دور الإمام موسى الكاظم عليه السلام عليه السلام في مواجهة الانحراف والشبهات في المهدويّة
السيد محمد القبانجي
منذ 6 سنواتدوره عليه السلام في مواجهة الانحراف والشبهات
المتأمّل في حياة الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام يجد وبوضوح أنَّه عليه السلام لم يكتف بتأصيل وتثبيت العقيدة المهدوية في قلوب المؤمنين من خلال التصريح بشخص الإمام المهدي عجّل الله فرجه وبيان علاماته والتعريف بعصره كما مرَّ سابقاً ، بل تصدَّىٰ عليه السلام لمحاولات التحريف في الحقيقة المهدوية من خلال عدَّة طرق سار عليها تتمثَّل في :
1 ـ تصريح والإخبار بإمامة نفسه القدسية :
بالرغم من الظرف القاهر الذي كان يعيشه الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام والتقيّة المكثَّفة التي كانت تحيط به وكان طاغوت عصره يتربَّص به لقتله كما جاء في رواية أبي أيّوب النحوي ، قال : بعث إليَّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل ، فأتيته فدخلت عليه وهو جالس علىٰ كرسي وبين يديه شمعة وفي يده كتاب ، قال : فلمَّا سلَّمت عليه رمىٰ بالكتاب إليَّ وهو يبكي ، فقال لي : هذا كتاب محمّد بن سليمان يخبرنا أنَّ جعفر بن محمّد قد مات ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ـ ثلاثاً ـ وأين مثل جعفر ؟ ثمّ قال لي : أُكتب ، قال : فكتب صدر الكتاب ، ثمّ قال : أُكتب إن كان أوصىٰ إلىٰ رجل واحد بعينه فقدّمه واضرب عنقه ، قال : فرجع إليه الجواب أنَّه قد أوصىٰ إلىٰ خمسة واحدهم أبو جعفر المنصور ومحمّد بن سليمان وعبد الله وموسىٰ وحميدة (1).
ولم يكن يصرّح عليه السلام بإمامته بعد شهادة أبيه الإمام جعفر الصادق عليه السلام إلَّا من خلال الكناية والتلميح ، كما ذكر في رواية هشام بن سالم أنَّه قال عليه السلام : « لا حاجة إلىٰ المرجئة ، ولا إلىٰ القدرية ، ولا إلىٰ الزيدية ، ولا إلىٰ المعتزلة ، ولا إلىٰ الخوارج ، إليَّ إليَّ » ، فقلت : جُعلت فداك مضىٰ أبوك ؟ قال : « نعم » ، قلت : مضىٰ موتاً ؟ قال : « نعم » ، قلت : فمن لنا من بعده ؟ فقال : « إن شاء الله أن يهديك هداك » ، قلت : جُعلت فداك ، إنَّ عبد الله يزعم أنَّه من بعد أبيه ، قال : « يريد عبد الله أن لا يعبد الله » ، قال : قلت : جُعلت فداك فمن لنا بعده ؟ قال : « إن شاء الله أن يهديك هداك » ، قال : قلت : جُعلت فداك ، فأنت هو ؟ قال : « لا ، ما أقول ذلك » ، قال : فقلت في نفسي لم أصب طريق المسألة ، ثمّ قلت له : جُعلت فداك ، عليك إمام ؟ قال : « لا ... » (2).
ولكن بعد اشتهار أمره صرَّح عليه السلام أكثر من مرَّة بخلافته وإمامته للأُمَّة كما جاء في رواية أبي بصير ، قال : سمعت العبد الصالح عليه السلام يقول : « لمَّا حضر أبي الموت قال : يا بني لا يلي غسلي غيرك ، فإنّي غسَّلت أبي ، وغسَّل أبي أباه ، والحجَّة يغسِّل الحجَّة » ، قال : « فكنت أنا الذي غمَّضت أبي ، وكفَّنته ، ودفنته بيدي ، وقال : يا بني ، إنَّ عبد الله أخاك يدَّعي الإمامة بعدي ، فدعه ، وهو أوَّل من يلحق بي من أهلي » ، فلمَّا مضىٰ أبو عبد الله عليه السلام أرخىٰ أبو الحسن ستره ، ودعا عبد الله إلىٰ نفسه. قال أبو بصير : جُعلت فداك ، ما بالك حججت العام ، ونحر عبد الله جزوراً ؟ قال : « إنَّ نوحاً لمَّا ركب السفينة وحمل فيها من كلّ زوجين اثنين ، حمل كلّ شيء إلَّا ولد الزنا فإنَّه لم يحمله ، وقد كانت السفينة مأمورة ، فحجَّ نوح فيها ، وقضىٰ مناسكه » ، قال أبو بصير : فظننت أنَّه عرَّض بنفسه ، وقال : « أمَا إنَّ عبد الله لا يعيش أكثر من سنة » ، فذهب أصحابه حتَّىٰ انقضت السنة ، قال : « فهذه فيما يموت » ، قال : فمات في تلك السنة (3).
