى الله عليه وآله ، ثم رباه تربية خاصة ، وحجبه عن الناس وأشاع حوله الأساطير وأنه هو المهدي.
قال في مقاتل الطالبيين ص 239 : ( لم يزل عبد الله بن الحسن منذ كان صبياً يتوارى ويراسل الناس بالدعوة إلى نفسه ويسمى بالمهدي )!!
وقال في ص 244 : ( لهجت العوام بمحمد تسميه بالمهدي )!
بل كان العباسيون أيضاً يروجون لهذا الإدعاء قبل أن ينقلبوا على حلفائهم الحسنيين! فقد روى المصدر في ص 239 عن عمير بن الفضل الخثعمي قال : ( رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود وأبو جعفر ينتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد ، فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداً : من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه وسويت عليه ثيابه؟ قال : أو ما تعرفه؟! قلت : لا. قال : هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، مهدينا أهل البيت )!.
وأكثر الظن أن العباسيين تعلموا ادعاء المهدية من هؤلاء الحسنيين حلفائهم وشركائهم في الثورة على الأمويين. وليس هذا موضع التفصيل.
على أي حال ، لا شك عند أهل العلم بالحديث والإطلاع على التاريخ ، في أن الرايات السود الموعودة في هذا الحديث الشريف وغيره هي الرايات الممهدة للمهدي عليه السلام ، وهي غير رايات بني العباس حتى لو فرضنا صحة الروايات التي تخبر برايات بني العباس أيضاً ، لما عرفت من وجود أحاديث تميز بينهما ، ولشهادة الواقع وعدم انطباقها على مهدي العباسيين وغيرهم ، وقد أشرنا من أن هدف رايات العباسيين دمشق ، وهدف رايات أنصار المهدي عليه السلام القدس.
وبالرغم من اختصار هذا الحديث الشريف في الرايات السود ، إلا أن فيه بشارة بوصولها إلى هدفها ، مهما كانت العقبات التي تعترض طريقها إلى القدس.
أما زمن هذا الحدث فغير مذكور في هذه الرواية ، ولكن تذكر روايات أخرى أن قائد هذه الرايات يكون صالح بن شعيب الموعود ، كما في مخطوطة ابن حماد ص 84 عن محمد بن الحنفية قال : ( تخرج رايات سود لبني العباس ، ثم تخرج من خراسان أخرى قلانسهم سود وثيابهم بيض ، على مقدمتهم رجل يقال له صالح من تميم ، يهزمون أصحاب السفياني ، حتى ينزل ببيت المقدس فيوطئ للمهدي سلطانه ).
ويبدو أن المقصود بها في هذه الرواية حملة الإمام المهدي عليه السلام لتحرير فلسطين والقدس ، ويحتمل أن تكون بدايتها قبل ظهوره عليه السلام.
وقد وردت له رواية في مصادر السنة عن علي عليه السلام ، كما في الحاوي للسيوطي : 2/82 وكنز العمال : 7/262 تقول : ( ويحاً للطالقان ، فإن الله عزوجل بها كنوزاً ليست من ذهب ولا فضة ، ولكنَّ بها رجالاً عرفوا الله حق معرفته. وهم أنصار المهدي آخر الزمان ).
وفي رواية ينابيع المودة للقندوزي ص 449 : ( بخ بخ للطالقان ).
وورد في مصادرنا الشيعية بلفظ آخر كما في البحار : 52/307 عن كتاب سرور أهل الإيمان لعلي بن عبد الحميد بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام قال : ( له كنز بالطالقان ما هو بذهب ولا فضة ، وراية لم تنشر مذ طويت ، ورجال كأن قلوبهم زبر الحديد ، لايشوبها شك في ذات الله ، أشد من الجمر ، لو حملوا على الجبال لأزالوها لايقصدون براياتهم بلدة إلا خربوها ، كأن على خيولهم العقبان ، يتمسحون بسرج الإمام يطلبون بذلك البركة ، ويحفون به يقونه بأنفسهم في الحروب ، يبيتون قياماً على أطرافهم ، ويصبحون على خيولهم! رهبان بالليل ، ليوث بالنهار. هم أطوع من الأمة لسيدها ، كالمصابيح كأن في قلوبهم القناديل ، وهم من خشيته مشفقون ، يدعون بالشهادة ويتمنون أن يقتلوا في سبيل الله. شعارهم يا لثارات الحسين ، إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر ، يمشون إلى المولى أرسالاً ، بهم ينصر الله إمام الحق ).
