ما فائدة البحث عن إمامة عليّ في هذه الأزمان ؟
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةما فائدة البحث عن إمامة عليّ في هذه الأزمان ؟
وها هنا سؤال آخر يطرحه لفيف من دعاة الوحدة ، الذين لهم رغبة خاصّة بتوحيد صفوف المسلمين وتقريب الخطى بينهم ، وحاصله :
إنّ البحث عن صيغة الخلافة بعد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، يرجع لبّه إلى أمر تاريخي قد مضى زمنه وهو أنّ الخليفة بعد النبي هل هو الإمام أمير المؤمنين أو أبوبكر. وماذا يفيد المؤمنين البحث حول هذا الأمر الذي لا يرجع إليهم بشيء في حياتهم المعاصرة. أو ليس من الحريّ ترك هذا البحث حفظاً للوحدة.
والجواب
لا شك أنّ أعظم خلاف وقع بين الأمّة ، اختلافهم في الإمامة ، وما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينيّة مثل ما سُلَّ على الإمامة (1). فمن واجب المسلم الحرّ ، الذي لا يتبنّى إلّا مصلحة المسلمين ، السعي وراء الوحدة ، ولكن ليس معنى ذلك ترك البحث ، وغلق ملف الدراسة ، فإنّه إذا كان البحث نزيهاً موضوعيّاً يكون مؤثّراً في توحيد الصفوف وتقريب الخطى ، إذ عندئذٍ تتعرّف كلّ طائفة على ما لدى الأخرى ، من العقائد والأصول ، وبالتالي تكون الطائفتان متقاربتين. وهذا بخلاف ما إذا تركنا البحث مخافة الفرقة ، فإنّه يثير سوء ظنّ كلّ طائفة بالنسبة إلى الأخرى في مجال العقائد والمعارف ، فربّما تتصوّرها طائفة أجنبيّاً عن الإسلام. هذا أوّلاً.
وثانياً : إنّ لمسألة البحث عن صيغة الإمامة بعد النبي بعدين أحدهما بعد تاريخي مضى عصره ، والثاني بعد ديني باق أثره إلى يومنا هذا ، ومن واجب كلّ مسلم الأخذ به ، وهو أنّه إذا صحّ تنصيب عليّ لمقام الولاية والخلافة ، بالمعنى الذي تتبنّاه الإماميّة ، يكون الإمام ، وراء كونه زعيماً في ذلك العصر ، مرجعاً في رفع المشاكل التي خلفتها رحلة النبي ، ممّا قد مرّ عليك ، فيجب على المسلمين الرجوع إليه في تفسير القرآن وتبيينه ، وفي مجال الموضوعات المستجدة التي لم يرد فيها النصّ في الكتاب والسنّة ، كما يكون مرجعاً في سائر الأمور.
وفي ضوء هذا ، فالبعد الذي مضى ، ولا نعيد البحث فيه ، هو كونه زعيماً في ذلك العصر ، وقد مضى زمنه ، ولكن الباقي زعامته الدينيّة ، وقيادته في مجال المعارف والمسائل الشرعيّة ، فهو بعد باق ، فيجب على كلّ المسلمين الرجوع إلى الإمام أخذاً بهذا الأبعاد ، لحديث الغدير وغيره. فليس البحث متلخّصاً في البعد السياسي حتّى نشطب عليه بدعوى أنّه مضى ما مضى ، بل له كما عرفت مجال ومجالات باقية.