فالاستدلال علىٰ إمامته وإظهار المعاجز علىٰ يديه عليه السلام خير دليل علىٰ نفيها عن غيره من إخوته مثل إسماعيل وعبد الله الأفطح.
2 ـ شبهة التوقيت والجواب عنها :
سؤال : ( متىٰ الفرج ؟ ) أو ( هل أنت المهدي أو القائم يا ابن رسول الله ؟ ) طالما طُرِحَ علىٰ مسامع أهل البيت عليهم السلام عموماً وليس الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام خلواً من التعرّض لمثل هذا السؤال ، فقد مرَّ نفيه عليه السلام عن نفسه القدسية القائم الذي يملاؤها قسطاً وعدلاً حينما سأله يونس بن عبد الرحمن : ( يا ابن رسول الله ، أنت القائم بالحقّ ؟ ) (4).
وكما نفىٰ عليه السلام شبهة التطبيق المهدوي عليه ، فكذا نفىٰ عليه السلام التوقيت ، ففي رواية علي بن يقطين وهي رواية مهمّة تدلّل علىٰ الحكمة من عدم التوقيت لئلَّا ييأس الناس وتقسو قلوبهم ، قال : قال لي أبو الحسن عليه السلام : « الشيعة تربىٰ بالأماني منذ مأتي سنة » ، قال : وقال يقطين لابنه علي بن يقطين : ما بالنا قيل لنا فكان ، وقيل لكم فلم يكن ؟ قال : فقال له علي : إنَّ الذي قيل لنا ولكم كان من مخرج واحد ، غير أنَّ أمركم حضر ، فأعطيتم محضة ، فكان كما قيل لكم ، وإنَّ أمرنا لم يحضر ، فعلَّلنا بالأماني ، فلو قيل لنا : إنَّ هذا الأمر لا يكون إلَّا إلىٰ مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة لقست القلوب ولرجع عامّة الناس من الإسلام ولكن قالوا : ما أسرعه وما أقربه تألّفاً لقلوب الناس وتقريباً للفرج » (5).
وجعل عليه السلام الركيزة الأساس في العقيدة المهدوية هي انتظار الفرج وعدم الاستعجال في التطبيق والتوقيت ، فقال : « ... وأفضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج » (6).
مواجهة أدعياء المهدوية :
يمكن حصر التيّارات المنحرفة التي ادَّعت المهدوية في زمان الإمام موسى الكاظم عليه السلام في ثلاث فِرَق تختلف بعضها عن البعض الآخر في سعة الانتشار وضيقه وعمق الشبهة وسطحيتها ، وكلّها قد واجهها الإمام عليه السلام وبيَّن زيفها وضلالها ، فانقرض البعض وبقي الآخر ليومنا هذا ، ولنستعرض هذه الفِرَق بشكل مختصر :
1 ـ الناووسية :
وهي الفرقة التي تبنَّت مهدوية الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، قال النوبختي في فِرَق الشيعة : ( ففرقة منها قالت : إنَّ جعفر بن محمّد حيّ لم يمت ولا يموت حتَّى يظهر ويلي أمر الناس وأنَّه هو المهدي ، وزعموا أنَّهم رووا عنه أنَّه قال : إنَّ رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدّقوه فإنّي أنا صاحبكم ، وأنَّه قال لهم : إن جاءكم من يخبركم عنّي أنَّه مرَّضني وغسَّلني وكفَّنني فلا تصدّقوه فإنّي صاحبكم صاحب السيف ، وهذه الفرقة تسمّى الناووسية ، وسُمّيت بذلك لرئيس لهم من أهل البصـرة يقال له : فلان بن فلان الناووس ) (7).
