العمل على تأصيل العقيدة المهدوية عند الإمام موسى الكاظم عليه السلام
المؤمل في الأديان
منذ 6 سنواتالعمل على تأصيل العقيدة المهدوية
وفي هذا المحور نلاحظ أنَّ الإمام موسى الكاظم عليه السلام ـ مشاركاً آباءه الكرام وأبناءه الأطهار عليهم السلام ـ بذل جهداً ملحوظاً مؤطِّراً ومسوِّراً للعقيدة المهدوية ، بحيث لا يبقى هناك خلل في معرفة المنهج وتشخيص المصداق بتعريف جامع مانع ، وتمثَّل هذا الجهد والتحرّك من خلال عدَّة أبعاد :
البعد الأوَّل : التركيز على وحدة الإمامة في العقيدة المهدوية :
يتمثَّل هذا البعد في تركيز الإمام موسى الكاظم عليه السلام على إعطاء صورة كلّية للعقيدة المهدوية ولشخص الإمام المهدي عليه السلام ترتبط بكلّي الإمامة والرسالة ، وأنَّه حلقة ضمن سلسلة متلاحمة ومتَّصلة لا يمكن معرفة هويَّتها وسبر غورها إلَّا من خلال التحرّك لمعرفة جميع أطراف السلسة والتي تبدأ من رسول الله صلّى الله عليه وآله وتنتهي بالمهدي عجّل الله فرجه ، وبدون هذه الحركة المعرفية الكلّية تكون المعرفة بتراء مشوَّهة بل منحرفة ، وبالفعل فقد ساعدت هذه المعرفة الشوهاء والمنفصلة عن كلّي الهرم الإمامي العقائدي إلى الانحراف المعرفي عن المنهج والشخص في العقيدة المهدوية ، فظهرت لدينا مهدويات مدعاة تبتعد كلّ البعد عن الأُطر التي وضعها وأسَّس لها أهل البيت عليهم السلام من جهة المنهج ، كما أنَّها لا تنسجم ولا تتشابه مع الشخصيات التي تُمثّل الشجرة العلوية والدوحة المحمّدية من جهة النسب ، ولذلك نجد الإمام موسى الكاظم عليه السلام ركَّز على الوحدة المهدوية مع سائر الشجرة النبوية ، حيث لا يمكن لها أن تنفصل أو تختلف ، فجاء تصـريحه الشـريف كما يرويه الشيخ المفيد رحمه الله : « إذا توالت ثلاثة أسماء : محمّد وعلي والحسن ، فالرابع هو القائم صلوات الله عليه وعليهم » (1) ، ليقول بوضوح : إنَّ الإمام المهدي عجّل الله فرجه هو فرع من آبائه الكرام عليهم السلام ومن هذه السلسلة الذهبية لا يشذُّ عنها نسباً ومنهجاً.
البعد الثاني : تعريف وتعيين الإمام المهدي عجّل الله فرجه :
يتمحور هذا البعد في إعطاء البعد المعرفي للشخصية المهدوية الحقّة ، وذلك بعدَّة أساليب :
الأُسلوب الأوَّل : التعريف النسبي له عجّل الله فرجه :
حيث أكَّد الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام بصورة لا يمكن تزييفها وحقيقة لا يمكن تحريفها انتماء المهدي الموعود إلىٰ رسول الله صلّى الله عليه وآله عبر سلسلة نسبية محدَّدة تبدأ بالنبيّ الفاتح وتنتهي بالوصيّ الخاتم ، كما عبّر عن لسانهم عليهم السلام : « بنا فتح الله جلَّ وعزَّ ، وبنا يختم الله » (2).
وقد تجلّى هذا الأُسلوب بكتابه عجّل الله فرجه إلى عبد الله بن جندب حينما قال : « إذا سجدت فقل : اللّهمّ إنّي أُشهدك ، وأُشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك بأنَّك أنت الله ربّي ، والإسلام ديني ، ومحمّد نبيّي ، وعلي وليّي ، والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمّد بن علي وعلي بن محمّد والحسن بن علي والخلف الصالح صلواتك عليهم أئمّتي ، بهم أتولّى ومن عدوّهم أتبرَّء » (3).
