السؤال : كيف كان اماماً وهو في الخامسة من عمره ؟
مركز الرسالة
منذ 11 ساعةالجواب : إنَّ الإمام المهدي عليه السلام خَلَفَ أباه في إمامة المسلمين ، وهذا يعني أنّه كان إماماً بكلّ ما في الإمامة من محتوىً فكري وروحي في وقتٍ مبكر جداً من حياته الشريفة.
والإمامة المبكرة ظاهرة سَبَقَهُ إليها عدد من آبائه عليهم السلام ، فالإمام الجواد محمد بن علي عليه السلام تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره ، والإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام تولّى الإمامة وهو في التاسعة من عمره ، والإمام أبو محمد العسكري وهو والد الإمام المهدي المنتظر تولّى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره ، ويلاحظ أن ظاهرة الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهدي والإمام الجواد ، ونحن نسمّيها ظاهرة لأنّها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهدي عليهم السلام تشكل مدلولاً حسيّاً عملياً عاشه المسلمون ، ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر ، ولا يمكن أن يُطالب بإثبات ظاهرة من الظواهر هي أوضح وأقوى من تجربة أُمّة ، ونوضح ذلك ضمن النقاط الآتية :
١ ـ لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت عليهم السلام مركزاً من مراكز السّلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ، ويدعمها النظام الحاكم كما كان الحال في الامويين والفاطميين والعباسيّين ، وإنّما كانت تكتسب ولاءَ قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام وقيادته على أُسس فكرية وروحية.
٢ ـ إنَّ هذه القواعد الشعبية بُنيت منذُ صدر الاسلام ، وازدهرت واتّسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان ، في داخل هذه القواعد ، تشكل تياراً فكرياً واسعاً ، في العالم الاسلامي يضمُّ المئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الاسلامية والبشرية المعروفة وقتئذٍ ، حتى قال الحسن بن علي الوشاء : « فإنّي أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجدَ الكوفة ـ تسعمائة شيخٍ كلٌّ يقول حدثني جعفر بن محمد » (1).
٣ ـ إنَّ الشروط التي كانت هذه المدرسة ، وما تمثله من قواعد شعبية في المجتمع الاسلامي ، تؤمن بها ، وتتقيد بموجبها في تعيين الإمام والتعرّف على كفاءته للإمامة شروط شديدة ، لأنها تؤمن بأن الإمام لا يكون إماماً إلاّ إذا كان معصوماً وكان أعلم علماء عصره.
٤ ـ إنَّ المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدّم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الامامة ؛ لأنّها كانت في نظر السلطة المعاصرة لها تشكل خطاً عدائياً ، ولو من الناحية الفكرية على الأقل ، الأمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذٍ وباستمرار تقريباً بحملات من التصفية والتعذيب ، فَقُتِل من قُتِل ، وسُجنَ من سُجِنَ ، ومات المئات في ظلمات المعتقلات. وهذا يعني أن الاعتقاد بامامة أئمة أهل البيت عليهمالسلام كان يكلفهم غالياً ، ولم يكن له من الاِغراءات سوى ما يُحسُّ به المُعْتَقِد أو يفترضه من التقرّب إلى الله تعالى والزلفى عنده.
٥ ـ إنَّ الأئمة الذين دانت هذه القواعد الشعبية لهم بالإمامة ، لم يكونوا معزولين عنها ، ولا متقوقعين في بروجٍ عاجية عالية شأن السلاطين مع شعوبهم ، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلاّ أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجنٍ أو نفي ، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدّثين عن كل واحدٍ من الأئمة الأحدَ عشرَ من آباء المهدي عليه السلام ، ومن خلال ما نُقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه ، وما كان يقوم الإمام به من أسفار من ناحيةٍ ، وما كان يبثّهُ من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الاسلامي من ناحية أُخرى ، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنورة عندما يؤمّون الديار المقدّسة من كلِّ مكان لأداء فريضة الحج ، كل ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحةٍ بين الإمام وبين قواعده الممتدة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.
٦ ـ إنَّ السلطة المعاصرة للأئمة عليهم السلام كانت تنظر إليهم والى زعامتهم الروحية بوصفها مصدر خطرٍ كبير على كيانها ومقدّراتها ، وعلى هذا الاَساس بذلت كلَّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة ، وتحملت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات ، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك ، وكانت حملات المطاردة والاعتقال مستمرة للائمة أنفسهم على الرغم مما يخلّفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين ، ولاسيما الموالين على اختلاف درجاتهم.
وإذا اخذنا بنظر الاعتبار هذه النقاط الست ، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشك ، أمكن أن نخرجَ بالنتيجة الآتية :
إنَّ ظاهرة الإمامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وَهماً من الأوهام ؛ لأن الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين ، ويدينُ له بالولاء والإمامة كل ذلك التيار الواسع لابدَّ أن يكون في أعلى الدرجات والمراتب من العلم والمعرفة وسعة الاُفق والتمكّن من الفقه والتفسير والعقائد ، لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنعَ تلك القواعد الشعبية بإمامته ، مع ما تقدّم من أن الأئمة كانوا في مواقع تتيحُ لقواعدهم التفاعل معهم ، وللأضواء المختلفة أن تُسلط على حياتهم وموازين شخصيتهم ، فهل ترى أن صبيّاً يدعو إلى إمامة نفسه وينصب منها علماً للاسلام وهو على مرأىً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية ، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تكلّف نفسها اكتشاف حاله ، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقييم هذا الصبيّ الإمام ؟
وهَبْ أنَّ الناس لم يتحركوا لاستطلاع الموقف ، فهل يمكن أن تمرَّ المسألة أياماً وشهوراً بل أعواماً دون أن تتكشّف الحقيقة على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبيّ الإمام وسائر الناس ؟
وهل من المعقول أن يكون صبيّاً في فكره وعلمه حقاً ثم لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل ؟
واذا افترضنا أنَّ القواعد الشعبية لامامة أهل البيت لم يُتَح لها أن تكتشف واقع الأمر ، فلماذا سكتت السلطة القائمة ولم تعمل على كشف الحقيقة إذا كانت في صالحها ؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الإمام الصبيّ صبيّاً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان ؟ وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدّم الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته ، وتبرهن على عدم كفاءته للاِمامة والزعامة الروحية والفكرية. فلإن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين لتسلّم الإمامة ، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبي اعتيادي مهما كان ذكياً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإمامية وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ.
إنَّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة هو أنها أدركت أنَّ الإمامة المبكرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً.
والحقيقة أنها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة ـ أي تعريضه للاختبار ـ فلم تستطع ، والتأريخ يحدّثنا عن محاولات من هذا القبيل وعن فشلها ، بينما لم يحدّثنا إطلاقاً عن موقف تزعزت فيه ظاهرة الإمامة المبكّرة أو واجه فيه الصبيّ الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.
وهذا معنى ما قلناه من أنَّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت عليهم السلام ، وليست مجرّد افتراض ، كما أنَّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربانية ، ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكّرة في التراث الرباني : النبي يحيى عليه السلام ، قال تعالى : ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيناهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً .. ﴾ (2).
ومتى ثبت أن الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية وموجودة فعلاً في حياة أهل البيت ، لم يَعُدْ هناك اعتراض فيما يخصّ حياة المهدي عليهالسلام ، وخلافته لأبيه وهو صغير.
الهوامش
1. رجال النجاشي : ٤٠ / ٨٠ في ترجمة الحسن بن علي بن زياد الوشاء.
2. سورة مريم : ١٩ / ١٢.
مقتبس من كتاب المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي / مركز الرسالة / المجلّد : 1 / الصفحة : 167.
التعلیقات