القدرة المطلقة وإحياء الموتى
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 15 سنةالقدرة المطلقة وإحياء الموتى
إنّ تخيّل استحالة المعاد ، الناشئ من توهّم أنّ إحياء الموتى خارج عن إطار القدرة ، جهل بالله سبحانه ، وجهل بصفاته القدسية ؛ فإنّ قدرته عامة تتعلّق بكلّ أمر ممكن بالذات ، ومن هنا نجد القرآن الكريم يندد بقصور المشركين وجهلهم في مجال المعرفة ، ويقول : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (1). ومعنى عدم التقدير هنا ، عدم تعرّفهم على الله سبحانه حقّ التعرف ، ولذلك يعقبه بقوله : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) ، معرباً عن أنّ إنكار المعاد ينشأ من هذا الباب.
و في آيات أُخرى تصريحات بعموم قدرته ، كقوله : ( أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (2).
و قوله تعالى : ( إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3).
والآيات الواردة في هذا المجال كثيرة (4).
ثمّ إنّ القرآن يسلك طريقاً ثانياً في تقرير إمكان المعاد ، وذلك عبر الإتيان بأُمور محسوسة أقرب إلى الإذعان والإيمان :
أ ـ القادر على خلق السموات ، قادر على إحياء الموتى
يقول سبحانه : ( وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ) (5).
وكيفية الإستدلال بها واضحة ؛ فإنّ القادر على إبداع هذا النظم البديع ، أقدر على إحياء الإنسان.
ب ـ القادر على المبتدأ قادر على المعاد
إنّ من الضوابط العقليّة المحكمة أنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، وأنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد ، فلو كانت الإعادة أمراً محالاً ، لكان ابتداء الخلقة مثله ؛ لأنّهما يشتركان في كونهما إيجاداً للإنسان ، وعلى ذلك قوله
سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * ... فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) (6).
وقوله سبحانه : ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ) (7).
ج ـ القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الإنسان بعد موته
ويُري الذكر الحكيم في آياته إعادة الحياة إلى التراب بشكل ملموس ، وذلك بصورتين :
أوّلهما : أنّه إذا امتنع عود الحياة إلى التراب ، فكيف صار التراب إنساناً في بدء الخلقة ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ... ) (8).
ويقول : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ) (9).
و ثانيتهما : إنّ الأرض الميتة تحيا كلّ سنة بنزول الماء عليها فتهتزّ وتربو بعد جفافها ، وتنبت من كلّ زوج بهيج ، يقول سبحانه : ( وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّـهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) (10).
و يقول سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (11).
فليس إحياء الإنسان من التراب إلّا كإحياء التراب الميّت ، باخضرار نباته ، وازهرار أشجاره.
وبهذه النماذج المحسوسة يثبت القرآن عموم قدرته تعالى ، مضافاً إلى البراهين العقليّة على عموم قدرته تعالى شأنه.
الهوامش
1. سورة الزمر : الآية 67.
2. سورة البقرة : الآية 148.
3. سورة هود : الآية 4.
4. لاحظ النحل : الآية 77 ، العنكبوت : الآية 20 ، الروم : الآية 50 ، فصلت : الآية 39 ، الشورى : الآية 9 و 29 ، الأحقاف : الآية 23 ، الحديد : الآية 2.
5. سورة الأحقاف : الآية : 33. ومثلها يس : الآية 81.
6. سورة الإسراء : الآيات 49 ـ 51.
7. سورة القيامة : الآيات : 36 ـ 40 ، وقد ورد في هذا المجال آيات أُخر ، فلاحظ يس : الآية 79 ، سورة الطارق : الآية 5 ـ 8.
8. سورة الحج : الآية 5.
9. سورة طه : الآية 55.
10. سورة الحج : الآيات 5 ـ 7.
11. سورة الأعراف : الآية 57. ولاحظ الزخرف : الآية 11 ، الروم : الآية 19 ، سورة فاطر : الآية 9 ، سورة ق : 9 ـ 11.
مقتبس من : كتاب « الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل »
التعلیقات
١