الأُسلوب الثاني : التعريف الرقمي للإمام المهدي عجّل الله فرجه :
بذل أهل البيت عليهم السلام جهداً بالغاً وعناية خاصّة بلغة الأرقام في تعيين مهدي الأُمم وبأشكال مختلفة ومتنوّعة ، فطائفة من الروايات تقول : الثاني عشـر ، وأُخرى تقول : التاسع من ذرّية الحسين ، وثالثة تقول : الرابع من ولدي ، وغيرها. ولذا فقد جاءت تصـريحات الإمام موسى الكاظم عليه السلام ضمن هذا النسق أيضاً في تعيين الإمام المهدي عجّل الله فرجه ، فقد روىٰ ابن بابويه رحمه الله بسنده عنه عليه السلام أنَّه قال : « إذا فقد الخامس من ولد السابع ، فالله الله في أديانكم لا يزيلنَّكم أحد عنها ... » (4).
وروىٰ الصدوق رحمه الله بسنده عن يونس بن عبد الرحمن ، قال : دخلت على موسى بن جعفر عليهما السلام فقلت له : يا ابن رسول الله ، أنت القائم بالحقّ ؟ فقال : « أنا القائم بالحقّ ولكن القائم الذي يطهِّر الأرض من أعداء الله عزّ وجلّ ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً هو الخامس من ولدي له غيبة يطول أمدها خوفا علىٰ نفسه ، يرتدُّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون ... » (5).
والتعريف الرقمي حقيقة ينبغي التأمّل فيها والتوقّف عندها ، فلماذا انتهج أهل البيت عليهم السلام هذه الوسيلة لتشخيص الإمام المهدي وتعيينه ؟
والجواب : يمكن الإشارة إلىٰ عدَّة احتمالات قد يكون بعضها صالحاً للإجابة ، وقد تكون كلّها كذلك ، ولعلَّ هناك إجابة لم نتوفَّر عليها لقلَّة الزاد والبضاعة المزجاة.
ولعلَّ من الأوجه هو : أنَّ اللغة الرقمية والرياضية لا يمكن أن تخطأ أو تنحرف عن الصواب أو تلتبس علىٰ المخاطب بعكس لغة التشبيه والمثال والمقاربة ممَّا يعكس اهتماماً فائقاً عند أهل البيت عليهم السلام في إيضاح الشخصية بأجلىٰ صورها وبشكل لا يمكن أن يتخلَّله الاشتباه بالمصاديق والإجمال بين الأفراد.
وربَّما يكون الهدف من اللغة الرقمية هو إحاطة الإمام المهدي عجّل الله فرجه بمزيد من السـرّية والتكتّم ـ في عين الجلاء والوضوح لمن كان له قلب أو ألقىٰ السمع وهو شهيد ـ ، فهي تتناسق وتتماهىٰ مع عقيدة الغيبة في مدرسة أهل البيت ومبدأ التقيّة عندهم عليهم السلام والتي تعني في إحدىٰ جنباتها إيصال الفكرة مع تغليفها بأُطر يعجز عن إدراكها البعيد عن مفاهيم هذه المدرسة الإلهية ولا ينالها إلَّا ذو حظّ عظيم ، ولذا نلاحظ أنَّه وبالرغم من أنَّ الإمام موسى الكاظم عليه السلام عرَّف المهدي عجّل الله فرجه تعريفاً رقمياً لا يمكن أن يخطأ إلَّا أنَّه وبالوقت نفسه قال : « عقولكم تصغر عن هذا » ، وذلك حينما سأله أخوه علي بن جعفر : يا سيّدي ، من الخامس من ولد السابع ؟ فقال : « يا بني ، عقولكم تصغر عن هذا ، وأحلامكم تضيق عن حمله ، ولكن إن تعيشوا فسوف تدركونه » (6).
وفي خصوص هذه المفردة الرقمية التي تحدَّثت عنها الرواية المهدوية الكاظمية يمكن أن يكون المراد هو الإشارة إلىٰ تلبيس مفهوم المهدوية من قِبَل البعض علىٰ الولد السابع والذي يعني نفسه القدسية ، والابتعاد عن المصداق الحقيقي والوحيد لهذا المفهوم ، لذا اقتضىٰ التنويه من قِبَله عليه السلام لهذا الأمر حتَّىٰ لا تنحرف المسيرة المهدوية بإيجاد مصاديق أُخرىٰ لها غير ما اختاره الله ورسمه وأكَّد عليه أهل البيت عليهم السلام.
