القدرة المطلقة وإحياء الموتى
الشيخ جعفر السبحاني
2015 Nov 4القدرة المطلقة وإحياء الموتى
إنّ تخيّل استحالة المعاد ، الناشئ من توهّم أنّ إحياء الموتى خارج عن إطار القدرة ، جهل بالله سبحانه ، وجهل بصفاته القدسية ؛ فإنّ قدرته عامة تتعلّق بكلّ أمر ممكن بالذات ، ومن هنا نجد القرآن الكريم يندد بقصور المشركين وجهلهم في مجال المعرفة ، ويقول : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (١). ومعنى عدم التقدير هنا ، عدم تعرّفهم على الله سبحانه حقّ التعرف ، ولذلك يعقبه بقوله : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) ، معرباً عن أنّ إنكار المعاد ينشأ من هذا الباب.
و في آيات أُخرى تصريحات بعموم قدرته ، كقوله : ( أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢).
و قوله تعالى : ( إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٣).
والآيات الواردة في هذا المجال كثيرة (٤).
ثمّ إنّ القرآن يسلك طريقاً ثانياً في تقرير إمكان المعاد ، وذلك عبر الإتيان بأُمور محسوسة أقرب إلى الإذعان والإيمان :
أ ـ القادر على خلق السموات ، قادر على إحياء الموتى
يقول سبحانه : ( وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ) (٥).
وكيفية الإستدلال بها واضحة ؛ فإنّ القادر على إبداع هذا النظم البديع ، أقدر على إحياء الإنسان.
ب ـ القادر على المبتدأ قادر على المعاد
إنّ من الضوابط العقليّة المحكمة أنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، وأنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد ، فلو كانت الإعادة أمراً محالاً ، لكان ابتداء الخلقة مثله ؛ لأنّهما يشتركان في كونهما إيجاداً للإنسان ، وعلى ذلك قوله
سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * ... فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) (٦).
وقوله سبحانه : ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ) (٧).
ج ـ القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الإنسان بعد موته
ويُري الذكر الحكيم في آياته إعادة الحياة إلى التراب بشكل ملموس ، وذلك بصورتين :
أوّلهما : أنّه إذا امتنع عود الحياة إلى التراب ، فكيف صار التراب إنساناً في بدء الخلقة ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ... ) (٨).
ويقول : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ) (٩).
و ثانيتهما : إنّ الأرض الميتة تحيا كلّ سنة بنزول الماء عليها فتهتزّ وتربو بعد جفافها ، وتنبت من كلّ زوج بهيج ، يقول سبحانه : ( وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّـهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) (١٠).
و يقول سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١١).
فليس إحياء الإنسان من التراب إلّا كإحياء التراب الميّت ، باخضرار نباته ، وازهرار أشجاره.
وبهذه النماذج المحسوسة يثبت القرآن عموم قدرته تعالى ، مضافاً إلى البراهين العقليّة على عموم قدرته تعالى شأنه.
الهوامش
١. سورة الزمر : الآية ٦٧.
٢. سورة البقرة : الآية ١٤٨.
٣. سورة هود : الآية ٤.
٤. لاحظ النحل : الآية ٧٧ ، العنكبوت : الآية ٢٠ ، الروم : الآية ٥٠ ، فصلت : الآية ٣٩ ، الشورى : الآية ٩ و ٢٩ ، الأحقاف : الآية ٢٣ ، الحديد : الآية ٢.
٥. سورة الأحقاف : الآية : ٣٣. ومثلها يس : الآية ٨١.
٦. سورة الإسراء : الآيات ٤٩ ـ ٥١.
٧. سورة القيامة : الآيات : ٣٦ ـ ٤٠ ، وقد ورد في هذا المجال آيات أُخر ، فلاحظ يس : الآية ٧٩ ، سورة الطارق : الآية ٥ ـ ٨.
٨. سورة الحج : الآية ٥.
٩. سورة طه : الآية ٥٥.
١٠. سورة الحج : الآيات ٥ ـ ٧.
١١. سورة الأعراف : الآية ٥٧. ولاحظ الزخرف : الآية ١١ ، الروم : الآية ١٩ ، سورة فاطر : الآية ٩ ، سورة ق : ٩ ـ ١١.
مقتبس من : كتاب « الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل »
التعلیقات
١