وقال الشهرستاني في الملل والنحل : ( الناووسية أتباع رجل يقال له : ناووس ، وقيل : نُسبوا إلى قرية ناووسا ، قالت : إنَّ الصادق حيّ بعد ولن يموت حتَّى يظهر فيظهر أمره ، وهو القائم المهدي ، ورووا عنه أنَّه قال : لو رأيتم رأسي يدهده عليكم من الجبل فلا تصدّقوا فإنّي صاحبكم صاحب السيف ) (8).
2 ـ الإسماعيلية :
وهي الفرقة الشيعية التي ادَّعت إمامة إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في حياة أبيه ، وزعمت غيبته وعدم وفاته رغم كلّ المشاهدات والتصـريحات والإخبارات بموته في حياة الصادق عليه السلام ، قال النوبختي في فِرَق الشيعة : ( وفرقة زعمت أنَّ الإمام بعد جعفر بن محمّد ابنه إسماعيل بن جعفر وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه وقالوا : كان ذلك علىٰ جهة التلبيس من أبيه علىٰ الناس لأنَّه خاف فغيَّبه عنهم ، وزعموا أنَّ إسماعيل لا يموت حتَّىٰ يملك الأرض يقوم بأمر الناس وأنَّه هو القائم لأنَّ أباه أشار إليه بالإمامة بعده وقلَّدهم ذلك له وأخبرهم أنَّه صاحبه والإمام لا يقول إلَّا الحقّ فلمَّا ظهر موته علمنا أنَّه قد صدق وأنَّه القائم وأنَّه لم يمت ، وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة ) (9).
وقال الشهرستاني في الملل والنحل : ( الإسماعيلية قالوا إنَّ الإمام بعد جعفر إسماعيل نصَّاً عليه باتّفاق من أولاده ، إلَّا أنَّهم اختلفوا في موته في حال حياة أبيه ، فمنهم من قال : لم يمت إلَّا أنَّه أظهر موته تقيَّة من خلفاء بنىٰ العبّاس ، وأنَّه عقد محضراً وأشهد عليه عامل المنصور بالمدينة ، ومنهم من قال : موته صحيح والنصّ لا يرجع قهقرىٰ والفائدة في النصّ بقاء الإمامة في أولاد المنصوص عليه دون غيرهم ، فالإمام بعد إسماعيل محمّد بن إسماعيل ، وهؤلاء يقال لهم : المباركية ، ثمّ منهم من وقف علىٰ محمد بن إسماعيل وقال برجعته بعد غيبته ، ومنهم من ساق الإمامة من المستورين منهم ثمّ في الظاهرين القائمين من بعدهم وهم الباطنية ، وسنذكر مذاهبهم علىٰ الإنفراد ، وإنَّما مذهب هذه الفرقة الوقف علىٰ إسماعيل بن جعفر أو محمّد بن إسماعيل ) (10).
3 ـ الواقفة :
وهي الفرقة التي وقفت علىٰ إمامة الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام ولم تعترف وتقرّ بإمامة الإمام علي الرضا عليه السلام ، وادَّعت غيبة الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام وأنَّه حيّ لم يمت ، قال النوبختي في فِرَق الشيعة : ( وقالت الفرقة الثانية : إنَّ موسىٰ بن جعفر لم يمت وأنَّه حيّ ولا يموت حتَّىٰ يملك شرق الأرض وغربها ويملأها كلّها عدلاً كما ملئت جوراً وأنَّه القائم المهدي ، وزعموا أنَّه خرج من الحبس ولم يرَه أحد نهاراً ولم يعلم به وأنَّ السلطان وأصحابه ادَّعوا موته وموَّهوا علىٰ الناس وكذبوا وأنَّه غاب عن الناس واختفىٰ ورووا في ذلك روايات عن أبيه جعفر بن محمّد عليه السلام أنَّه قال : هو القائم المهدي فإن يدهده رأسه عليكم من جبل فلا تصدّقوا فإنَّه القائم ) (11).