الأُسلوب الثالث : التعريف بالعلامات :
ولسنا في صدد الحديث عن العلامات وماهيتها ومفرداتها بقدر ما نريد القول : إنَّ أهل البيت عليهم السلام اهتمّوا في بيان العلامات وجعلوها بمثابة إشارات ودلالات للاسترشاد علىٰ الطريق المهدوي الصحيح أوَّلاً ، وعلى وقت ظهوره ثانياً ، وهكذا فهي تدلُّ علىٰ صدقهم فيما يخبرون ليحصل الاطمئنان لدىٰ أتباعهم بحتمية العقيدة المهدوية وتحقّقها ثالثاً ، مضافاً إلىٰ إظهارهم لعلامات تعيّن شخصه المبارك ممَّا لا يدع مجالاً لتغييب الحقّ والتباسه بالباطل وتشويش الواقع أمام المنتظِر ، ولذلك جاء في الرواية الشـريفة عن المفضَّل بن عمر ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : « إيّاكم والتنويه ، أمَا والله ليغيبنَّ إمامكم سنيناً من دهركم ، ولتمحّصنَّ حتَّىٰ يقال : مات ، قُتِلَ ، هلك ، بأيّ وادٍ سلك ؟ ولتدمعنَّ عليه عيون المؤمنين ، ولتكفأنَّ كما تكفأ السفن في أمواج البحر ، فلا ينجو إلَّا من أخذ الله ميثاقه ، وكتب في قلبه الإيمان ، وأيَّده بروح منه ، ولترفعنَّ اثنتا عشـرة راية مشتبهة ، لا يُدرىٰ أيّ من أيّ » ، قال : فبكيت ، ثمّ قلت : فكيف نصنع ؟ قال : فنظر إلىٰ شمس داخلة في الصفة ، فقال : « يا أبا عبد الله ، ترىٰ هذه الشمس ؟ » ، قلت : نعم ، فقال : « والله لأمرنا أبين من هذه الشمس » (7).
وهذا الوضوح والظهور والحقيقة المتجلّية والناصعة مع كلّ هذا التشويش الإعلامي الهائل والأبواق المأجورة إنَّما جاء بسبب أنَّ أهل البيت عليهم السلام رسموا خارطة طريق واضحة وجليّة لا يعتريها الريب والشكّ والغموض ، وذلك من خلال العلامات الدالّة ، وليس من الضروري أن يتحدَّث كلّ إمام بجميع العلامات أو تفاصيلها ، بل ربَّما يتحدَّث ابتداءً بما يراه مهمَّاً وضرورياً وممَّا يجب التركيز عليه ، كما في رواية علي بن أبي حمزة ، قال : رافقت أبا الحسن موسىٰ بن جعفر عليه السلام بين مكّة والمدينة ، فقال لي يوماً : « يا علي ، لو أنَّ أهل السماوات والأرض خرجوا علىٰ بني العبّاس لسقيت الأرض دماءهم حتَّىٰ يخرج السفياني » ، قلت له : يا سيّدي ، أمره من المحتوم ؟ قال : نعم ، ثمّ أطرق هنيئة ، ثمّ رفع رأسه ، وقال : « ملك بني العبّاس مكر وخداع ، يذهب حتَّىٰ يقال : لم يبقَ منه شيء ، ثمّ يتجدَّد حتَّىٰ يقال : ما مرَّ به شيء » (8) ، حيث يعتبر السفياني علامة فارقة محتومة خلافاً لكثير من العلامات التي قد يحصل فيها البداء ، ولهذا نجد التأكيد المستمرّ من قِبَل أهل البيت عليهم السلام علىٰ هذه العلامة إذ أنَّها بالإضافة إلىٰ علاميتها توضّح لنا المنهج المعادي لحركة أهل البيت عليهم السلام عموماً والإمام المهدي عجّل الله فرجه بشكل خاصّ.
وقد لا يتناول الإمام عليه السلام بعض العلامات بشكل ابتدائي ومبادر ، بل يحاول الإجابة علىٰ سؤال طُرِحَ عليه بما يراه من تشخيص للفائدة ، كما في رواية الحسن بن الجهم ، قال : سأل رجل أبا الحسن عليه السلام عن الفرج فقال : « تريد الإكثار أم أُجمل لك ؟ » ، قال : بل تجمل لي ، قال : « إذا ركزت رايات قيس بمصر ، ورايات كندة بخراسان » (9).