فإذا وصل البحث إلى هنا ، يجب علينا التركيز على مسألة أخرى وهي أنّ النبي الأكرم ، لم يزل يهيب في الجاهلين ، ويصرخ في الغافلين ، داعياً إلى التمسّك بالكتاب والعترة معاً ، وهذا تصريح بأنّ لقيادة العترة الطاهرة وراء الزعامة السياسيّة المحدودة بوقت خاصّ ، وزمن حياتهم ، بعداً خالداً إلى يوم القيامة ، وهو لزوم الإنكباب عليهم فيما يطرء علينا من الحوادث الوقائع الدينيّة ، وكلّ ما يمت إلى الدين عليهم فيما يطرء علينا من الحوادث والوقائع الدينيّة ، وكلّ ما يمت إلى الدين بصلة ، ونتطلب الجواب الإهتداء منهم ، ولأجل ذلك يجب علينا التعرّف على هذا القسم من الأحاديث الّذي يركز على الجهات المعنويّة أزيد من التركيز على الجهات السياسيّة.
1 ـ حديث الثّقلين
روى أصحاب الصحاح والمسانيد عن النبي الأكرم أنّه قال : « يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ».
و قال في موضع آخر : « إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ». وغير ذلك من النصوص المتقاربة.
وقد صدع بها في غير موقف ، تارة بعد انصرافه من الطائف ، وأخرى يوم عرفة في حجّة الوداع ، وثالثة يوم غدير خمّ ، ورابعة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه والحجرة غاصّة بأهله.
ولا يشكّ في صحّة الحديث إلّا الجاهل به أو المعاند ، فقد روي بطرق كثيرة عن نيف وعشرين صحابياً (2).
إنّ الإمعان في الحديث يعرب عن عصمة العترة الطاهرة ، حيث قورنت بالقرآن الكريم ، وأنّهما لا يفترقان ، ومن المعلوم أنّ القرآن العظيم ، كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكيف يمكن أن يكون قرناءُ القرآن وأعدا له ، خاطئين فيما يحكمون ويبرمون ، أو يقولون ويحدّثون. فعدم الإفتراق إلى يوم القيامة ، آية كونهم معصومين فيما يقولون ويروون.
أضف إلى ذلك أنّ الحديث ، يعدّ المتمسّك بالعترة غير ضالّ ، بقوله : « لن تضلّوا ». فلو كانوا غير معصومين من الخلاف والخطأ ، فكيف لا يضلّ المتمسّك بهم ؟.
نعم ، ورد في بعض النصوص مكان كتاب الله وعترتي، كتاب الله وسنّتي (3). وهو على فرض صحّته ، حديث آخر لا يزاحمه ، على أنّه حديث واحد ، وهذا الحديث متواتر نقله أعلام الأئمّة ، وأساتذة الحديث والتاريخ والسيرة ، ولا يعلم حقيقة ذلك إلّا من راجع مصادر الحديث (4). فيقدّم عليه في كلّ حال.
من هم العترة وأهل البيت ؟
لا أظن أنّ أحداً ، قرأ الحديث والتاريخ ، يشكّ في أنّ المراد من العترة وأهل البيت لفيف خاصّ من أهل بيته. ويكفي في ذلك مراجعة الأحاديث التي جمعها ابن الأثير في جامعه عن الصحاح ، ونكتفي بالقليل من الكثير منها.
1 ـ روى الترمذي عن سعد بن أبي وقّاص قال : لمّا نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ... ) الآية ، دعا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عليّاً ، وفاطمةً ، وحسناً ، وحسيناً ، فقال : « اللّهم هؤلاء أهلي ».
2 ـ وروى أيضاً عن أمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ ، قالت: إنّ هذه الآية نزلت في بيتي : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، قالت : وأنا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله ألست من أهل البيت ، فقال : إنّك إلى خير ، أنت من أزواج رسول الله ، قالت : وفي البيت رسول الله ، وعليّ ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ، فجلّلهم بكسائه وقال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً ».
3 ـ وروى أيضاً عن أنس بن مالك أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان يمرّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستّة أشهر ، يقول : « الصلاة أهل البيت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».
4 ـ وروى مسلم عن زيد بن أرقم قال : قال يزيد بن حيان : انطلقت أنا وحصين بن سبرة ، وعمر بن مسلم ، إلى زيد بن أرقم ، فلمّا جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وسمعت حديثه ، وغَزَوْتَ معه ، وصَلَّيْتَ خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ؟.
