نظرية أن الوحي نتيجة النّبوغ
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 131 ـ 135
(131)
النظرية الأولى : الوحي نتيجة النّبوغ
إنّ هناك أُناساً يفسرون النبوات والرسالات ، ونزول الوحي على العباد
الصالحين بنحو يجمع بين تصديق الأنبياء من جانب ، والأصول العلمية الحديثة
المادية من جانب آخر . ومن هذا الباب تفسير بعضهم النبوة بالنبوغ ، والوحي
ـ الّذي هو المصدر الوحيد للتسنين والتشريع ـ بلمعات ذاك النبوغ.
وحاصل مذهبهم أنّه يتميز بين أفراد الإنسان المتحضر ، أشخاص يملكون
فطرة سليمة ، وعقولاً مشرقة ، تهديهم إلى ما فيه صلاح الإجتماع ، وسعادة
الإنسان ، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع ، وعمران الدنيا. والإنسان
________________________________________
( 132 )
الصالح الّذي يتميز بهذا النوع من النبوغ ، هو النبي. والفكر الصالح المترشح
من مكامن عقله ، وومضات نبوغه ، هو الوحي . والقوانين الّتي يسنها لصلاح
الاجتماع ، هي الدين . والروح الأمين (جبرائيل) ، هو نفسه الطاهرة الّتي تفيض
هذه الأفكار إلى مراكز إدراكه. والكتاب السماوي ، وهو كتابه الّذي يتضمن سننه
وقوانينه. والملائكة الّتي تؤيّده في حلّه وترحاله ، هي القوى الطبيعية. والشيطان
الّذي يقاومه ويقاوم أتباعه هو النفس الأمّارة بالسّوء ، أو سائر القوى الحيوانية
الداعية إلى الشرّ والفساد. ومع ذلك كلّه ، فالله سبحانه من وراء الجميع.
تحليل نظرية النُبوغ
إنّ تفسير النبوة بالنبوغ ليس تفسيراً جديداً ، وإن صيغ في قالب علمي
جديد ، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر ظهور الإسلام حيث كان العرب الجاهليون
يحسّون بجذبات القرآن وبلاغته الخلابة ، فينسبونه إلى الشعر الّذي كان الحرفة
الرائجة عندهم ، ويتبارز فيه النوابغ منهم ، فكانوا يقولون: (بَلْ هُوَ شَاعِرٌ
فَلْيَأْتِنَا بِآيَة كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ)(1).
ويرد عليهم القرآن الكريم بقوله: (وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر قَلِيلاً مَا
تُؤْمِنُونَ)(2).
وبقوله:(وَ مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ
مُبِينٌ)(3).
ومع ذلك يلاحظ عليه:
أوّلاً: إنّ العودة إلى هذه النظرية ينبع من الإحساس بالصَّغار أمام
الحضارة المادية المُدهشة ، المقترنة بأنواع الإكتشافات والإختراعات في مجال
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الانبياء: الآية 5.
2- سورة الحاقة: الآية 41.
3- سورة يس: الآية 69.
________________________________________
( 133 )
الطبيعة ، والقائلون بها جماعة من متجددي المسلمين ، انسحبوا أمام هذه الحضارة ،
ناسين شخصيتهم الإسلامية ، فلجأوا إلى تفسير عالم الغيب ، والنبوة ، والدين ،
والوحي بتفسيرات ملائمة للأُصول المادية ، حتى يَجْبرُوا مركّب النقص في أنفسهم
من هذه الزاوية ، ويصيحوا على رؤوس الأشهاد بأنّ أُصول الدين لا تخالف
الأصول العلمية الحديثة.
ولو صحّت هذه النظرية ، لم يَبْقَ من الإعتقاد بالغيب إلاّ شيء واحد ، وهو
الإعتقاد بوجود الخالق البارئ ، وأمّا ما سوى ذلك ، فكلُّه بأجمعه نتاج الفكر
الإنساني الخاطئ ، بالنتيجة : لا يبقى إذعان بشيء ممّا أتى به الأنبياء من الأصول
والمعارف في الدنيا والآخرة . وهذا في الواقع نوع إنكار للدين ، لكن بصورة لا
تخدش العواطف الدينية.
وثانياً : إنّ قسماً ممّا يقع به الوحي ويخبربه النبي ، الإنباء عن الحوادث
المستقبلية ، إنباءً لا يخطيء تحققه أبداً.
أفترى هل يجرؤ نابغة من نوابغ المجتمع على الإنباء بنزول العذاب قطعاً بعد
أيام ثلاثة ، ويقول: ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّام ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ
مَكْذُوب)(1).
