التوحيد في الخالقيّة ـ نظرية الأشاعرة
التوحيد
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 45 ـ 50
(45)
نظرية الأشاعرة في التوحيد في الخالقية
ذهبت الأشاعرة إلى أنَّ المراد من التوحيد في الخالقية هو حصر الخلق
والإِيجاد على الإِطلاق بالله سبحانه ، وأنّه ليس في صفحة الوجود مؤثر وموجد
وخالق إلاّ الله سبحانه ، وأمَّا غيره ، فليس بمؤثر ، ولا خالق لا على وجه
الاستقلال ، ولا على وجه التبعية.
وعلى ذلك الأساس أنكرت العلّية والمعلولية ، والتأثير والتأثّر بين
الموجودات الإِمكانية ، فزعمت أنَّ آثار الظواهر الطبيعية كلها مفاضة منه
سبحانه ، من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها ، فعلى
مذهبهم « النار حارّة » بمعنى أنَّه جرت سنَّة الله على إيجاد الحرارة عند وجود
النار مباشرة من دون أنْ تكون هناك رابطة بين النار وحرارتها ، والشمس
وإضاءتها ، والقمر وإنارته ، بل الله سبحانه جرت عادته على إيجاد الضوء
والنور مباشرة عقيب وجود الشمس والقمر من دون أنْ يكون هناك نظام وقانون
تكويني باسم العلّية والمعلوليّة . وعلى ذلك فليس في صفحة الوجود إلاّ علة
واحدة ، ومؤثر واحد ، يؤثر بقدرته وسلطانه في كل الأشياء ، من دون أن
يُجري قدرته ، ويُظهر سلطانه عن طريق إيجاد الأسباب والمؤثِرات . بل هو
بنفسه الشخصية قائم مقام جميع ما يتصور من العلل و الأسباب التي كشف
عنها العلم طيلة قرون.
هذا ما يتبناه الأشعري وأتباعه . ناسبين إيّاه إلى أهل السنة والجماعة ،
________________________________________
(46)
فهم لا يقيمون للعلل الطبيعية وزناً ، فعامل الحمى في المريض هو الله
سبحانه ، وليس للجراثيم دور في ظهورها فيه ، ومثل ذلك سائر الظواهر
الطبيعية من تفتح الأزهار ، ونمو الأشجار، فالكل مخلوق لله سبحانه بلا
واسطة ، ولا تسبيب سبب من الأسباب.
وعلى هذا الأصل جعلوا أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه مباشرة ، ولم
يقيموا للقدرة الحادثة في العبد وزناً ، ولم يعترفوا بتأثيرها في فعله ، فصار كل ما
في الكون من آثار الفاعلين ، عالمين كانوا أم لا ، صادراً منه سبحانه مخلوقاً
له (1).
تحليل نظرية الأَشاعرة
إنَّ تفسير التوحيد في الخالقية بهذا المعنى ، بما أنَّه لا يستند إلى دليل
عقلي بل يستند إلى ظواهر الآيات التي وقفت عليها ، فلا مناص في تحليله
من الرجوع إلى نفس الذكر الحكيم حتى يعلم أنَّه غير معترف بهذا التفسير
بل ينكره جداً.
إنَّ الآيات القرآنية تعترف بوضوح بقانون العليّة والمعلوليّة بين الظواهر
الطبيعية ، وتسند الآثار إلى موضوعاتها ـ وفي الوقت نفسه تسندها إلى الله
سبحانه ـ حتى لا يغتر القارئ بأنَّ آثار الموضوعات متحققة من تلقاء نفسها .
والآيات الواردة في هذا المجال كثيرة ، نكتفي بالقليل منها.
1 ـ قال سبحانه: { وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ }(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيأتي البحث والتحليل في خصوص هذه الناحية في مباحث الجبر والتفويض في الفصل
السادس من الكتاب، بإذنه تعالى.
(2) سورة البقرة: الآية 22.
________________________________________
(47)
2 ـ وقال عزّ مِنْ قائِل : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ
فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ}(1).
فالكتاب العزيز يصرّح في هاتين الآيتين بجلاء بتأثير الماء في الزرع ؛ إذ
إنَّ الباء في « به» في الموردين بمعنى السببية . وأوضح منهما الآية التالية.
3 ـ قال سبحانه :{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ
وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى
بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(2).
فإِنَّ جملة : { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ } كاشفة عن دور الماء وأثره في إِنبات
النباتات وإِنماء الأَشجار ، ومع ذلك يتفضل بعض الثمار على بعضها. ومَن
أمعن النظر في القرآن الكريم يقف على كيفية بيانه للمقدمات الطبيعية لنزول
الثلج والمطر من السماء من قبل أنْ يعرفها العلم الحديث ، ويطّلع عليها
بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية ، واكتشاف عللها
ومقدماتها . ويتضح ذلك بدراسة الآيتين التاليتين:
4 ـ قال سبحانه: { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي
السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(3).
فقوله سبحانه: { فَتُثِيرُ سَحَابًا } صريح في أنَّ الرياح تحرك السَّحاب ،
وتسوقها من جانب إلى جانب.
5 ـ قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة السجدة: الآية 27.
(2) سورة الرعد: الآية 4.
(3) سورة الروم: الآية 48.
________________________________________
(48)
يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا
مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ
بِالأَبْصَارِ}(1).
فالآية الرابعة تُسند حركة السحاب إلى الرياح وتقول : { فَتُثِيرُ سَحَابًا } ،
وهذه الآية تسندها إلى الله سبحانه وتقول: { أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا } ، وكلا
الإِسنادين صحيح ، حيث إنَّ الرياح جند من جنوده سبحانه ، وسبب من أسبابه
التي تعلقت مشيئته على نزول الفيض من طريقها ، ولأجل ذلك يَعُدّ فِعْلَها
فِعْلَهُ . والكُلّ قائم به قيام الممكن بالواجب.
