خطوط الدعاء العامة وأثرها المعرفي في دعاء الندبة
الشيخ محمد السند
منذ يومالاصطفاء وموقعية الأنبياء
هناك نقطة مشتركة في النصف الأول من الدعاء يبين فيها فلسفة بعثة الرسل والأنبياء علیهم السلام، ثم يبين حقيقة الاصطفاء والذي خاض فيه العلماء من المتكلمين من الفريقين وكذلك الفلاسفة، ولكن بقيت فيه من العقد الشيء الكثير، هل الاصطفاء جبر أو تفویض کسبي؟ أم هو منحة مجانية (هبة) خص الله بها بعض عباده؟
وفاتهم أنهم لو تدبروا المقدمة من هذا الدعاء لعلموا بعضا من حقيقته: « اللّٰهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَىٰ مَا جَرىٰ بِهِ قَضاؤُكَ فِي أَوْلِيائِكَ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَدِينِكَ، إِذِ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزِيلَ مَا عِنْدَكَ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي لَاٰ زَوالَ لَهُ وَلَا اضْمِحْلالَ، بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي دَرَجاتِ هٰذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَزُخْرُفِها وَزِبْرجِها، فَشَرَطُوا لَكَ ذٰلِكَ، وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفاءَ بِهِ، فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ الْعَلِيَّ وَالثَّناءَ الْجَلِيَّ ».
فالاصطفاء ليس جبرا، وإنما هو جدارة في مواطن عديدة، والصفة الاصطفائية هي أعلى مراتب الاختيار والقدرة والقوة، بينما الصفة الاكتسابية هي متوسطة في الاختيار.
أيضا هناك نقطة مشتركة في الدعاء، وهي إشارة وشرح لموقعية الأنبياء من أولي العزم، وبعدها يركّز على موقعية رسول الله صلی الله علیه و آله وهيمنة مقامه على الآخرين، ثم ينتقل إلى أمير المؤمنین علیه السلام ونهجه، ومن ثم بقية الحجج صلوات الله عليهم أجمعين، هذا النصف الأول هو سر وفلسفة النصف الثاني الذي هو على ثلاثة محاور وأحد تلك المحاور هو دمج لهوية المعصومين علیهم السلام بهوية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، إذن لابد من استعراض لهويات الأنبياء في النصف الأول لكي يلتفت الإنسان إلى صعوبة فهم الهوية المهدوية، فلا تكفيك المعرفة حتى تعرف هوية جميع الأنبياء والأوصياء، لأنه جمع الجمع عجل الله تعالی فرجه الشریف.
فالمشروع المهدوي مشروع جامع لكل مشاريع أئمة أهل البيت عليهم السلام .
إكمال الحجة وسد الذرائع
« النصف الأول » من دعاء الندبة يشرح فلسفة الاصطفاء، وأن هناك جهة مشتركة في كل طبقات الاصطفاء، من النبوة والإمامة وغيرها من المراتب هي إكمال الحجة وسد طريق على من تذرع بعدم الأنذار: « وَكُلٌّ شَرَعْتَ لَهُ شَرِيعَةً، وَنَهَجْتَ لَهُ مِنْهاجاً، وَتَخَيَّرْتَ لَهُ أَوْصِياءَ مُسْتَحْفِظاً بَعْدَ مُسْتَحْفِظٍ، مِنْ مُدَّةٍ إِلَىٰ مُدَّةٍ، إِقامَةً لِدِينِكَ، وَحُجَّةً عَلَىٰ عِبادِكَ، وَلِئَلَّا يَزُولَ الْحَقُّ عَنْ مَقَرِّهِ، وَيَغْلِبَ الْباطِلُ عَلَىٰ أَهْلِهِ وَلَاٰ يَقُولَ أَحَدٌ لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً مُنْذِراً، وَأَقَمْتَ لَنا عَلَماً هادِياً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزىٰ » ، هذه هي الفلسفة العامة، فالأمم تتبع سبيل الله وصراطه كي تفد إلى لقاء الله بطریق نیر واضح.
أما « النصف الثاني » من الدعاء فإنه يبين مقامات سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله، و مقامات أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والأئمة المعصومين علیهم السلام أجمعين.