ولا بدَّ من الالتفات إلىٰ أنَّ الحديث عن عصر الإمام المهدي عجّل الله فرجه ومجريات الأُمور فيه ـ كما سيأتي لاحقاً ـ يمكن اعتباره حديثاً عن علامات ودلالات يستطيع الباحث عن الحقيقة والمنتظِر للفرج أنْ يستشف منها مطالع الظهور المقدَّس ويستوحي ملامح القيام العالمي ويستشـرف الطريق لتحقيق الوعد الإلهي.
الأُسلوب الرابع : التعريف بعصره عليه السلام :
والمقصود من عصره عليه السلام أعمّ من الظهور والغيبة فقد يلفت الإمام عليه السلام أنظار مخاطبيه إلىٰ جانب من جوانب عصـره وهو ما يخصُّ حال المجتمع في غيبته عجّل الله فرجه والتجاذبات التي تعتري الساحة آنذاك ـ كما نعيش نحن اليوم ـ والفتن التي تأتي كقطع الليل المظلم ، فهو في الوقت الذي يصوِّر لنا المجتمع في ذلك الزمن كاستشـراف للمستقبل يحاول أيضاً أن يفيد ـ من خلال هذا السرد ـ مخاطبيه والأجيال بعدهم إلىٰ ضرورة توخّي الحذر ومعرفة مواطئ القدم وعدم الإنزلاق في تيه الفتن والعياذ بالله ، ولذلك جاء قوله عجّل الله فرجه لإبراهيم بن هلال : « أنت تعجل » ، حينما سأله عن الفرج بقوله : جُعلت فداك ، مات أبي علىٰ هذا الأمر ، وقد بلغت من السنين ما قد ترىٰ أموت ولا تخبرني بشـيء ؟ فأجاب إبراهيم : إي والله أعجل ، وما لي لا أعجل وقد كبر سنّي وبلغت أنا من السنّ ما قد ترىٰ. فقال : « أمَا والله يا أبا إسحاق ما يكون ذلك حتَّىٰ تميّزوا وتمحّصوا ، وحتَّىٰ لا يبقىٰ منكم إلَّا الأقلّ ـ ثمّ صعَّر كفّه (10) ـ » (11).
وتارةً أُخرىٰ يحدِّثنا الإمام موسى الكاظم عليه السلام عن عظم المسؤولية الملقاة علىٰ عاتق مهدي الأُمم والهدف الذي سوف يتحقَّق علىٰ يديه الكريمتين نافياً في الوقت عينه المهدوية عن نفسه القدسية كما جاء في سؤال يونس بن عبد الرحمن ، قال : دخلت علىٰ موسىٰ بن جعفر عليهما السلام فقلت له : يا ابن رسول الله ، أنت القائم بالحقّ ؟ فقال : « أنا القائم بالحقّ ولكن القائم الذي يطهِّر الأرض من أعداء الله عزّ وجلّ ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً هو الخامس من ولدي له غيبة يطول أمدها خوفاً علىٰ نفسه ، يرتدُّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون » ، ثمّ قال : « طوبىٰ لشيعتنا ، المتمسّكين بحبلنا في غيبة قائمنا ، الثابتين على موالاتنا والبراءة من أعدائنا ، أُولئك منّا ونحن منهم ، قد رضوا بنا أئمّة ، ورضينا بهم شيعة ، فطوبىٰ لهم ، ثمّ طوبىٰ لهم ، وهم والله معنا في درجاتنا يوم القيامة » (12).
وتارةً ثالثة يحدِّثنا الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام عن أُمور تفصيلية في بيان عدل الإمام المهدي عجّل الله فرجه وطريقته في سياسة الناس لتشكيل صورة نادرة التحقّق في الواقع المعاش ، فكثير هو التصوّر والتنظير وما أكثر القوانين لكن المهمّ في تقنين القوانين هو القدرة علىٰ تطبيقها والتمكّن من إجرائها بحذافيرها من دون مدخلية للهوىٰ والعصبية والمحابات والكيل بمكيالين ، فيعطف الهوىٰ علىٰ الهدىٰ إذا عطفوا الهدىٰ علىٰ الهوىٰ ، وكمثال تفصيلي لبيان الحقوق الاجتماعية في عصره يقول الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام : « إذا قام قائمنا عجّل الله فرجه قال : يا معشر الفرسان سيروا في وسط الطريق ، يا معشر الرجال سيروا علىٰ جنبي الطريق ، فأيّما فارس أخذ علىٰ جنبي الطريق فأصاب رجلاً عيب ألزمناه الدية ، وأيّما رجل أخذ في وسط الطريق فأصابه عيب فلا دية له » (13).
