ثبوت النيابة العامّة لمراجع الدين العظام في زمن الغيبة الكبرى
السيد ضياء الخباز
منذ 7 سنواتثبوت النيابة العامّة لمراجع الدين العظام في زمن الغيبة الكبرى
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأوّل : الأدلّة على ثبوت النيابة للفقيه.
بعد أن عرفت قسمي النيابة ، واتّضح لك انقطاع النيابة الخاصّة في زمن الغيبة الكبرى ، يبقى الكلام في النيابة العامّة ، فهي هي ثابتة في زمن الغيبة الكبرى أم لا ؟
والجواب : أن كلمة الأعلام قد اتّفقت ، على ثبوت هذا القسم من النيابة لعدول المجتهدين ، بل هو من المسلّمات عند الإماميّة.
ويشهد لذلك قول المحقّق الكركي قدّس سرّه : « اتّفق أصحابنا ( رضوان الله عليهم ) على أنّ الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى ـ المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعيّة ـ نائب من قبل أئمّة الهدى عليهم السلام في حال الغيبة » (1).
ويمكن الاستدلال على ثبوت هذا المقام للفقيه بدليلين :
الدليل الأوّل : الدليل العقليّ.
وهو المعبّر عنه بقاعدة اللّطف.
وبيانه بمقدّمتين :
المقدّمة الكبرويّة : المراد من قاعدة اللّطف.
ويمكن تلخيص المراد من قاعدة اللّطف بأنّها : الفعل الثاني الذي يحفظ الغرض من الفعل الأوّل.
وبيانه : أنّ أحدنا لو أراد أن يدعو مجموعة من أصحابه إلى مأدبة ، فلا بدّ وأن يكون له غرض من وراء فعله هذا ـ باعتباره عاقلاً لا يفعل إلّا لغرض ـ وليكن إدخال السرور على قلوبهم أو نيل ثواب إطعام المؤمنين أو غير ذلك ، وحتّى يحقّق هذا الغرض فإنّه لا يكتفي بتهيئة المأدبة فقط ، بل لا بدّ وأن يقوم بفعل ثانٍ ، وهو المبادرة إلى الاتّصال بأصدقائه ودعوته لهم.
فتلاحظ أنّ هذا الفعل الثاني قد حقّق الغرض من الفعل الأوّل ، ولولاه لانتقض الغرض.
ومن هنا قرّر الأعلام : أنّ اللّطف واجب على الحكيم بحكم العقل ؛ إذ لو لم يتحقّق اللّطف للزم من ذلك نقض غرضه ، ونقض الغرض قبيح من العاقل فضلاً عن الحكيم المطلق.
المقدّمة الصغروية : بيان انطباق قاعدة اللّطف على ثبوت النيابة العامّة للمراجع والفقهاء.
ويمكن تقريبها بثلاث مقدّمات :
الاُولى : أنّ جعل الإمامة فعلاً من أفعال الله ( تبارك وتعالى ) ، ويستحيل أن يخلو فعله من الغرض ـ كما نعتقد معاشر الإماميّة ـ فإنّ أفعاله معلّلة بالأغراض ، وإن كانت راجعة لمخلوقاته وليست راجعة له ، وبمقتضى ذلك فإنّ واحداً من أهم الأغراض التي جعل الله ( تبارك وتعالى ) لأجلها إمامتهم عليهم السلام هو هداية الناس ، حيث قال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (2).
الثانية : أنّ المشيئة الإلهيّة قد تعلّقت بتغييب آخرهم ـ الإمام الثاني عشر عليه السلام ـ وهذا يوجب انتقاض الغرض المذكور.
الثالثة : إنّ مقتضى قاعدة اللّطف هو أن يفعل الحكيم المطلق فعلاً ثانياً ليحفظ الغرض من فعله الأوّل ، وينتج عن ذلك : لا بدّية جعل شخص في زمن غيبة الإمام عجّل الله فرجه الشريف ليملأ الفراغ ، ويكون وجوده حافظاً للغرض من فعله الأوّل الذي هو الهداية والحفاظ على الدين ، وليس هو إلّا الفقهاء العظام العارفون بما يوصل العباد إلى الله ( تبارك وتعالى ) من عقائد وأحكام.
فتمّ الدليل على المطلوب.
والدليل الثاني : الأدلّة النقليّة.
وهي كثيرة جدّاً ، وقد ذكرها الفقهاء في كتبهم الاستدلاليّة ، وذكرها مع بيان سندها ودلالتها خارج عن القصد من هذا الكتاب ، ولكنّنا نكتفي بدليلين :
الأوّل : ما في الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السلام : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : اللّهمّ ارحم خلفائي.
قيل : يا رسول الله ، ومَن خلفاؤك ؟
قال : الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي » (3) .
الثانية : قول الإمام الحجّة عجّل الله فرجه الشريف : « وَأَمّا الْحَوادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعوا فيها إِلى رُواةِ حَديثِنا ، فَإِنَّهُمْ حُجَّتي عَلَيْكُمْ ، وَأَنا حُجَّةُ اللهِ عَلَيْكُمْ » (4) .
المطلب الثاني : مجالات النيابة.
هنالك ثلاثة مجالات للنيابة ، كلّها ثابتة للفقهاء والمراجع العظام :
المجال الأوّل : الإفتاء.
