بعض الأُمّة الإسلامية
الحساب والشهود
2024 Sep 18المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج٤ ، ص ٢٥٧ ـ ٢٥٩
(٢٥٧)
الشاهد الرابع : بعض الأُمّة الإسلامية
يقوله سبحانه: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (٣) .
والخطاب في الآية للأُمّة الإسلامية ، ولكن المراد قسم منها ، نظير قوله
سبحانه :{ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } (٤) ، مخاطباً بني إسرائيل ، والمراد بعضهم ، فباعتبار
وجود الصّلة القوية بين القبيلة وملوكها ، نسب الملوكية إلى الجميع .
والدليل على أنّ المراد بعض الأُمّة ، هو أنّ أكثر أبناء الأُمّة ، مجهزون
بحواس عادية لا تتحمل إلاّ صور الأفعال والأعمال إذا كانوا في محضر المشهود
عليهم ، وهولا يفي في مقام الشهادة ؛ لأنّ المراد من الشهادة هوالشهادة على
حقائق الأعمال ، والمعاني النفسانية من الكفر والإيمان ، والفوز والخسران ، وعلى كل
خفي عن الحسّ ، و مستبطن عن الإنسان ، وعلى كل ما تكسبه القلوب ، الذي
يدور عليه حساب ربّ العالمين ، يقول سبحانه : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(٣) -سورة البقرة : الآية ١٤٣.
(٤) - سورة المائدة : الآية ٢٠ .
________________________________________
(٢٥٨)
قُلُوبُكُمْ } (١) .
وليس ذلك في وسع الإنسان العادي إذا كان حاضراً عند المشهود عليه ،
فضلاً عن كونه غائباً ، وهذا يدلّنا على أنّ المراد رجال من الأُمّة لهم تلك القابلية ،
بعناية من الله تعالى ، فيقفون على حقائق أعمال الناس من إخلاص ورياء ، وانقياد
وتمرد ، ويؤدّون ذلك يوم القيامة . وهذه الكرامة ليس ينالها جميع الأُمّة ، بل
الأولياء الطاهرون منهم ، لا المتوسطون في الإيمان ، فضلاً عن الملوثين بالمعاصي
والملطخين بالجرائم .
وقد التجأ بعضهم إلى جعل متعلق الشهادة كون الأمّة على دين جامع
ووسط ، وهو بمعزل عن التحقيق ؛ إذ ليس ذلك شهادة بشيء ، وقد وردت لفظة
الشهادة بمعنى واحد في جميع القرآن ، في آياته المختلفة .
وبذلك يظهر معنى قوله سبحانه : { ... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } (٢) . فالخطاب متوجّه إلى الأُمّة ،
والمراد بعضهم ممّن أُعطيت لهم هذه الكرامة.
وهناك وجه آخر لما ذكرنا ، وهو أنّ أقلّ مايعتبر في الشهود هوالعدالة
والتقوى ، والصدق والأمانة ، والأكثرية الساحقة من الأُمّة ، يفقدون ذلك ،
وهم لا تقبل شهادتهم على صاع من تمر أو باقة من بقل ، فكيف تقبل شهادتهم يوم
القيامة؟!
وإلى هذا تشير رواية الزبيري عن الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ قال : « قال
الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (٣) ، فإن ظننت بأنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من
الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر ، يطلب الله
شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية ، كلا ، لم يعنِ الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
(١) -سورة البقرة : الآية ٢٢٥.
(٢) - سورة الحج : الآية ٧٨ .
(٣) -سورة البقرة : الآية :١٤٣ .
________________________________________
(٢٥٩)
مثل هذا من خَلْقه » (١) .
إلى هنا تمّ الكلام حول الشهود الخارجيين ، وإليك الكلام في الشهود
الداخليين ، الذين لا ينفكون عن نفس المجرم .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(١) - تفسير نور الثقلين : ج١، ص ١١٣، الحديث ٤٠٩.
التعلیقات