ومن الملفت للنظر أنَّ بداية نشوء هذه الفرقة وبداية تشكّلها كان في عصـر الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام وفي أواخر حياته ، فليس من الصحيح القول إنَّها نشأت وتشكَّلت بعد شهادته عليه السلام ، ولذلك نتحفَّظ علىٰ ما جاء في كتاب الغيبة للطوسي قدّس سرّه : ( ... ثمّ دُفِنَ عليه السلام ورجع الناس ، فافترقوا فرقتين : فرقة تقول : مات ، وفرقة تقول : لم يمت ) (12) ، فإنَّ الملاحِظ في تأريخ هذه الفرقة يرىٰ وبوضوح أنَّها نشأت في أيّام حبس الإمام عليه السلام ، ولذلك حينما عرض جثمانه الشـريف علىٰ جمهور الناس نودي عليه : ( هذا موسىٰ بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنَّه لا يموت ، فانظروا إليه ) (13).
ومع كلّ هذه التيّارات المدَّعية للمهدوية الضاغطة في الساحة الإمامية وغيرها من دعاوىٰ الإمامة كالفطحية (14) ، فإنَّ الإمام عليه السلام عمل بشكل مدروس لمواجهتها والتصدّي لها وبيان زيفها وبطلانها ، وذلك من خلال عدَّة خطوات قام بها ، وقد مهَّد له أبوه الإمام جعفر الصادق عليه السلام في بعضها كما في الإسماعيلية ، حيث أكَّد عليه السلام وفاة إسماعيل ابنه ليقطع دابر المرجفين والمشكّكين ، كما جاء في الغيبة للنعماني عن زرارة بن أعين ، أنَّ قال : دخلت علىٰ أبي عبد الله عليه السلام وعن يمينه سيّد ولده موسىٰ عليه السلام وقدّامه مرقد مغطّىٰ ، فقال لي : « يا زرارة ، جئني بداود بن كثير الرقّي وحمران وأبي بصير » ، ودخل عليه المفضَّل بن عمر ، فخرجت فأحضرته من أمرني بإحضاره ، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتَّىٰ صرنا في البيت ثلاثين رجلاً ، فلمَّا حشد المجلس قال : « يا داود ، اكشف لي عن وجه إسماعيل » ، فكشف عن وجهه. فقال أبو عبد الله عليه السلام : « يا داود ، أحيٌّ هو أم ميّت ؟ » ، قال داود : يا مولاي ، هو ميّت ، فجعل يعرض ذلك علىٰ رجل رجل حتَّىٰ أتىٰ علىٰ آخر من في المجلس وانتهىٰ عليهم بأسرهم ، كلّ يقول : هو ميّت ، يا مولاي. فقال : « اللّهمّ اشهد » ، ثمّ أمر بغسله وحنوطه وإدراجه في أثوابه ، فلمَّا فرغ منه قال للمفضَّل : « يا مفضَّل ، احسر عن وجهه » ، فحسر عن وجهه ، فقال : « أحيٌّ هو أم ميّت ؟ » ، فقال : ميّت. قال : « اللّهمّ اشهد عليهم » ، ثمّ حُمِلَ إلىٰ قبره ، فلمَّا وُضِعَ في لحده ، قال : « يا مفضَّل ، اكشف عن وجهه » ، وقال للجماعة : « أحيٌّ هو أم ميّت ؟ » ، قلنا له : ميّت. فقال : « اللّهمّ اشهد ، واشهدوا فإنَّه سيرتاب المبطلون ، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم ـ ثمّ أومأ إلىٰ موسىٰ عليه السلام ـ والله متمّ نوره ولو كره المشركون » ، ثمّ حثونا عليه التراب ، ثمّ أعاد علينا القول ، فقال : « الميّت المحنَّط المكفَّن المدفون في هذا اللحد من هو ؟ » قلنا : إسماعيل. قال : « اللّهمّ اشهد » ، ثمّ أخذ بيد موسىٰ عليه السلام ، وقال : « هو حقّ والحقّ منه إلىٰ أن يرث الله الأرض ومن عليها » (15).