وقد كنت أتصور أن المقصود بالطالقان في هذه الأحاديث المنطقة الواقعة في سلسلة جبال آلبرز ، على بعد نحو مئة كلم شمال غرب طهران. وهي منطقة مؤلفة من عدة قرى تعرف باسم ( الطالقان ) ليس فيها مدينة ، وإليها ينسب المرحوم السيد محمود الطالقاني الذي كان من شخصيات الثورة الإيرانية. وفي أهل منطقة الطالقان خصائص من التقوى والتعلق بالقرآن وتعليمه من قديم ، حتى أن أهل شمال إيران وغيرهم يأتون إلى قرى الطالقان ليأخذوا معلمي القرآن يقيمون عندهم بشكل دائم ، أو في المناسبات.
لكن بعد التأمل ترجح عندي أن المقصود بأهل الطالقان أهل إيران ، وليس خصوص منطقة الطالقان ، وأن الأئمة عليهم السلام سموهم باسم هذه المنطقة من بلادهم لمميزاتها الجغرافية ، أو لميزات أهلها.
وأحاديث الطالقان تتحدث عن أصحاب خاصين للمهدي عليه السلام ولاتحدد عددهم ، ولا بد أنهم من بين جماهيره الواسعة وجيشه الكبير.
وقد تضمنت صفات عظيمة لهؤلاء الأولياء والأنصار ، وشهادات عالية من الأئمة عليهم السلام بحقهم بأنهم عرفاء بالله تعالى ، وأهل بصائر ويقين ، وأهل بطولة وبأس في الحرب ، يحبون الشهادة في سبيل الله تعالى ، ويدعون الله تعالى أن ينيلهم إياها ، وأنهم يحبون سيد الشهداء أباعبدالله الحسين عليه السلام وشعارهم الثأر له وتحقيق هدف وثورته ، وأن اعتقادهم بالإمام المهدي عليه السلام عميق ، وحبهم له شديد. وهي من صفات الشيعة ومنهم الشعب الإيراني.
تذكر الأحاديث هاتين الشخصيتين من أصحاب المهدي عليه السلام وأنهما يظهران في إيران قرب ظهوره عليه السلام ويشاركان في حركة ظهوره المقدسة.
ولا تذكر الروايات أن الإيرانيين يرسلون قواتهم لمساعدة الإمام المهدي عليه السلام في تحرير المدينة المنورة أو باقي مدن الحجاز ، ويبدو أنه لاتكون حاجة إلى ذلك.
ولهذا تكتفي قواتهم التي تدخل العراق بإعلان ولائها وبيعتها للمهدي عليه السلام : ( تنزل الرايات السود التي تخرج من خراسان ( إلى ) الكوفة ، فإذا ظهر المهدي بعثت إليه بالبيعة ). ( البحار : 52/217 ).
ومن جهة أخرى ، تذكر بعض روايات الروايات المصادر السنية حركة الإيرانيين واحتشادهم في جنوب إيران ، التي يحتمل أن تكون زحفاً جماهيريا باتجاه الحجاز نحو الإمام المهدي عليه السلام :
( إذا خرجت خيل السفياني إلى الكوفة بعث في طلب أهل خراسان ، ويخرج أهل خراسان في طلب المهدي ) ( ابن حماد ص 86 ).
وأن هذا الإحتشاد يكون بقيادة الخراساني في ( بيضاء إصطخر ) قرب الأهواز ، وأن الإمام المهدي عليه السلام يتوجه بعد تحريره الحجاز إلى بيضاء إصطخر ويلتقي بأنصاره الخراساني وجيشه ، ويخوضون بقيادته معركة هناك ضد السفياني.