أو يخبر بهزيمة جيوش دولة عظمى في مدة لا تزيد على تسع سنين ، ويقول: (
الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنى الأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ
سِنِينَ...)(2).
إنّ النوابغ وإن سَمَوْا في الذكاء والفطنة ، لا يخبرون عن الحوادث المستقبلية
إلاّ مع الإحتياط والترديد ، لا بالقطع واليقين ، وأمّا رجالات السياسة، اللاعبين
بحبلها لمصالحهم الشخصية ، سواء صدقت تنبؤاتُهم أم كذبت ، فإنّ حسابَهم غيرُ
حساب النوابغ.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة هود: الآية 65.
2- سورة الروم: الآيات 1 ـ 4. والبضْع من العدد من ثلاثة إلى تسعة.
________________________________________
( 134 )
وثالثاً : لو كان لهذه النظرية مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، فما لنا لا
نرى حملة الوحي ومدعي النبوة ينبثون بشيء من ذلك ، بل نراهم على العكس ،
ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى الله سبحانه ، ولا يدّعون لأنفسهم شيئاً.
هذا هو القرآن الكريم ـ الّذي جاء به النبي الخاتم ـ يصرّح بأنً ما حوى
من الحقائق والقوانين ، مّما أوحى به الله سبحانه ، وليس هو من تلقاء نفسه :
(إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ)(1).
(إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(2).
ولا يشك أحد في أنّ الأنبياء عبادٌ صالحون ، صادقون لا يكذبون ولا
يفترون ، فلو كانت السنن الّتي أتوا بها من وحي أفكارهم ، فلماذا يغرون المجتمع
بنسبتها إلى الله تعالى . فهذه النسبة ، إن دلّت على شيء ، فإنّما تدلّ على أنّهم
كانوا يجدون في أنفسهم أنّ إدراكَ هذه السنن والمعارف ، إدراكٌ وراءَ الشعور
الفكريُ المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، وأنّ الطريق الّذي يصلون به إليها ،
غيرُ طرق الإدراك المألوفة.
وبكلمة جامعة : إنّا نرى في المجتمع الإنساني طائفتين من رجال الإصلاح
والصلاح ، كلٌّ يدّعي سَوْقَ المجتمع إلى السعادة:
طائفة ـ ولهم جذور عريقة في التاريخ ـ ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى عالم
الغيب ، ويثبتون لأنفسهم مقام الرسالة والسفارة ، وأنّهم ليس لهم شأن سوى كونهم
وسائط لإبلاغ أمر الله ونهيه.
وطائفة أخرى ـ مع اتّصافهم بالصلاح والسداد والسعي وراء الصالح
العام ـ ينسبون تعاليمهم إلى قرائحهم وبدائع أفكارهم ، ويعلّلون مبادءهم
ببراهين اجتماعية أو تاريخيّة أو عقلية ، ولا يتجاوزون هذا الحدّ قدر شعرة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الأنعام: الآية 50.
2- سورة النجم: الآية 4.
________________________________________
( 135 )
فلو كانت الطائفتان صادرتين عن أصل واحد ، وتستقيان من عين واحدة ،
فلماذا لم تَدّع ثانيتهما ما ادعته الأولى؟
ثمّ إنّ علماء النفس الذين بحثوا عن النبوغ ، ذكروا لبُروزه وتفجرّه في
الإنسان عواملَ ، هي:
1 ـ العشق.
2 ـ انهضام الحُقوق .
3 ـ العزلة.
4 ـ كثرة السكوت.
5 ـ التربية والتوجيه الأوّلي الّذي يتلقّاه الإنسان في صغره.
فإنّ هذه العوامل توجد في الإنسان استغراقاً في نفسه ، وتوقّداً في أفكاره ،
وتَمَيُّزاً في فطنته وذكائه ، ولكن تفسير النبوات والرسالات ، والقوانين والشرائع
الّتي جاء بها الأنبياء بهذا الطريق ، أشبه بتفسير علّة تفجر البركان وثورانه ،
بسقوط طائر على فوهته.
هذا ، ولو كانت شريعة النبي الخاتم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، والكتاب المجيد
الّذي جاء به ، وليديْ النبوغ والعبقرية ، فلماذا عجز عن مقابلته ومقارعته ،
النوابغ والعباقرة طرّاً في جميع القرون إلى عصرنا هذا ، كما سيوافيك تفصيله في
النبوة الخاصة؟.
* * *
التعلیقات