وعن إسحاق بن عمّار الصيرفي ، قال : وصف إسماعيل بن عمّار أخي لأبي عبد الله عليه السلام دينه واعتقاده ، فقال : إنّي أشهد أن لا إله إلَّا الله ، وأنَّ محمّداً رسول الله ، وأنَّكم ووصفهم ـ يعني الأئمّة ـ واحداً واحداً حتَّىٰ انتهىٰ إلىٰ أبي عبد الله عليه السلام ، ثمّ قال : وإسماعيل من بعدك ؟ قال : « أمَّا إسماعيل فلا » (16).
وجاء في الإرشاد أنَّه جزع أبو عبد الله عليه السلام علىٰ إسماعيل جزعاً شديداً ، وحزن عليه حزناً عظيماً ، وتقدَّم سريره بلا حذاء ولا رداء ، وأمر بوضع سريره علىٰ الأرض قبل دفنه مراراً كثيرة ، وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه ، يريد عليه السلام بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانّين خلافته له من بعده ، وإزالة الشبهة عنهم في حياته (17).
هذا مضافاً إلىٰ نصّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام علىٰ ولده الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام بالخلافة والإمامة من بعده في عشرات المواقف والأزمنة ، منها ما رواه الصدوق قدّس سرّه في كمال الدين عن المفضَّل بن عمر ، قال : دخلت علىٰ سيّدي جعفر بن محمّد عليهما السلام ، فقلت : يا سيّدي ، لو عهدت إلينا في الخلف من بعدك ؟ فقال لي : « يا مفضَّل ، الإمام من بعدي ابني موسىٰ ، والخلف المأمول المنتظر ( م ح م د ) ابن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسىٰ » (18).
ومنها ما رواه الكليني قدّس سرّه عن صفوان الجمّال ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قال له منصور بن حازم : بأبي أنت وأُمّي إنَّ الأنفس يغدا عليها ويراح ، فإذا كان ذلك فمن ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام : « إذا كان ذلك فهو صاحبكم » ، وضرب بيده علىٰ منكب أبي الحسن عليه السلام الأيمن في ما أعلم ، وهو يومئذٍ خماسي ، وعبد الله بن جعفر جالس معنا (19).
حتَّىٰ أنَّ الطبرسي قدّس سرّه ذكر في كتابه إعلام الورىٰ أنَّ الجماعة التي نقلت النصّ عليه من أبيه وجدّه وآبائه عليهم السلام قد بلغوا من الكثرة إلىٰ حدٍّ يمتنع معه منهم التواطؤ علىٰ الكذب ، إذ لا يحصرهم بلد ومكان ، ولا يضمّهم صقع ، ولا يحصيهم إنسان (20).
ويمكن استعراض تحرّك الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام في عدَّة خطوات قام بها :
الخطوة الأولى : النصّ على ولده الإمام علي الرضا عليه السلام :
حيث تنوَّع النصّ عنه عليه السلام لولده في أكثر من مورد ومحفل ، منها ما رواه الكليني قدّس سرّه بسنده عن داود الرقّي ، قال : قلت لأبي إبراهيم عليه السلام : جُعلت فداك ، إنّي قد كبر سنّي ، فخذ بيدي من النار ، قال : فأشار إلىٰ ابنه أبي الحسن عليه السلام فقال : « هذا صاحبكم من بعدي » (21).
ومنها ما رواه الصدوق قدّس سرّه بسنده حيدر بن أيّوب ، قال : كنّا بالمدينة في موضع يُعرَف بالقبا فيه ابن زيد بن علي ، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا ، فقلنا له : جعلنا الله فداك ، حبسك ؟ قال : دعا أبو إبراهيم عليه السلام اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمة عليهما السلام فأشهدنا لعلىٰ ابنه بالوصيّة والوكالة في حياته وبعد موته ، وأنَّ أمره جايز عليه وله ... (22).
ومنها ما رواه الصدوق قدّس سرّه أيضاً بسنده عن عبد الله بن الحرث ، قال : بعث إلينا أبو إبراهيم عليه السلام فجمعنا ثمّ قال : « أتدرون لِـمَ جمعتكم ؟ » ، قلنا : لا ، قال : « اشهدوا أنَّ عليَّاً ابني هذا وصيّي والقيّم بأمري وخليفتي من بعدي ... » (23).
