صيانة الخلقة عن العبث
ادلة المعاد
منذ 15 سنة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 167 ـ 170
(167)
مباحث المعاد
(2)
أدلة وجوب المعاد وضرورته
قد تعرفت على أنّ الحياة الأُخروية للإنسان ، أمر ممكن لا يمنع منه شي ،
وإنّما الكلام في وجوب وقوعها وضرورة وجودها . وفيما يلي نستدلّ على ضرورة
وجود هذه النشأة بوجوه عقلية هدانا إليها القرآن الكريم.
الدليل الأوّل : صيانة الخلقة عن العبث
ذكرنا أنّ أحد الأسئلة التي تلاحق كلّ إنسان ويعاني منها ، هو الوقوف على
هدف الخلقة ، وأنّه لماذا خلق ، وما هو الغرض من خلق الإنسان ، والإنسان
الإلهي بما أنّه يصون فعل الحق عن العبث واللغو ( لا بمعنى أنّ هناك غرضاً للخالق
يستكمل به ، بل بمعنى أنّ فعله ليس بلاغاية ) ، يجيب بأنّه لم يخلق عبثاً ولا
سدىً ، بل خلق ليبلغ الكمال الذي يناله في النشأة الأُخروية ، على وجه لولاها
لأصبح خلقه وإيجاده لغواً وباطلاً.
ثمّ إنّ هذا الدليل ، أي صيانة فعل الباري عن العبث ، يمكن بيانه
بوجوه ، تتحد في الجوهر ، وإنّما تختلف في التقرير وهي:
1 ـ المعاد وغاية الخلقة.
2 ـ المعاد والحقّ المطلق.
________________________________________
(168)
3 ـ المعاد والنظم البديع.
فيستدلّ على المعاد تارة بأنّه هو غاية الخلقة ، وأُخرى بأنّ الحقّ تعالى شأنه لا
ينفك فعله عن غاية ، وثالثةً بأنّ النّظم البديعة السائدة على العالم لا تنفك عن
غرض وغاية ، والكلّ صور مختلفة لاستدلال واحد ، استوحيناه من الذكر
الحكيم ، فإليك بيانها:
1 ـ المعاد غاية الخلقة
يستدلّ الذكر الحكيم على لزوم المعاد بأنّ الحياة الأُخروية هي الغاية من
خلق الإنسان ، وإنزاله إلى هذه البسيطة ، وأنّه لولاها لصارت حياته منحصرة في
إطار الدنيا ، ولأصبح إيجاده وخلقه ـ بالتالي ـ عبثاً وباطلاً ، والله سبحانه منزّه عن
الإيجاد بلا غرض ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} (1).
و من لطيف البيان في هذا المجال قوله سبحانه : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ *
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} (2) فترى أنّه يذكر يوم الفصل بعد نفي كون
الخلقة لعباً ، وذلك يعرب عن أنّ النّشأة الأخروية تصون الخلقة عن اللغو
واللعب ، وبذلك تظهر صلة الآيات.
2 ـ المعاد والحق المطق
ومن لطائف البيان في القرآن الكريم أنّه تعالى يصف نفسه بالحق ( المطلق ) ،
وأنّه لا حقّ سواه ، ثمّ يرتب على ذلك إحياء الموتى والنشأة الآخرة ؛ ذلك لأنّ
الحق المطلق عبارة عن الوجود الذي لا يتطرق البطلان إلى ذاته أوّلاً ، وصفاته
ثانياً ، وأفعاله ثالثاً ، ولو كان فعله بلا غاية ولا هدف ، لما كان حقّاً مطلقاً ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة المؤمنون : الآية 115، ولاحظ سورة ص : الآية 27.
(2) - سورة الدخان : الآيات 38 ـ 40.
________________________________________
(169)
فيستدلّ بكونه حقّاً محضاً على لزوم الغاية التي تتمثل في الحياة الأخروية للإنسان ،
يقول سبحانه:
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (1).
ولعلّ من هذا الباب وصف سبحانه نفسه بالحق ، ثمّ ذكر بعد ذلك آيات
البعث والقيامة ، فكأنّه يشير بذلك إلى أنّ كونه حقاً مطلقاً لا يعتريه الباطل ،
يلازم البعث ، وإلاّ لا يكون حقّاً مطلقاً ، نرى هذا البيان في قوله سبحانه:
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } (2).
ثمّ بعد ثلاث آيات يقول :
{ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } (3).
و مثله قوله سبحانه : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
الْبَاطِلُ } (4).
ثمّ بعد آيتين يقول : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي
وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ...} (5).
3 ـ المعاد والنظم البديع
و في الذكر الحكيم تلويح وإشارة إلى هذا النوع من الاستدلال ، حيث نرى
أنّه سبحانه يذكر النبأ العظيم ، واختلاف الناس فيه بين مثبت ونافٍ ، ثمّ يبيّن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة الحج : الآيتان 6 ـ 7 .
(2) - سورة الحج : الآية 62.
(3) - سورة الحج : الآية 66.
(4) - سورة لقمان : الآية 30.
(5) - سورة لقمان : الآية 33.
________________________________________
(170)
النظام البديع السائد في الكون ، ببيان رائق مبسوط ، معرباً عن أنّه لولا النبأ
العظيم ، لأصبح خلق العالم بلاغاية.
يقول سبحانه: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ} .
ثمّ يقول : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} إلى قوله: { إِنَّ
يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} (1).
وبذلك تقف على انسجام الآيات وصلة بعضها ببعض.
وفي كلمات الإمام أمير المؤمنين إشارة إلى هذا النمط من الاستدلال ، يقول
ـ عليه السَّلام ـ :
« وإنّ الخَلْقَ لا مُقْصِرَ لهم عن القيامة ، مرفلين في مضمارها إلى الغاية
القصوى » (2).
و في خطبة أُخرى قال ـ عليه السَّلام ـ : « قد شخصوا من مستقر الأجداث ،
وصاروا إلى مصائر الغايات » (3).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- سورة النبأ : الآيات 1 ـ 17.
(2) - نهج البلاغة : الخطبة 156.
(3) - نهج البلاغة : الخطبة 190. وفي رسالته إلى ابنه الحسن : « واعلم يا بنيّ أنّك خلقت للآخرة لا
للدنيا الخ ». ( الكتاب 31 ) .
التعلیقات