ومن المحتمل أن تكون هذه المعركة المذكورة مع قوات بحرية من الروم إلى جانب قوات السفياني ، كما سنذكر في حركة الظهور ، ويؤيده أنها تكون معركة فاصلة تفتح الباب أمام المد الشعبي المؤيد للمهدي عليه السلام : ( فعند ذلك يتمنى الناس المهدي ويطلبونه ) ( ابن حماد ص 86 ).
ومنذ ذلك الحين يصبح الخراساني وشعيب من أصحاب الإمام المهدي الخاصين ، ويصبح شعيب القائد العام لجيش الإمام المهدي عليه السلام ، وتكون قوات الخراسانيين هي الثقل أو ثقلاً كبيراً في جيش المهدي عليه السلام الذي يعتمد عليه في تصفية الوضع الداخلي في العراق من المعادين له والخوارج عليه ، ثم في قتال الترك ، ثم في زحفه العظيم لفتح القدس وفلسطين.
هذه خلاصة دور هذين الرجلين الموعودين من إيران ، كما يستفاد من أحاديثهما الكثيرة في مصادر السنة ، والقليلة في مصادرنا.
وقد جعلتني هذه الظاهرة أعيد التتبع والتأمل في أحاديثهما في مصادرنا ، آخذاً بعين الإعتبار احتمال أن تكون من موضوعات العباسيين في أبي مسلم الخراساني ، لكني وجدت فيها روايات صحيحة السند تذكر الخراساني ، مثل رواية أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام في اليماني وغيرها ، ووجدت روايات تدل على أن أمر هذا الخراساني الموعود كان معروفاًعند أصحاب الأئمة عليهم السلام قبل خروج أبي مسلم الخراساني ومحاولة العباسيين استغلال أحاديث المهدي عليه السلام.
فأمر الخراساني ثابت في مصادرنا أيضاً ، ودوره الذي أشرنا إليه قريب من دوره الذي تذكره الروايات الواردة في مصادر السنة.
وكذلك في الجملة أمر صاحبه شعيب في مصادرنا ، وإن كانت روايات الخراساني أقوى من رواياته بكثير.
والأسئلة حول شخصية ( الخراساني وشعيب ) متعددة ، ومن أبرزها :
هل أن المقصود بـالخراساني في هذه الأحاديث رجل معين ، أم هو تعبير عن قائد إيران الذي يكون في زمن ظهور المهدي عليه السلام ؟
أما رواياته الواردة في مصادر السنة ، وكذا في مصادرنا المتأخرة ، فهي تدل بوضوح على أنه رجل من ذرية الإمام الحسن أو الإمام الحسين عليهما السلام وتسميه الهاشمي الخراساني ، وتذكر صفاته البدنية وأنه صبيح الوجه في خده الأيمن خال ، أو في يده اليمنى خال. الخ.
وأما رواياته الواردة في مصادر الدرجة الأولى عندنا ، كغيبة النعماني وغيبة الطوسي فهي تحتمل تفسيره بصاحب خراسان أو قائد أهل خراسان أو قائد جيشهم ، لأنها تعبر بـ ( الخراساني ) فقط ، ولا تنص على أنه هاشمي.
ولكن مجموعة القرائن الموجودة حوله تدل على أنه شخص معين ، يكون خروجه مقارناً لخروج السفياني واليماني ، وأنه يرسل قواته إلى العراق فتهزم قوات السفياني.
ومنها ، هل أن يكون اسم الخراساني وشعيب اسمين رمزيين لاحقيقيين؟
أما الخراساني فليس فيه مجال للرمزية لأن الروايات لم تذكر اسمه ، نعم يمكن القول إن نسبته إلى خراسان لا تعني بالضرورة أن يكون من محافظة خراسان الفعلية ، فإن اسم خراسان والنسبة إليها يستعمل في صدر الإسلام بمعنى بلاد المشرق ، التي تشمل إيران والمناطق الإسلامية المتصلة بها ، التي كانت تحت الإحتلال الروسي ، فقد يكون هذا الخراساني من أبناء أي منطقة منها ، ويصح تسميته الخراساني.