وهذا النصف فيه أركان ثلاثة: الأول فيهن يبين غايات مشروع الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف، ويجب أن لا يتوهم أحد أنها خاصة بزمن الظهور، بل هي مسؤوليات الإمام المهدي علیه السلام منذ بدء الغيبة الصغرى حتى ظهوره المقدس وما بعده تقع على عاتقه (عجل الله تعالی فرجه) وعليه التدرج في إنجازها، ويجب أن لا يظن المؤمن أن هذه الغايات والمشاريع هي ما بعد الظهور فقط، وإلا سيكون هذا الأمر ترف فكري، وهذه جدلية خطيرة في الفكر الشيعي، من الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل بأن انجاهم بموسی علیه السلام: ﴿ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ (1)، مثال ضربه الله سبحانه وتعالى للمهدي عليه السلام حسب روایات أهل البيت علیهم السلام، ما جرى على بني إسرائيل في إنتظار منقذهم يجري على هذه الأمة المنتظرة لمنقذ البشرية صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه شریف ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (2) والعبرة في قصص الماضين من الأنبياء قاعدة أصيلة في القرآن الكريم لا تتوقف عند شخص النبي موسى أو شخص النبي يوسف علیهم السلام، بل الغرض الأصلي هو «محمد وآل محمد عليهم الصلاة والسلام»، ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ﴾ (3).
أنه نور ساطع، وبحضور القلب يتضح المطلب، وأن المقصود فيما ذكر لا يعني أن نتوقف عند هؤلاء الأنبياء علیهم السلام، نعم نؤمن بهم ونصدق برسل الله وكتبه، ولكن المقصود شيء أعظم، فالمراد الجدي دائما أعظم من المراد الاستعمالي.
الإعجاز في الخاتمة
يجب التذكير بنكتة مهمة، وهي أن الأئمة المتأخرين صلوات الله عليهم في رواية أدعيتهم والزيارات والمعارف المنقولة عنهم لها خاصية تختلف عن خاصية أبائهم، فهي تكون دائما خلاصة وزيادة لما يروى عن المعصومين الأوائل من أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام، ومتن دعاء الندبة أحد براهين الأعجاز في هذا الباب.
والسبب الرئيس في اختلاف الخواص هو دور كل إمام، وما يتطلبه التدرج في التربية والتعليم شبيه التعليم المدرسي، فما روي عن رسول الله صلی الله عليه و آله يختلف عما روي عن أصحاب الكساء لاختلاف الدور والمرحلة، ودائما البدايات هي صاحبة الهيمنة كون التأسيس فيها، ولا تحتاج إلى تفاصيل كثيرة كالتي يتطلبها عصر الإمام الصادق علیه السلام مثلا والذي ضخ الكثير من التفاصيل المتعلقة بفروع الأحكام، حتى سمي الإمامية الاثني عشرية بالمذهب الجعفري.
الندبة من سنن المعصومين
الندبة للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه شریف سنة من سنن المعصومين علیهم السلام، وقد روي في ذلك الكثير.
منها ما رواه الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنین علیه السلام، قال: « أتيت أمير المؤمنين فوجدته متفكرا ينكت في الأرض، فقلت: يا أمير المؤمنين ما لي أراك متفکرا تنكت في الأرض، أرغبة منك فيها؟ قال: لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا يوما قط، ولكني فكرت في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملأها عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا، يكون له حيرة وغيبة يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون، فقلت: إن هذا الكائن ؟، قال: نعم كما أنه مخلوق، فإني لك بهذا الأمر يا أصبغ، أولئك خيار هذه الأمة مع خيار أبرار هذه العترة، قلت: وما يكون بعد ذلك؟ قال: الله يفعل ما يشاء، فإن لله إرادات وبداءات وغايات ونهايات » (4).وكذلك ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام، عن سدير الصيرفي، قال: دخلت أنا والمفضل بن عمر، وأبو بصير، وأبان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله الصادق علیه السلام فرأيناه جالسا على التراب وعليه مسح خیبري مطوق بلا جيب، مقصر الكمين، وهو يبكي بكاء الواله الثکلی، ذات الكبد الحري، قد نال الحزن من وجنتيه، وشاع التغيير في عارضيه، وأبلى الدموع محجريه وهو يقول: «سيدي غيبتك نفت رقادي، وضيَّقت عليّ مهادي، وابتزّت مني راحة فؤادي، سيدي غيبتك أوصلت مصابي بفجايع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد يفنى الجمع والعدد، فما أحسّ بدمعة ترقی من عيني وأنين يُفتر من صدري عن دوارج الرزایا وسوالف البلايا إلا مثل بعيني عن غوابر أعظمها وأفظعها، وبواقي أشدها وأنكرها ونوائب مخلوطة بغضبك، ونوازل معجونة بسخطك.