فإنّه لا يخفى أنّ بيان الحلال والحرام يحتاج إلى إذن خاص من المشرّع ، إذ التحليل والتحريم حقّ المشرّع فقط ، قال تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) (5).
وقد فوّض الله أمر التشريع إلى رسوله كما في قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (6).
وإلى أئمّة الحقّ عليهم السلام كما عن الإمام الصادق عليه السلام : « فَما فَوَّضَ إِلى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله ، فَقَدْ فَوَّضَهُ إِلَيْنا » (7).
ومن هنا : فإنّ الإفتاء للفقيه يحتاج إلى إذن خاصّ من المشرّع ، وقد ورد هذا الإذن في روايات متعدّدة ، منها : ما ورد عن الإمام العسكريّ عليه السلام : « فأمّا مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوامّ أن يقلّدوه » (8).
المجال الثاني : القضاء.
وهو كالإفتاء تماماً في اختصاصه بالمشرّع ، وافتقاره إلى الإذن منه ؛ لذا ورد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد قال لشريح القاضي : « يا شُرَيْحُ ، قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً لَا يَجْلِسُهُ إِلَّا نَبِيٌّ ، أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ ، أَوْ شَقِيٌّ » (9) ، فمَن تصدّى للقضاء من غير الأنبياء أو الأوصياء أو من يُؤذن له منهم فهو شقيّ.
وقد أذن المشرّع للفقهاء بالكون في هذا المنصب ، فعن أبي خديجة ، قال : « قال لي أبو عبد الله عليه السلام : إِيَّاكُمْ أَنْ يُحاكِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِلى أَهْلِ الْجَوْرِ ، وَلكِنِ انْظُرُوا إِلى رَجُلٍ مِنْكُمْ يَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ قَضائِنا ، فاجْعَلُوهُ بَيْنَكُمْ ، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ قَاضِياً ، فَتَحاكَمُوا إِلَيْهِ » (10).
المجال الثالث : الولاية.
ولم يقع النزاع بين الأعلام في أصل ثبوت الولاية للفقيه ، بل هو محلّ اتّفاق ، وإنّما النزاع في سعة الولاية وضيقها.
المطلب الثالث : ولاية الفقيه.
وعلى ضوء ما ذكرناه أخيراً يتفرّع البحث المعروف ببحث ولاية الفقيه ، وحاصل القول فيه : أنّ الفقهاء يختلفون في سعة ولاية الفقيه على نظريّات ، أشهرها نظريّتان :
النظريّة الاُولى : أنّ الولاية الثابتة للفقيه هي الولاية العامّة ، كما ذهب إليها جمع من الأعاظم كالمحقّق النراقي ، والمحقّق الكركي ، والسيّد الخميني ( قدّست أسرارهم جميعاً ).
النظريّة الثانية : أنّ الولاية الثابتة للفقيه هي الولاية الحسبيّة ، كما ذهب إليه سيّد الطائفة الخوئيّ ونسبه لمعظم فقهاء الشيعة ( أعلى الله مقامهم ).
والفرق بين النظريّتين :
أنّ الولاية العامّة هي الولاية على كلّ ما كانت للمعصومين عليه السلام الولاية عليه ، إلّا ما استثناه الدليل.
وأمّا الولاية الحسبيّة فهي : الولاية على كلّ أمر لا ولاية لأحد عليه ، ونحرز أن الشارع لا يرضى بتركه ، لتوقّف النظام عليه ، كالولاية على القُصّر من الصغار والمجانين والأيتام والأوقاف التي لا متولّي لها وإقامة الحدود وغير ذلك من الاُمور الواسعة جدّاً ، بل كلّ ما له دخل في حفظ النظام فهو داخل في الاُمور الحسبيّة وللفقيه الولاية عليه.
بل أوسع من ذلك ، حيث يذهب السيّد الخوئي إلى أنّ الفقيه لو رأى مصلحة الإسلام في الحكم بالجهاد الابتدائيّ كان له ذلك.
فاتّضح من ذلك : أنّ الاُمور الحسبيّة في حدّ ذاتها ليست ضيقة ـ كما يحاول البعض تصويرها ـ بل هي ذات حدود واسعة.
الهوامش
1. رسائل المحقّق الكركي 1 : 142.
2. الأنبياء 21 : 73.
3. الفقيه 4 : 420. وهذا الحديث قد أرسله الشيخ الصدوق رحمه الله بصيغة الجزم عن أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو معتبر على مبنى مَن يذهب إلى التفريق بين مراسيل الصدوق الجزميّة وغير الجزميّة ، واعتبار الاُولى لا الثانية.
كما أنّ بعض الأعلام يذهب إلى اعتبار الحديث لكثرة طرقه المورثة للإطمئنان ، وبعض الأعلام يذهب إلى خلاف ذلك ، والبحث يُطلب في مظانّه.
4. الغيبة للشيخ : 291. الاحتجاج 2 : 283.
5. يونس 10 : 59.
6. الحشر 59 : 7.
7. الكافي : 1 : 266.
8. الاحتجاج : 2 : 263.
9. الكافي : 7 : 406.
10. الكافي : 7 : 412.
مقتبس من كتاب : [ المهدوية الخاتمة فوق زيف الدعاوى وتضليل الأدعياء ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 217 ـ 222
التعلیقات