ومنها ما رواه الطوسي قدّس سرّه بسنده عن محمّد بن عمر بن يزيد وعلي بن أسباط جميعاً ، قالا : قال لنا عثمان بن عيسىٰ الرواسي : حدَّثني زياد القندي وابن مسكان ، قالا : كنّا عند أبي إبراهيم عليه السلام إذ قال : « يدخل عليكم الساعة خير أهل الأرض » ، فدخل أبو الحسن الرضا عليه السلام ـ وهو صبي ـ. فقلنا : خير أهل الأرض ! ثمّ دنا فضمَّه إليه فقبَّله ، وقال : « يا بني تدري ما قال ذان ؟ » ، قال : « نعم يا سيّدي ، هذان يشكّان فيَّ ». قال علي بن أسباط : فحدَّثت بهذا الحديث الحسن بن محبوب ، فقال : بتر الحديث ، لا ولكن حدَّثني علي بن رئاب أنَّ أبا إبراهيم عليه السلام قال لهما : « إن جحدتماه حقّه أو خنتماه فعليكما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، يا زياد لا تنجب أنت وأصحابك أبدا » ، قال علي بن رئاب : فلقيت زياد القندي ، فقلت له : بلغني أنَّ أبا إبراهيم عليه السلام قال لك كذا وكذا ، فقال : أحسبك قد خولطت ، فمرَّ وتركني فلم أُكلّمه ولا مررت به. قال الحسن بن محبوب : فلم نزل نتوقَّع لزيادة دعوة أبي إبراهيم عليه السلام حتَّىٰ ظهر منه أيّام الرضا عليه السلام ما ظهر ، ومات زنديقاً (24).
وقد أثبت لنا التراث الروائي (٤٩) رواية عن الإمام موسىٰ الكاظم عليه السلام في النصّ علىٰ ولده الإمام علي الرضا عليه السلام.
الخطوة الثانية : الإخبار عن وفاته زماناً ومكاناً وكيفيّةً :
فقد أخبر عليه السلام عن تحقّق موته في أمكنة عدَّة ولأشخاص مختلفين ممَّا يقطع كلّ أسباب الشكّ والريب ويمنع كلّ من يريد التصيّد وإلقاء الشبهات بحياته وعينه ، وهذا ما نجده جليَّاً فيما رواه الصدوق قدّس سرّه بسنده عن عمر بن واقد في حديث طويل ، قال : ثمّ إنَّ سيّدنا موسىٰ عليه السلام دعا بالمسيّب وذلك قبل وفاته بثلاثة أيّام وكان موكَّلاً به ، فقال له : « ... ارفع رأسك يا مسيّب واعلم أنّي راحل إلى الله عزّ وجلّ في ثالث هذا اليوم » ، قال : فبكيت فقال لي : « لا تبكِ يا مسيّب ، فإنَّ عليَّاً ابني هو إمامك ومولاك بعدي فاستمسك بولايته فإنَّك لن تضلّ ما لزمته ... » (25).
ونرىٰ هذا المعنىٰ واضحاً فيما رواه الطوسي قدّس سرّه في الغيبة بسنده عن محمّد بن عبّاد : فأخبرني موسىٰ بن يحيىٰ بن خالد : أنَّ إبراهيم عليه السلام قال ليحيىٰ : « يا أبا علي ، أنا ميّت ، وإنَّما بقي من أجلي أُسبوع ، أُكتم موتي وائتني يوم الجمعة عند الزوال ، وصلِّ عليَّ أنت وأوليائي فرادىٰ ، وانظر إذا سار هذا الطاغية إلىٰ الرقَّة ، وعاد إلىٰ العراق لا يراك ولا تراه لنفسك ، فإنّي رأيت في نجمك ونجم ولدك ونجمه أنَّه يأتي عليكم فاحذروه » ، ثمّ قال : « يا أبا علي ، أبلغه عنّي يقول لك موسىٰ بن جعفر : رسولي يأتيك يوم الجمعة فيخبرك بما ترىٰ ، وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي علىٰ صاحبه ، والسلام » ، فخرج يحيىٰ من عنده ، واحمرَّت عيناه من البكاء حتَّىٰ دخل علىٰ هارون فأخبره بقصَّته وما ردَّ عليه ، فقال [ له ] هارون : إن لم يدَّع النبوَّة بعد أيّام فما أحسن حالنا. فلمَّا كان يوم الجمعة توفّي أبو إبراهيم عليه السلام ، وقد خرج هارون إلىٰ المدائن قبل ذلك ، فأخرج إلىٰ الناس حتَّىٰ نظروا إليه ، ثمّ دُفِنَ عليه السلام ورجع الناس ، فافترقوا فرقتين : فرقة تقول : مات ، وفرقة تقول : لم يمت ) (26).