كما لايفهم من مصادر الدرجة الأولى عندنا أنه سيد حسني أو حسيني ، كما تقول مصادر السنيين.
وأما شعيب بن صالح أو صالح بن شعيب ، فتذكر الروايات أوصافه ، وأنه شاب أسمر نحيل ، خفيف اللحية ، وأنه صاحب بصيرة ويقين ، وتصميم لايلين ، ورجل حرب من الطراز الأول ، لا ترد له راية ، ولو استقبلته الجبال لهدها واتخذ فيها طرقاً .. الخ. ومن المحتمل أن يكون اسمه رمزياً من أجل المحافظة عليه حتى يظهر أمر الله فيه ، وأن يكون اسمه واسم أبيه مشابهين لشعيب وصالح ، أو بمعناهما.
وتذكر بعض الروايات أنه من أهل سمرقند التي هي الآن تحت الاحتلال الروسي ، ولكن أكثر الروايات تذكر أنه من أهل الري ، وأن له علاقة ببني تميم ، أو من تميم محروم ، وهم فرع من بني تميم ، أو أنه مولى لبني تميم. وإذا صح ذلك ، فيمكن أن يكون أصله من جنوب إيران حيث توجد إلى الآن عشائر من بني تميم ، أو من بني تميم الذين استوطنوا من صدر الإسلام في محافظة خراسان ، وذاب أكثرهم في الشعب الإيراني ، وبقي منهم إلى اليوم بضعة قرى قرب مشهد يتكلمون العربية ، أو تكون له علاقة نسبية بهم.
ومنها ، السؤال عن وقت ظهورهما ، وقد تقدم في أول هذا الفصل أن المرجح أن يكون في سنة ظهور المهدي عليه السلام ، مقارناً لخروج السفياني واليماني ، وإن كان من المحتمل صحة الرواية التي تقول : ( يكون بين خروجهـ أي شعيبـ وبين أن يسلم الأمر للمهدي اثنان وسبعون شهراً ). ( ابن حماد ص 84 ) ، فيكون ظهورهما قبل ظهور المهدي عليه السلام بنحو ست سنوات.
أما المدة بين بداية دولة الممهدين الإيرانيين وبين ظهور الخراساني وشعيب ، فهي غير محدودة في الروايات كما ذكرنا ، ما عدا بعض الإشارات والقرائن التي تصلح دليلاً على التحديد الإجمالي.
منها ، ما ورد عن قم وما يحدث لها من موقع ديني وفكري عالمي ، وأن ذلك يكون ( قرب ظهور قائمنا ). ( البحار : 60/213 ).
وما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام من قوله : ( أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر ) ( البحار : 52/243 ) ، الذي يدل على أن المدة بين ظهوره عليه السلام وبين قيام دولة أهل المشرق ، لا يزيد عن عمر إنسان.
ومنها ، حديث : ( أتاح الله برجل منا أهل البيت ، يشير بالتقى ، ويعمل بالهدى ، ولا يأخذ في حكمه الرشا ، والله إني لأعرفه باسمه واسم أبيه ، ثم يأتينا الغليظ القصرة ، ذو الخال والشامتين الحافظ لما استودع يملؤها عدلاً وقسطاً ) ( البحار : 52/269 ) والذي يدل على بداية دولة أنصار المهدي عليه السلام أولاً على يد سيد من أبناء أهل البيت عليهم السلام ، وأنه يكون بعده قبل ظهور المهدي عليه السلام شخص أو أكثر ، لأن الحديث ناقص كما ذكرنا ، فيكون الخراساني في آخر من يحكم إيران قبل المهدي عليه السلام ، والله العالم.
والسؤال الأخير عن الخراساني ، هل يكون مرجع تقليد ، أم يكون قائداً سياسياً إلى جانب المرجع ، كرئيس الجمهورية مثلاً ؟
فالذي يبدو من أحاديثه أنه القائد الأعلى لدولة أهل المشرق ، ولكن يبقى احتمال أن يكون قائداً سياسياً بإمرة المرجع والقائد الأعلى ، أمراً وارداً ، والله العالم.
ضمن كتاب عصر الظهور
التعلیقات