البعد الثالث : التجسيد العملي للغيبة :
لم يكتف الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام بالأقوال المؤكّدة للعقيدة المهدوية ، بل مارس عملياً الغيبة واستخدم نفس الطرق التي استخدمها الإمام المهدي عجّل الله فرجه أثناء غيبة الصغرىٰ ، فقد غاب الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام في بداية إمامته عن أعين الناس متخفّياً عن السلاطين والجلاوزة ، كما يذكر ذلك ابن شهر آشوب في مناقبه حينما قال : دخل موسىٰ بن جعفر عليه السلام بعض قرىٰ الشام متنكّراً هارباً فوقع في غار وفيه راهب يعظ في كلّ سنة يوماً ، فلمَّا رآه الراهب دخله منه هيبة ، فقال : يا هذا ، أنت غريب ؟ قال : « نعم » ، قال : منّا أو علينا ؟ قال : « لست منكم » ، قال : أنت من الأُمَّة المرحومة ؟ قال : « نعم » ، قال : أفمن علمائهم أنت أم من جهّالهم ؟ قال : « لست من جهّالهم » ، فقال : كيف طوبىٰ أصلها في دار عيسىٰ وعندكم في دار محمّد وأغصانها في كلّ دار ؟ فقال عليه السلام : « الشمس قد وصل ضوؤها إلىٰ كلّ مكان وكلّ موضع وهي في السماء » ، قال : وفي الجنَّة لا ينفد طعامها وإن أكلوا منه ولا ينقص منه شيء ؟ قال : « السراج في الدنيا يُقتَبس منه ولا ينقص منه شيء » ، قال : وفي الجنَّة ظلّ ممدود ؟ فقال عليه السلام : « الوقت الذي قبل طلوع الشمس كلّها ظلّ ممدود ، ألم ترَ إلىٰ ربّك كيف مدَّ الظلّ » ، قال : ما يؤكل ويشرب في الجنَّة لا يكون بولاً ولا غائطاً ؟ قال عليه السلام : « الجنين في بطن أُمّه » ، قال : أهل الجنَّة لهم خدم يأتونهم بما أرادوا بلا أمر ؟ فقال عليه السلام : « إذا احتاج الإنسان إلىٰ شيء عرفت أعضاؤه ذلك ويفعلون بمراده من غير أمر » ، قال : مفاتيح الجنَّة من ذهب أو فضَّة ؟ قال : « مفتاج الجنَّة لسان العبد لا إله إلَّا الله » ، قال : صدقت وأسلم والجماعة معه (14).
أمَّا حبسه وسجنه عليه السلام فهو ابتعاد عن الناس بشكل قهري وهو غيبة عنهم بشكل من الأشكال ، وقد امتدَّت لسنوات عدَّة ولكنَّه عليه السلام لم ينقطع عن جمهوره وأتباعه ، بل كان يراسلهم بشكل دائم ، فقد أوصل لنا التراث الكثير من والتواقيع الشريفة وبمواضيع متنوّعة كانت تخرج من الحبس تشمل العقائد وفروع الدين حتَّىٰ النصّ علىٰ ولده الإمام علي الرضا عليه السلام.
بل إنَّه عليه السلام استعمل آلية الوكلاء أيضاً لزيادة التواصل مع الأتباع ، يذكر الشيخ القرشي رحمه الله في كتابه حياة الإمام موسىٰ بن جعفر عليه السلام : ( أقام عليه السلام جماعة من تلامذته وأصحابه ، فجعلهم وكلاء له في بعض المناطق الإسلاميّة ، وأرجع إليهم شيعته لأخذ الأحكام الدينية منهم ، كما وكَّلهم في قبض الحقوق الشرعية لصرفها علىٰ الفقراء والبائسين من الشيعة ، وإنفاقها في وجوه البرّ والخير.
فقد نصَّب المفضَّل بن عمر (15) وكيلاً له في قبض الحقوق ، وأذن له في صرفها علىٰ مستحقّيها.
