بين عمّار وعثمان
الشيخ محمّد جواد آل الفقيه
منذ سنتينبين عمّار وعثمان
جاء في كتاب الأنساب ، ما يلي :
« كان في بيتِ المال بالمدينة سفطٌ فيه حليّ وجوهرٌ ، فأخذ منه عثمان ما حَلّىٰ به بعض أهله ، فأظهرَ الناسُ الطعنَ عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديدٍ حتىٰ أغضبوه ، فخطب فقال :
لنأخذنَّ حاجتنا من هذا الفيىء وإن رغِمتْ أنوف أقوام . فقال له علي : إذن تُمنع من ذلكَ ويُحال بينكَ وبينَه .
وقال عمار بن ياسر : أُشهدُ اللهَ أن أنفي أولَ راغمٍ من ذلك .
فقال عثمان : أعَليّ يا بن المتكاءْ (1) تجترئ ؟! خذوه ، فأُخذ ودخل عثمان ودعا به فضربه حتى غُشي عليه ، ثم أُخرج فحُمل حتى أُتي به منزل أم سَلَمة زوج رسول الله ( ص ) فلم يصل الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق توضأ وصلى وقال : الحمد للهِ ، ليس هذا أولُ يومٍ أُذينا فيه في الله .
وقام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي ـ وكان عمار حليفاً لبني مخزوم ـ فقال : يا عثمان أما عليٌّ فاتقيته وبني أبيه ، وأما نحنُ فاجترأتَ علينا وضربت أخانا حتى أشفيتَ به على التَلف ، أما والله لئن ماتَ لأقتلن به رجلاً من بني أميّة عظيم السرّة .
فقال عثمان : وإنك لههنا يا بن القسريّة ؟ قال : فإنهما قسريتان . وكانت أمّهُ وجدّته قسريّتين من بَجيلة .
فشتمه عثمان وأمرَ به فأُخرج . فأتىٰ أم سلمة فإذا هي قد غضبت لعمّار .
وبلغ عائشةَ ما صُنع بعمّار فغضبت وأخرجت شعراً من شعر رسول الله ( ص ) وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله ، ثم قالت : ما أسرَعَ ما تركتم سنّة نبيكمْ ، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يُبلَ بعد .
فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درىٰ ما يقول ، فالتجَّ المسجد ، وقال الناس : سبحان الله ، سبحان الله !!
وكان عمرو بن العاص واجداً على عثمان لعزله إياه عن مِصر وتوليته إياها عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فجعل يكثر التعجب والتسبيح .
وبلغ عثمان مصير هشام بن الوليد ومن مشى معه من بني مخزوم إلى أم سلمة وغضبها لعمار ، فأرسل إليها : ما هذا الجمع ؟ فأرسلتْ إليه : دع ذا عنك يا عثمان ولا تحملِ الناس في أمرك على ما يكرهون . واستقبحَ الناسُ فعله بعمّار ، وشاع فيهم فاشتد إنكارهم له (2) .
وأظن أن هذه الحادثة أنموذج كافٍ في الدلالة على خروج السلطة من إطارها الذي أراده الله سبحانه ، وألِفه المسلمون بعد وفاة الرسول الأعظم ( ص ) إلى إطارٍ آخر ترسمه ثلة من المستفيدين الطامحين للملك ، سيما إذا أخذنا بعين الإِعتبار ما ورد في نصوص المؤرخين : من أن الغالبَ على عثمان آنذاك ، مروانُ بن الحكم وأبو سفيان بن حرب .
كما أن في هذه الحادثة دليل واضح على مدى البُعد بين عثمان وعمار في التفكير الديني وسياسة الأمور .
وزاد في الهُوّة بين الطرفين تتابعُ الأحداث التي يشبه بعضها بعضاً من حيث المبدأ السلطوي الذي انتهج ازاء كبراء الصحابة وعظمائهم ، أمثال أبي ذر الغفاري وعبد الله بن مسعود ، وملاحقتهم بالنفي تارة ، وبالضرب والإِذلال تارةً أخرى حتى مات الأول منفياً في الربذة ، ومات الثاني مقهوراً بعد أن كُسِر ضلعهُ وحُرم عطاءه . وكان لابن ياسر نصيبٌ من سخط الخليفة وغضبه بسبب هذين الصحابيين الجليلين .
فحين نُفي أبو ذر ، كان عمّار أحدَ المشيعين والمودعين له ، وحين توفي أبدى حزنه وأسفه العميقين عليه أمام عثمان مما زاد في غضبه ، ثم بعد ذلك توفي ابن مسعود فصلى عليه عمار بوصيةٍ منه ، ثم توفي المقداد فصلىٰ عليه عمار أيضاً دون أن يؤذن عثمان بذلك ، فاشتد سخطهُ وغضبهُ عليه .
