الجمعة لصاحب العصر: تأويل الإمام الهادي لحديث لا تعادوا الأيام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 8 ساعاتعندما سُئل الإمام الهادي عليه السلام عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله : « لَا تُعَادُوا الْأَيَّامَ فَتُعَادِيَكُمْ » ، لم يكتفِ بالإجابة على مستوى المعنى اللغوي أو المجازي ، بل فتح نافذة على سرّ من أسرار الإمامة ، وكشف عن تأويلٍ باطنيّ يُعيد تشكيل فهم الزمن نفسه في ضوء الولاية. أجاب الإمام قائلًا : « الْأَيَّامُ نَحْنُ ، بِنَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ » ، وهنا تتضح خريطة الوجود من منظور أهل البيت عليهم السلام : كل يوم من أيام الأسبوع يمثل إمامًا معصومًا ، بدءًا من رسول الله صلى الله عليه وآله يوم السبت ، وانتهاءً بالجمعة ، يوم الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف ، الذي به تُختم دورة الإمامة وتُملأ الأرض قسطًا وعدلًا.
في هذه الرواية الشريفة ، لا نقرأ شرحًا مجازيًا للأيام ، بل نواجه بنية رمزية تُحمِّل الزمان بالمعنى الإمامي ، حيث يتحول كل يوم إلى كيان حيّ يرتبط بوجود إمامٍ من أئمة الهدى. فالجمعة – آخر الأيام – ليست مجرد رمز للانتظار ، بل هي يوم صاحب العصر والزمان ، الإمام الغائب الحاضر ، الذي فيه تكتمل دورة النور ، وتجتمع إليه عصابة الحق.
هذا البيان العرفاني لا يأتي في ظرف اعتيادي ، بل يُروى في خضم الخوف والاضطراب ، حيث كان الإمام علي الهادي عليه السلام معتقلًا بأمر المتوكل العباسي ، وحوله جنود الظلم وسيوف الحقد. ومع ذلك ، وسط هذا الحصار ، يُقدّم هذا المعنى العظيم إلى أحد خواصّه ـ الصقر بن أبي دلف ـ وكأنه يحمّله عهدًا ومعرفة لا تصلح إلا لقلوب ثبتت على المحجة رغم الرعب والتقية.
حديث الصَّقْرِ بْنِ أَبِي دُلَفَ قَالَ : « لَمَّا حَمَلَ الْمُتَوَكِّلُ سَيِّدَنَا أبي الْحَسَنِ عليه السلام جِئْتُ لِأَسْأَلَ عَنْ خَبَرِهِ قَالَ فَنَظَرَ إِلَيَّ حَاجِبُ الْمُتَوَكِّلِ (1) فَأَمَرَ أَنْ أُدْخَلَ إِلَيْهِ فَأُدْخِلْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا صَقْرُ مَا شَأْنُكَ ؟.
فَقُلْتُ : خَيْرٌ أَيُّهَا الْأُسْتَاذُ.
فَقَالَ : اقْعُدْ.
قَالَ : الصَّقْرُ فَأَخَذَنِي مَا تَقَدَّمَ وَ مَا تَأَخَّرَ (2) وَ قُلْتُ أَخْطَأْتُ فِي الْمَجِيءِ.
قَالَ : فَوَحَى النَّاسَ عَنْهُ (3) ثُمَّ قَالَ : مَا شَأْنُكَ وَ فِيمَ جِئْتَ.
قُلْتُ : لِخَبَرٍ مَا.
قَالَ : لَعَلَّكَ جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ خَبَرِ مَوْلَاكَ.
فَقُلْتُ : لَهُ وَ مَنْ مَوْلَايَ؟ مَوْلَايَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ : اسْكُتْ مَوْلَاكَ هُوَ الْحَقُّ ، لَا تَتَحَشَّمْنِي فَإِنِّي عَلَى مَذْهَبِكَ.
فَقُلْتُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ.
فَقَالَ : أَ تُحِبُّ أَنْ تَرَاهُ.
فَقُلْتُ : نَعَمْ.
فَقَالَ : اجْلِسْ حَتَّى يَخْرُجَ صَاحِبُ الْبَرِيدِ. قَالَ : فَجَلَسْتُ فَلَمَّا خَرَجَ. قَالَ : لِغُلَامٍ لَهُ خُذْ بِيَدِ الصَّقْرِ فَأَدْخِلْهُ إِلَى الْحُجْرَةِ الَّتِي فِيهَا الْعَلَوِيُّ الْمَحْبُوسُ ، وَ خَلِّ بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُ.
قَالَ : فَأَدْخَلَنِي الْحُجْرَةَ ، وَ أَوْمَأَ إِلَى بَيْتٍ فَدَخَلْتُ فَإِذَا هُوَ عليه السلام جَالِسٌ عَلَى صَدْرِ حَصِيرٍ وَ بِحِذَاهُ قَبْرٌ مَحْفُورٌ.
قَالَ : فَسَلَّمْتُ ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ ، ثُمَّ أَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ فَجَلَسْتُ ، ثُمَّ قَالَ لِي : يَا صَقْرُ مَا أَتَى بِكَ؟
قُلْتُ : يَا سَيِّدِي جِئْتُ أَتَعَرَّفُ خَبَرَكَ.
قَالَ : ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى الْقَبْرِ وَ بَكَيْتُ ، فَنَظَرَ إِلَيَّ وَ قَالَ : يَا صَقْرُ لَا عَلَيْكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْنَا بِسُوءٍ. فَقُلْتُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ.