فالإعداد لهذه التظاهرة الكبرىٰ كان أحد أهمّ أسبابها هو إشهار موته والإعلان عن وفاته عليه السلام ليقطع كلّ سبيل علىٰ المدَّعين والمنتحلين والذين في قلوبهم مرض ممَّن يذهب إلىٰ غيبته وعدم وفاته وأنَّه هو المهدي المنقذ.
الخطوة الثالثة : نفيه المباشر أنْ يكون هو المهدي :
وذلك من خلال تصـريحه علىٰ أنَّ مهدي الأُمَّة يأتي بعده بسنين في قوله : « أمَا إنَّهم يفتنون بعد موتي ، فيقولون : هو القائم ، وما القائم إلَّا بعدي بسنين » (27).
وكذا تصـريحه عليه السلام الذي يقول فيه : « أنا القائم بالحقّ ولكن القائم الذي يطهِّر الأرض من أعداء الله عزّ وجلّ ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً هو الخامس من ولدي له غيبة يطول أمدها خوفاً علىٰ نفسه ، يرتدُّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون ... » (28) ، وغيرها من الإخبارات المتوحّدة في المضمون والمختلفة في الكيفية.
* * *
الهوامش
1. الكافي 1 : 310 / باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن موسى عليه السلام / ح 13.
2. الكافي 1 : 315 / باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ والمبطل ... / ح 7.
3. دلائل الإمامة : 328 و 329 / ح ( 285 / 28 ).
4. راجع ( ص 10 ).
5. الكافي 1 : 369 / باب كراهية التوقيت / ح 6.
6. تحف العقول : 403.
7. فِرَق الشيعة : 67.
8. الملل والنحل 1 : 166 و 167.
9. فِرَق الشيعة : 67 و 68.
10. الملل والنحل 1 : 167 و 168.
11. فِرَق الشيعة : 80.
12. الغيبة للطوسي : 25 / ح 5.
13. الإرشاد 2 : 243.
14. وهم الذين قالوا : انَّ الإمامة بعد جعفر في ابنه عبد الله بن جعفر الأفطح ، وذلك أنَّه كان عند مضيّ جعفر أكبر ولده سنَّاً وجلس مجلس أبيه وادَّعى الإمامة ووصيّة أبيه ، واعتلّوا بحديث يروونه عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد أنَّه قال : الإمامة في الأكبر من ولد الإمام ، فمال إلى عبد الله والقول بإمامته جلّ من قال بإمامة أبيه جعفر بن محمّد غير نفر يسير عرفوا الحقّ فامتحنوا عبد الله بمسائل في الحلال والحرام من الصلاة والزكاة وغير ذلك فلم يجدوا عنده علماً. ( فِرَق الشيعة : 77 و 78 ).
15. الغيبة للنعماني : 347 و 348 / باب 24 / ح 8.
16. الغيبة للنعماني : 343 / باب 24 / ح 1.
17. الإرشاد 2 : 209 و 210.
18. كمال الدين : 334 / باب 33 / ح 4.
19. الكافي 1 : 309 / باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن موسى عليه السلام / ح 6.
20. إعلام الورى 2 : 9.
21. الكافي 1 : 312 / باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن الرضا عليه السلام / ح 3.
22. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 37 / ح 16.
23. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 36 / ح 14.
24. الغيبة للطوسي : 68 / ح 71.
25. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 95
26. الغيبة للطوسي : 25 / ح 5.
27. اختيار معرفة الرجال 2 : 760 / ح 870.
28. كمال الدين : 361 / باب 34 / ح 5.
مقتبس من كتاب : [ العقيدة المهدوية في عصر الإمام موسى الكاظم عليه السلام ] / الصفحة : 20 ـ 34
التعلیقات