بشارة الإمام السجّاد عليه السلام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 11 سنةفي خضم الظروف العصيبة التي عاشتها الأمة الإسلامية بعد واقعة كربلاء، برز الإمام زين العابدين عليه السلام كمنارة للحق وناطقاً باسم العدل والإنسانية. في خطبته الشهيرة أمام يزيد بن معاوية، استحضر الإمام السجاد معاني عميقة تتعلق بمصير الأمة وأملها في الفرج، حيث أشار إلى الإمام المهدي عليه السلام بقوله: « ومنا مهدي هذه الأمة ». هذا التعبير يحمل في طياته بشارة عظيمة، تجسد الأمل في ظهور المخلص الذي سيعيد للأمة عزها وكرامتها.
لقد نقلت كتب التاريخ هذه الخطبة بألفاظ متقاربة، مما يعكس أهمية هذا الحدث في الذاكرة الجماعية للمسلمين. ففي كتاب معالي السبطين وثمرات الأعواد، يتجلى هذا المعنى بوضوح، حيث تكررت الإشارة إلى الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه كجزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة ومصيرها. إن هذه الخطب لم تكن مجرد كلمات، بل كانت دعوة للتأمل في مصير الأمة وتذكيراً بضرورة التمسك بالقيم العليا في مواجهة الظلم والطغيان.
سنستعرض في هذا البحث السياق التاريخي لهذه الخطبة، وما تحمله من معاني ودلالات، وكيف أن الإمام السجاد عليه السلام، رغم كل ما واجهه من صعوبات، استطاع أن يبرز الأمل في قلوب المؤمنين من خلال ذكر الإمام المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف، الذي يمثل رمزاً للعدل والحق في زمن الظلم.
فقد نقلت كتب التاريخ هذه الخطبة باختلافات بسيطة ولكن شاهد البحث والكلام قول الإمام السجاد عليه السلام : « ومنا مهدي هذه الأمة » لقد ورد في كتاب معالي السبطين بهذا اللفظ وفي كتاب ثمرات الأعواد لقد ورد بصيغة « ومنا مهديها »، وقد تكرر هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله عدة روايات: « ومنا مهدي هذه الأمة » وجاء في ألسن الروايات عدة مرات.
بشارة الإمام السجّاد عليه السلام :
إنّ يزيد بن معاوية دعا بخطيب وكان فصيح اللسان قليل المعرفة بربّه ، فقال له : أجمع الناس بالجامع واصعد المنبر فسب علياً وأولاده ، ففعل ما أمر به وزاد وأكثر في مدح يزيد ، فلمّا سمعه زين العابدين عليهالسلام ، قام قائماً على قدميه ، وقال : (أيّها الخطيب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوّء مقعدك من النار) ، ثم التفت إلى يزيد (لعنه الله) وقال : (أتأذن لي حتى أصعد هذه الأعواد وأتكلم في كلمات لله فيهنّ رضاً ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجر وثواب؟).
قال : فأبى يزيد عليه ، فقال له الناس : يا أمير المؤمنين أئذن له فليصعد المنبر ، فلعلّنا نسمع منه شيئاً ، فقال : إذا إنّه صعد لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيخة آل أبي سفيان ، فقيل له : يا أمير وما قدر ما يحسن هذا العليل؟ فقال : إنه من أهل بيت قد زُقّوا العلم زقّاً.
قال : ولم يزالوا به حتى أذن له ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلّى عليه ، ثم قال : ( أيّها الناس أحذركم الدنيا فإنّها دار زوال ، وهي أفنت القرون الماضية ، وهم كانوا أكثر منكم أموالاً وأطول أعماراً ، وقد أكل التراب لحومهم ، وغيّر أحوالهم ، أفتطمعون بعدهم بالبقاء ، هيهات هيهات ، لابد باللحوق والملتقى ، فتذكّروا ما مضى من أعماركم ، وما بقي ، وأفعلوا فيه ما سوف يلتقى عليكم بالأعمال الصالحة قبل انقضاء الأجل ، وفروغ الأمل ، فعن قريب تؤخذون من القصور إلى القبور ، وبأفعالكم تحاسبون ، فكم والله من فاجر قد استكملت عليه الحسرات ، وكم من عزيز قد وقع في مسالك الهلكات ، حيث لا ينفع الندم ، ولا يغاث من الظلم ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ (1).
ثم قال : أيها الناس اُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع : اعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين ، وفُضِّلنا بأنّ منا النبي المختار ، ومنّا الصديق ومنّا الطيار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة ، ومنا مهدي هذه الأمة.
أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي ، أيها الناس أنا بن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حج ولبّى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا من بلغ به جبريل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلى بملائكة السماء مثنى مثنى ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل وما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى.
أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا أله إلّا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين ، أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبييّن ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وتاج البكائين ، وزين العابدين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل طه وياسين ، رسول ربّ العالمين ، أنا ابن المؤيد بجبريل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل المارقين ، والناكثين والقاسطين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأول من استجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأول السابقين ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين الله ، وولي أمر الله ، وعيبة علمة ، سمح سخي بهي ، بهلول زكي ، أبطحي ، رضي ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام ، قاطع الأصلاب ومفرّق الأحزاب ، أربطهم عنانا ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل ، يطحنهم بالحروب إذا ازدلفت الأسنّة ، واقتربت الأعنّة طحن الرحا ، ويذورهم فيها ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، وكبش العراق ، مكّي ، مدني ، خيفي ، عقبي ، بدري ، أحدي ، مهاجري ، من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعرين ، أبو السبطين الحسن والحسين ، ذاك جدّي علي بن أبي طالب عليه السلام.
ثم قال : أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أنا ابن المقتول ظلما ، أنا ابن محزوز الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتى قضى ، أنا ابن طريح كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه على سنان يهدى ، أنا ابن من حرمه من العراق الى الشام تسبى.
فلم يزل يقول أنا أنا حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب وخشي يزيد أن تكون فتنة فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام فلمّا قال الله اكبر ، قال علي عليه السلام : لا شيء أكبر من الله ، فلمّا قال المؤذن : أشهد أن لا إلّا الله ، قال علي عليه السلام : شهد بذلك لحمي وعظمي ودمي ، فلمّا قال المؤذن : أشهد أنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله ، التفت السجاد عليه السلام من فوق المنبر إلى يزيد ، وقال : يا يزيد ، محمّد صلى الله عليه وآله هذا جدّي أم جدّك ؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت ، وإن زعمت أنّه جدّي فلم قتلت عترته وسبيت نساءه ؟! ثم التفت إلى المجلس ، وقال : معاشر الناس هل فيكم من جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فَعَلَتِ الأصوات بالبكاء والنحيب (1).
في ختام هذه المقالة، نجد أن خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام أمام يزيد بن معاوية تمثل لحظة تاريخية فارقة، تجسد فيها صوت الحق في مواجهة الظلم والطغيان. لقد أشار الإمام السجاد عليه السلام، في كلمات قوية ومؤثرة، إلى القيم العليا التي يتمتع بها أهل بيته، موضحاً مكانتهم المرموقة في تاريخ الإسلام، ومؤكداً على أهمية العلم والشجاعة والحلم والمحبة في قلوب المؤمنين.
إن ذكره للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه في هذه الخطبة لم يكن مجرد لذكر اسمه، بل كان تجسيداً للأمل في مستقبل أفضل للأمة الإسلامية. لقد أراد الإمام السجاد عليه السلام أن يذكر الناس بأن الأمل في الفرج لا يزال حاضراً، وأن العدل سيعود يوماً ما، بفضل الله ونعمه.
كما أن استحضار الإمام السجاد عليه السلام لتاريخه العريق ومكانته كابن النبي محمد صلى الله عليه وآله، وابن علي المرتضى عليه السلام يعكس الفخر والاعتزاز بالهوية الإسلامية، ويشدد على ضرورة التمسك بالمبادئ والقيم التي أتى بها الإسلام.
إن هذه الخطبة تبقى درساً للأجيال القادمة، تذكرنا بأهمية المقاومة في وجه الظلم، وتعزز في قلوبنا الإيمان بقدرة الحق على الانتصار، مهما كانت التحديات. فكما قال الإمام السجاد عليه السلام : « ومنا مهدي هذه الأمة »، يبقى الأمل قائماً في قلوب المؤمنين وهو المؤمل الوحيد لاحياء الكتاب وحدوده، وعلينا أن نستمر في العمل من أجل تحقيق العدالة والحق.
الهوامش
1ـ سورة الكهف : الآية ٤٩.
2ـ ثمرات الأعواد /العلامة السيد علي بن الحسين الهاشمي/ المجلّد : 2 / الصفحة : 38 ـ 41 / المكتبة الحيدرية ؛ معالي السبطين / الشيخ مهدي المازندراني / المجلّد : 2 / الصفحة : 178 / منشورات شريف الرضي.
التعلیقات