ثُمَّ قُلْتُ : يَا سَيِّدِي حَدِيثٌ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله لَا أَعْرِفُ مَعْنَاهُ.
قَالَ : فَمَا هُوَ ؟ قُلْتُ : قَوْلُهُ صلى الله عليه وآله : لَا تُعَادُوا الْأَيَّامَ فَتُعَادِيَكُمْ مَا مَعْنَاهُ. فَقَالَ : نَعَمْ ، الْأَيَّامُ نَحْنُ بِنَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ.
فَالسَّبْتُ اسْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله ، وَ الْأَحَدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَ الْإِثْنَيْنِ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ ، وَ الثَّلَاثَاءُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ وَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ ، وَ الْأَرْبِعَاءُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى وَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَ أَنَا ، وَ الْخَمِيسُ ابْنِيَ الْحَسَنُ ، وَ الْجُمُعَةُ ابْنُ ابْنِي ، وَ إِلَيْهِ تَجْتَمِعُ عِصَابَةُ الْحَقِّ ، وَ هُوَ الَّذِي يَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَ ظُلْماً ، فَهَذَا مَعْنَى الْأَيَّامِ وَ لَا تُعَادُوهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيُعَادُوكُمْ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ : عليه السلام وَدِّعْ وَ اخْرُجْ فَلَا آمَنُ عَلَيْكَ (4) » (5).
الخاتمة
تكشف الرواية عن واقعٍ خانقٍ عاشه أصحاب الإمام الهادي عليه السلام ، حيث كانت زيارة إمامهم فعلًا محفوفًا بالخطر، ومجرد محاولة السؤال عن حاله تُعدُّ مخاطرة قد تُكلفهم حياتهم. الصقر بن أبي دلف ، وهو من الموالين ، دخل دار السلطان مرتجفًا ، يعتصره الخوف من افتضاح أمره ، حتى ندم على مجيئه ، كما عبّر بنفسه : « فَأَخَذَنِي مَا تَقَدَّمَ وَ مَا تَأَخَّرَ ، وَ قُلْتُ أَخْطَأْتُ فِي الْمَجِيءِ » هذه العبارة تُلخّص واقع الشيعة آنذاك : إيمان مستتر ، خوف دائم ، وتواصل مع الإمام محفوف بالمخاطر.
رغم كل هذا ، لم يكن الإمام الهادي عليه السلام غافلًا عن حال أصحابه. لقد خشي على حياة الصقر حتى بعد أن أدخله عليه ، فقال له في نهاية اللقاء : « وَدِّعْ وَ اخْرُجْ فَلَا آمَنُ عَلَيْكَ » هذا التحذير لا ينبع فقط من الحرص ، بل من إدراك دقيق لشراسة السلطة العباسية التي لا تتورع عن التنكيل بكل من يُظهر الارتباط بالأئمة.
والأهم من كل ذلك ، أن الإمام لم يترك صاحبه دون زاد معرفي. فسّر له معنى الحديث النبوي « لَا تُعَادُوا الْأَيَّامَ فَتُعَادِيَكُمْ »، وكشف له سرّ ارتباط كل يوم بإمام معصوم ، ليكون بذلك شاهِدًا على علمٍ لا يُدركه إلا أهل البصيرة. وفي جوابه هذا ، أشار إلى أن الجمعة هي يوم الإمام المهدي المنتظر عليه السلام ، خاتم الأيام وخاتم الحجة ، وهو الذي تجتمع عليه عصابة الحق ، ويقيم دولة العدل بعد طول الظلم.
وهكذا ، يتجلى في هذه الرواية مشهدٌ مركّب : سجنٌ وقيود ، إمامٌ محاصر ، وموالٍ خائف ، لكن في قلب هذا الظرف القاسي ، ينبثق نور المعرفة ، وتُصاغ إحدى أعمق الخرائط الرمزية لفهم الإمامة في سياق الزمن. وهذا هو الإعجاز : حيث يتحول حتى السجن إلى محراب كشف ، واللقاء العابر إلى عهدٍ دائم.
الهوامش :
1. في معاني الأخبار « فنظر الى الرازقى و كان حاجبا للمتوكل و اومأ الى أن ادخل ».
2. كذا في جميع النسخ المخطوطة عندي و في الخصال و المعاني أيضا و في المطبوع « فأخذ فيما تقدم و ما تأخر ». و عليه فالمعنى اما أخذ بالسؤال عما تقدم و عما تأخر من الأمور المختلفة لاستعلام حالى و سبب مجيئى ، فلذا ندم على الذهاب إليه لئلا يطلع على حاله و مذهبه ، او الموصول فاعل « أخذنى » بتقدير أي أخذنى التفكر فيما تقدم من الأمور من ظنه التشيع بى و فيما تأخر ممّا يترتب على مجيئى من المفاسد ( البحار ).
3. أي أشار اليهم أن يبعدوا عنه ، أو على بناء التفعيل أي أعجلهم في الذهاب. و في المعاني « فأوجى الناس عنه » بصيغة المجهول و أوجأ فلانا عنه أي دفعه و نحاه.
4. في الخصال في ذيل الخبر بيان للمصنف و قال : الايام ليست بالائمة و لكن كنى عليه السّلام بها عن الأئمّة لئلا يدرك معناه غير أهل الحق ثمّ ذكر لكلامه شاهدا من آيات القرآن.
5. كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 2 / الصفحة : 382 ـ 383 / الناشر : اسلاميه.
التعلیقات