قال : يا ابن أخي والله ، لقد كَبُرت سني ، وقدم عهدي ، فما حدّثتكم فاقبلوا ، وما لا فلا تكلّفونيه. ثمّ قال : قام رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً ، بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ثمّ قال : أمّا بعد ، ألا أيّها الناس ، إنّما أنا بشر ، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به. فحثّ على كتاب الله ورغب فيه ، ثمّ قال : وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بييتي ».
فقلنا : من أهل بيته ؟ نساؤه ؟. قال : لا ، وأيم الله ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدّهر ، ثمّ يطلّقها ، فترجع إلى أبيها وقومها ، أهلُ بيتهِ ، أصلُهُ وعُصْبَتُهُ الذين حُرِموا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ (5).
2 ـ حديث السفينة
روى المحدّثون عن النبي الأكرم أنّه قال : « مثل أهلُ بيتي في أُمَّتي ، كَمَثَلِ سفينةِ نوح ، من رَكِبَها نجا ، ومَن تخلّف عنها غَرِقَ » (6).
فشبّه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، أهل بيته بسفينة نوح في أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ أصوله وفروعه عنهم نجا من عذاب النّار ، ومن تخلّف عنهم كان كمن أوى يوم الطّوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله ، غير أنّ ذلك غرق في الماء وهذا في الحميم.
فإذا كانت هذه منزلة علماء أهل البيت ، ( فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ) ؟.
يقول إبن حجر في صواعقه : « ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم وعظّمهم ، شكراً لنعمة مشرّفهم ، وأخذ بهدي علمائهم ، نجى من ظلمة المخالفات. ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النِّعم ، وهلك في مفاوز الطغيان » (7).
الهوامش
1. تقدمت منّا هذه الكلمة نقلاً عن الشهرستاني في الملل والنحل.
2. وكفى في ذلك أن دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة قامت بنشر رسالة جمعت فيها مصادر الحديث ونذكر من طرقه الكثيرة ما يلي : صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 122 ، سنن الترمذي ، ج 2 ، ص 207 ، مسند أحمد ، ج 3 ، ص 17 و 26 و 59. و ج 4 ، ص 366 و 371. و ج 5 ، ص 182 و 189.
وقد قام المحدث الكبير السيد حامد حسين الهندي بجمع طرق الحديث ونقل كلمات الأعاظم حوله ونشره في ستّة أجزاء وهو من أجزاء كتابه الكبير العبقات.
3. الصواعق المحرقة ، ص 89.
4. وراجع أيضاً في الوقوف على مصادر الحديث ، غاية المرام للسيد البحراني ، ص 417 ـ 434.
والمراجعات ، المراجعة 8. وتعاليق إحقاق الحق ، ج 9.
5. لاحظ فيما نقلناه من الأحاديث ، جامع الأصول ، ج 1 ، الفصل الثالث ، من الباب الرابع ، ص 100 ـ 103.
6. مستدرك الحاكم ، ج 2 ، ص 151. الخصائص الكبرى للسيوطي ، ج 2 ، ص 266.
و للحديث طرق ومسانيد كثيرة ، من أراد الوقوف عليها ، فعليه بتعاليق إحقاق الحقّ ، ج 9 ، ص 270 ـ 293.
7. الصواعق ، الباب 11 ، ص 191. ألا مسائل ابن حجر أنّه إذا كان هذا مقام أهل البيت ، فلماذا لَمْ يأخذ هو بهدي أئمّتهم في شيء من فروع الدين وعقائده ، ولا في شيء من علوم السنّة والكتاب ، ولا في شيء من الأخلاق والسلوك والأدب ؟ ولماذا تخلّف عنهم ، فأغرق نفسه في بحار كفر النعم. وأهلكها في مفاوز الطغيان ؟!.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسّنة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 103 ـ 108
التعلیقات