6ـ قال سبحانه:{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(2).
فالآية تصرح بتأثير الماء في اهتزاز الأَرض وربوتها ، ثمّ تصرح بإنبات
الأَرض من كل زوج بهيج .
7ـ قال سبحانه : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ }(3).
فالآية تسند إنبات السبع سنابل إلى الحبة.
وحصيلة البحث : أنَّه سبحانه يسند الإِنبات في هذه الآيات إلى الأَرض
والحبّ ، ولكنه يسند ـ في الوقت نفسه ـ ذلك الفعل إلى ذاته ويقول :
{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النور: الآية 43.
(2) سورة الحج: الآية 5.
(3) سورة البقرة: الآية 261.
________________________________________
(49)
تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أََإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}(1).
ويقول أيضاً: { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
كَرِيمٍ}(2). ولا اختلاف بين الآيات في جميع هذه المجالات ؛ إذ الفعل فعل
الله سبحانه بما أنَّه مُنشئ الكون وموجده ، ومسبب الأَسباب ومكونها . كما
هو فعل السبب ، لصلة بينه وبين آثاره ، والأَسباب والعلل على مراتبها
مخلوقات لله مؤثرات بإذنه ، وليس الإِسنادان في درجة واحدة وعَرْض
واحد ، بل أحدهما في طول الآخر.
8ـ قال سبحانه : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي
الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ }(3).
أي جَعَلَ على ظهر الأرض ، الجبال الثوابت لئلا تضطرب بكم ، فقد
نسب صيانة الإِنسان عن الاضطراب والمَيَدان إلى نفسه حيث قال :
{ وَأَلْقَى }. وإلى سببه حيث قال :{ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } ، أي لغاية أن
تصونكم الرواسي عن مَيَدان الأرض بكم كرواسي السفن الصائنة لها عن
المَيدانَ والاضطراب . والكل يهدف إلى أمر واحد ، وهو الذي ورد في قوله
سبحانه: { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي
ضَلاَلٍ مُبِينٍ}( 4). أي هذا الذي تشاهدونه في السماء والأرض وما بينهما
من الأسباب والمسبَّبات كلّه مخلوق لله ، والأسباب جنوده والآثارُ آثار للسَّبَبِ
وللمسبِّبِ ( بالكسر) . ما ذكرناه تحليل لنظريه الأشعري في ضوء الوحي ، وقد
عرفتَ أن الوحي يردها بحماس.
وهناك تحليل فلسفي لها ، وهو أنّه لا شكّ أنَّ كثيراً ممّا نجده من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النمل: الآية 60.
(2) سورة لقمان: الآية 10.
(3) سورة لقمان: الآية 10.
(4) سورة لقمان: الآية 11.
________________________________________
(50)
الموجودات الممكنة المادية تتوقف في وجودها على شروط لا تتحقق
بدونها ، كالإِنسان الذي هو ابن فلان ؛ فإن لوجود الابن توقفاً على وجود
الوالدين ، وعلى شرائط أخرى كثيرة زمانية ومكانية ، فمن الضروري أنَّ ما
يتوقف عليه وجود الشيء يُعَدّ جزءاً من العلة التامة . وعلى هذا ، لا يصح
عدّه سبحانه علة تامة وحدها لهذه الظاهرة أي كون زيد ابن فلان.
نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة ؛ إذ لا يتوقف على شيء
غيره سبحانه ، وأمَّا سائر أجزاء العالم كوجود زيد فهو سبحانه جزء العلة التامة ؛
ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل ، وما هو معه من الشرائط
والمُعِدّات (1).
والذي يوضح ذلك أنَّ أَفعالاً لا يمكن إسنادها إلى الله سبحانه
مباشرة كأكل زيد وشربه ، ومشيه وقيامه وقعوده ؛ فإنَّ تحقق هذه العناوين
يتوقف على وجود زيد وأعضائه من فمه ولسانه ، ورجليه وعضلاته ؛ فإِنَّ لها دخالة
في تحقق هذه الأَفعال ، فكيف يمكن إنكار دخالتها؟ فهذه الأَفعال لا تستند
إلا إلى الموجود المادي مباشرة ، وإلى الواجب سبحانه على وجه التسبيب
والسببية الطولية (2).
فمن وقف على مجموعة كبيرة من الآيات في هذا المجال لم يشكّ في
أنَّ القرآن يعترف بناموس السببية بين الأشياء وآثارها ، وإِنّهاء كل الكون إلى
ذاته تبارك و تعالى . فلا يصح عندئذٍ حصر الخالقية والعلية الأَعم من الأَصلية
والتبعية بالله سبحانه ، وتصوير غيره من الأَسباب أُموراً عاطلةً غير مفيدة
لشيء. وجعل القدرة الحادثة في العبد شيئاً مقترناً بإيجاده سبحانه فعل
العبد . وعلى ذلك فيجب تفسير حصر الخالقية وتوحيدها على وجه يناسب
مع جميع الآيات الماضية التي تدل على الحصر ، وأنَّه لا خالق غيره ، وفي
الوقت نفسه يعترف بتأثير العلل وإيجادها . وهذه هي النظرية التي نتلوها
عليك بإذنه سبحانه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الميزان : ج 15، ص 138.
(2) سيوافيك معنى أدّق من السببية الطولية لخالقيته سبحانه عند البحث في الجبر والتفويض.
التعلیقات