وكذلك أقام له كلَّاً من حبّان السرّاج (16) ، وزياد بن مروان القندي (17) ، وعلي بن أبي حمزة (18) ، وغيرهم. وقد وصلت لهؤلاء أموال ضخمة من الشيعة ، إلَّا أنَّهم خانوا الله ورسوله ، فاشتروا بها الضياع والقصور وذهبوا إلىٰ الوقف ، وأنكروا إمامة الرضا عليه السلام ) (19).
وروىٰ الطوسي رحمه الله بسنده عن يونس بن عبد الرحمن ، قال : ( مات أبو إبراهيم عليه السلام وليس من قوّامه أحد إلَّا وعنده المال الكثير ، وكان ذلك سبب وقفهم وجحدهم موته ، طمعاً من الأموال ، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار ، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار ... ) (20).
ولعلَّ انحراف بعضهم طمعاً في الأموال التي عندهم فادَّعوا غيبته وعدم موته عليه السلام هو مرآته عاكسة لما سوف يحدث في عصر الغيبة الصغرىٰ من ادّعاء بعضهم للنيابة لمصالح دنيوية ولتكون للأُمَّة تجربة سابقة يمكن الاستفادة منها لتصحيح المسارات.
الهوامش
1. رسائل في الغيبة : 2 : 12.
2. تحف العقول : 115.
3. مصباح المتهجّد : 238 و 239 / ح ( 346 / 84 ).
4. الإمامة والتبصرة : 113 / ح 100.
5. كمال الدين : 361 / باب 34 / ح 5.
6. الكافي 1 : 336 / باب في الغيبة / ح 2.
7. الكافي 1 : 336 / باب في الغيبة / ح 2.
8. الغيبة النعماني : 314 / باب 18 / ح 9.
9. الإرشاد 2 : 376 و 377.
10. أي أمالها تهاوناً بالناس.
11. الغيبة النعماني : 216 / باب 12 / ح 14.
12. كمال الدين : 361 / باب 34 / ح 5.
13. تهذيب الأحكام 10 : 314 / ح ( 1169 / 10 ).
14. مناقب آل أبي طالب 3 : 427.
15. محدِّث إمامي ، اختلف أصحابنا فيه ، فقال جماعة بأنَّه كان من شيعة الإمام الصادق عليه السلام وبطانته وخاصَّته وثقاته وأحد الفقهاء الصالحين ، وكان وكيلاً عن الصادق عليه السلام بالكوفة ، وروى عن الإمام الكاظم عليه السلام أيضاً وكان بابه ، وكان من الذين رووا النصّ عن الإمام الصادق عليه السلام على إمامة ابنه الإمام الكاظم عليه السلام ، وكان محموداً عند الأئمّة عليهم السلام. وذهب جماعة من علمائنا ـ ولعلَّ لأسباب ـ إلى القول بضعفه وذمّه فقالوا : كان خطّابياً ، متهافتاً ، مرتفع القول ، ولا يجوز أن يكتب حديثه ، وكان فاسد المذهب لا يعبأ به ، مضطرب الحديث لا يموَّل عليه ، وغير ذلك من الذمّ والطعن مع جلالة قدره ومكانته المرموقة عند الأئمّة عليهم السلام. ( الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق عليه السلام 3 : 290 / الرقم 3379 ).
16. من ضعفاء المحدِّثين ، كيساني العقيدة ، قائل بإمامة محمّد بن الحنفية وبأنَّه حيّ لم يمت ، وكان متعصّباً يصدف عن آيات الله. ( الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق 1 : 491 / الرقم 1007 ).
17. من ثقات محدّثي وفقهاء الواقفة ، وقيل : من الضعفاء ، وله كتاب. كان من أحد أركان الواقفة الذين وقفوا في الإمام الرضا عليه السلام. ( الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق 1 : 621 / الرقم 1273 ).
18. محدِّث واقفي المذهب ، ومن أوائل الذين أظهروا الوقف ، وكان كذَّاباً ، ملعوناً ، ولسوء حظّه كان من أشدّ خصوم الإمام الرضا عليه السلام ، فلعنه الرضا عليه السلام. ( الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق 2 : 402 / الرقم 2218 ).
19. حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام 2 : 492.
20. الغيبة للطوسي : 64 / ح 66.
مقتبس من كتاب : [ العقيدة المهدوية في عصر الإمام موسى الكاظم عليه السلام ] / الصفحة : 6 ـ 19
التعلیقات