قال سدیر: فاستطارت عقولنا ولها، وتصدعت قلوبنا جزعا من ذلك الخطب الهائل، والحادث الغائل، وظننا أنه سمت لمكروهة قارعة، أو حلت به من الدهر بائقة، فقلنا: لا أبكي الله يا ابن خير الورى عينيك، من أية حادثة تستنزف دمعتك وتستمطر عبرتك ؟ وأية حالة حتمت عليك هذا المأتم ؟.
قال: فزفر الصادق علیه السلام زفرة انتفخ منها جوفه، واشتد عنها خوفه، وقال: ويلكم نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم، وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، الذي خص الله به محمدا والأئمة من بعده علیهم السلام ، وتأملت منه مولد قائمنا وغيبته وإبطاءه و طول عمره، وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان، وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته، وارتداد أكثرهم عن دينهم وخلعهم ربقة الاسلام من أعناقهم التي قال الله تقدس ذكره:« وَکُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِی عُنُقِهِ » (5)-يعني الولاية - فأخذتني الرقة، واستولت علي الأحزان.... » (6).
أيضا ما رواه دعبل الخزاعي عن الإمام الرضا علیه السلام، قال: أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى علیهم السلام قصيدتي التي أوّلها:
مدارس آیات خلت من تلاوة*** ومنزل وحي مقفر العرصات
فلما انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خارج*** يقوم على اسم الله والبركاتِ
يميّز فينا كلّ حقّ وباطل*** ويجزي على النعماء والنقماتِ
بکی الرضا علیه السلام بكاء شديدا، ثم رفع رأسه إلى فقال لي: « یا خزاعي، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ... » (7).
كذلك بكاء الإمام الجواد علیه السلام على الإمام المهدي عج الله تعالی فرجه شریف ، روی الصقر بن أبي دلف قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا علیهم السلام، يقول: « إن الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه، ثم سكت، فقلت له: يا ابن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى بكاء شديدا ثم قال: إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر، فقلت له: يا ابن رسول الله لم سمي القائم؟ قال: لأنه يقوم بعد موت ذکره، وارتداد أكثر القائلين بإمامته، فقلت له: ولم سمي المنتظر؟ قال: لأن له غيبة تكثر أيامها ويطول أمدها، فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون ويكذب فيها الوقاتون، ويهلك فيها المستعجلون وينجو فيها المسلمون » (8).
أيضا بكاء الإمام الحسن العسكري علیه السلام، قال أبو سهل في رواية طويلة: «...فلما مثل الصبي ـ أي الإمام المهدي علیه السلام ـ بين يديه سلم وإذا هو دري اللون، وفي شعر رأسه قطط، مفلج الأسنان، فلما رآة الحسن بکی... » (9).
عندما يقضي معصوم ليلة كاملة أو ليالي وهو يبكي على صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، ويناديه بهذا القول: «سيدي غيبتك نفت رقادي»، فأي جفاء هذا الذي نعيشه نحن مع إمام زماننا أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، في قبال هذا الذي يصدر من آبائه الطاهرين في التعامل معه!.
الهوامش:
1. سورة الأعراف: الآية 141.
2. سورة يوسف: الآية 111.
3. سورة النساء : الآية 54.
4. الشيخ المفيد، الاختصاص، ص209.
5. سورة الإسراء : الآية 13.
6. الطوسي، الغيبة، ص173.
7. الصدوق، عیون أخبار الرضا، ج1، ص 297، ح 35.
8. الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة، ج2، ص 378.
مقتبس من كتاب المشروع السياسي للامام المهدي عجل الله تعالي فرجه شريف للشيخ محمد السند / الصفحة : 59 ـ 68.
التعلیقات