قال البلاذري : لما بلغ عثمانَ موت أبي ذرٍ بالربذة قال : رحمه الله . فقال عمار بن ياسر : نعم ، فرحمه الله من كل أنفسنا ! فقال عثمان : يا عاض . . أبيه ، أتراني ندمت على تسييره ؟! وأمر به فدُفع في قفاه وقال : إلحقْ بمكانه . فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى عليّ فسألوه أن يكلم عثمان فيه ، فقال له علي : يا عثمان ، إتق الله ! فإنك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك ، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره !؟ وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان ـ مخاطباً علياً ـ : أنت أحق بالنفي منه ! فقال عليٌّ : رُمْ ذلك إن شئت !!
واجتمع المهاجرون فقالوا : إن كنتَ كُلما كلّمكَ رجل سيّرته ونفيته ، فإن هذا شيء لا يسوغ فكَفَّ عن عمار (3) .
وتوفي ابن مسعود وكان قد أوصى عماراً أن لا يصلي عليه عثمان ، فقبل وصيته ، وكان عثمان غائباً ، فلما عاد « رأى القبر فقال : قبرُ من هذا ؟ فقيل : قبرُ عبد الله بن مسعود . قال : فكيف دُفن قبل أن أعلم ؟ فقالوا : وَليَ أمرَه عمار بن ياسر . . ولم يلبث إلا يسيراً حتى مات المقداد فصلى عليه عمار ، وكان أوصى إليه ولم يؤذن عثمان به ، فاشتد غضب عثمان على عمار وقال : ويلي على ابن السوداء ، أمَا لقد كنتُ به عليماً » (4) .
ومن هنا يتضح بأن ما حصل بين عثمان وعمار من عداءٍ لم يكن عداءً شخصياً نمىٰ وتطور حتى تحول إلى حرب مواقف ـ إذا صح التعبير ـ بين صحابيين كان بالإِمكان تلافيه ، أو على الأقل السكوتُ عنه حفظاً لمقام الخلافة وهيبتها . بل إن الأمر كان على العكس من ذلك . فالمتتبع للأحداث يلمس بوضوح أن الصراع بينهما كان صراعاً بين مبدئين . مبدأ يعتمدُ اللامحدودية في سلطته والنزوع وراء المُلْك ، ومبدأ يعتمد السنَّةَ النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الراشدين . فعثمانُ لم يكن وحده في آرائه ، وكذلك عمار لم يكن وحده في معارضته .
وعلى هذا يمكن القول أن خلافة عثمان أوجدت الفرصةَ لسيطرةِ الأمويين على مقدرات الأمة وأرزاقها عن طريق نفوذهم لسُدّة الحكم ، ولولا يقظة بعض الصحابة وحذرهم لتم لهم ذلك بشكل سريع ، لكن معارضتهم هي التي كانت تحول دون ذلك .
وقد حدد العقاد في كتابه عثمان ، نظرة عثمان للخلافة بقوله : « فكانت له نظرةٌ للإِمامة قاربتْ أن تكون نظرةً إلى المُلك ، وكان يقول لابن مسعود كلما ألح عليه في المحاسبة : ما لَكَ ولبيتِ مالِنا ؟! وقال في خطبته الكبرىٰ يرد على من آخذوه بهباته الجزيلة : فضلٌ من مالٍ ، فلم لا أصنعُ في الفضل ما أريد ؟ فلِم كنتُ إماماً !! » (5) .
وكان جديراً به أن يتقبل نصائح المخلصين من الصحابة ويناقش ملاحظاتهم وآرائهم بقلبٍ مفتوح كما كان يفعل صاحباه من قبل ، لكي تبقى للخلافة هيبتُها وللمسلمين وحدتهُم ، لكنه تهاون أزاء ذلك فأدى تهاونه إلى ما انتهت إليه الأمور من خسارةٍ وتمزيق .
لقد كان تسامحه مع أهل بيته وأقربائه وحبه لهم وتقريبه إياهم هو السببُ الأول في تحويل مركز الخلافة إلى سلطةٍ زمنية أهملت الكثير من توجيهات القرآن وتعاليم الإِسلام . ويصف المؤرخون عثمان بأنه « كن جواداً وصولاً بالأموال ، وقدم أقاربه وذوي رحمه على سائر الناس ، وسوى بين الناس في الأعطية ، وكان الغالب عليه مروان بن الحكم وأبو سفيان بن حرب (6) .
كما كان إلى جانب ذلك يستخفُّ بصيحات الصحابة من المهاجرين والأنصار ، ويضع من قدرهم ما استطاع ، ويرد على من ينتقدُ وُلاتَهُ وعمّاله من زعماء الأمصار وقادتهم بالتجريح تارةً ، وبالنفي والإِذلال إذا رأى في ذلك رادعاً .
الهوامش
1. المتكاء : البظراء : أو التي لا تمسك البول .
2. الغدير 9 / 15 وقد ورد هذا الخبر بعدة طرق وبألفاظ ثانية والمضمون واحد .
3. الغدير 9 / 18 .
4. اليعقوبي 2 / 147 .
5. عثمان : 211 ـ 212 .
6. اليعقوبي 2 / 173 .
مقتبس من كتاب : عمّار ابن ياسر / الصفحة : 87 ـ 91
التعلیقات