سبب التحدّي بالكلام
التوحيد
منذ 15 سنة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 235 ـ 242
( 235 )
الأمر الأوّل
سبب التحدّي بالكلام
لا شك أنّ الكليم موسى ، تحدّي بمعجزات خاصة ، يعبر عنها القرآن
الكريم بتسع آيات بينات ، في قوله: ( وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَات بَيِّنَات
فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)(1).
وقوله: ( وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء فِي تِسْعِ آيَات
إِلَى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ)(2).
كما أنّ المسيح تحدّي بمعجزات خاصة ، تباين من حيث الماهية معجزات
الكليم ، ويحكي ذلك القرآن بقوله: ( وَ رَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ
بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا
بِإِذْنِ اللهِ وَ أُبْرِءُ الأَكْمَهَ وَ الأَبْرَصَ وَ أُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا
تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(3).
فعند ذلك يطرح السؤال نفسه : لماذا آختُص الكليم بهذه المعاجز ،
والمسيح بتلك الخوارق ، وجاء نبي الإسلام بمعجزة الكلام؟.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الإسراء: الآية 101.
2- سورة النمل: الآية 12.
3- سورة آل عمران: الآية 49. ولاحظ سورة المائدة الآية 110.
________________________________________
( 236 )
والإجابة عن ذلك بوجهين:
الوجه الأوّل : أَصْدَقُ المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر
إذا كان المعجز عبارة عمّا يخرق نواميس الطبيعة ، فلا شك أنّ معرفة ذلك
يختصّ بعلماء الصنعة الّتي يشابهها ذلك المعجز ، فإنّ علماء أيّ صنعة أعرف
بخصوصياتها ، فهم يميّزون بين ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله ، وبين ما
يمكنهم . ولذلك فالعلماء أسرع تصديقاً بالمعجز من غيرهم ، وأمّا الجاهل فباب
الشكّ عنده مفتوح على مصراعيه ما دام جاهلاً بمبادئ الصنعة ، وما دام يحتمل
أنّ المدّعي قد اعتمد على مبادئ معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة.
ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يُخصَّ كلُّ نبي بمعجزة تشابه الصنعة
المعروفة في زمانه ، والّتي يكثر العلماء بها من أهل عصره ، فإنّه أسرع للتصديق ،
وأقوم للحجّة. فكان من الحكمة أن يُخَصَّ موسى ـ عليه السَّلام ـ بالعصا ، واليد
البيضاء ، لما شاع السحر في زمانه ، وكثر الساحرون . ولذلك كانت السحرة أسرع
الناس إلى تصديق برهانه ، لعلمهم بأنّ ما أتى به موسى خارج عن حدود السحر ،
فتيقّنوا من كونه معجزة إلهية.
وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح ، وأتى الأطباء في زمانه بالعجب
العجاب ، وكان للطب رواج باهر في سوريا وفلسطين ؛ إذ كانتا مستعمرتين
للرومان ، فشاءَت الحكمة الإلهية ، أن تجعل برهان المسيح شيئاً يشبه الطب ،
فقام بإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، لُيْعلِم أهل زمانه أنّ ما أتى به خارج
عن قُدرة البشر.
وأمّا نبيّ الإسلام ، فقد ادّعى النبوة بين العرب ، وكان الفن الرائج بينهم
هو الشعر والخطابة ، فقد برعوا في البلاغة ، وامتازوا بالفصاحة ، وبلغوا الذَّروة
في فنون الأدب. وكانوا يعقدون النوادي ، ويقيمون الأسواق لإلقاء الخطابة
والشعر ، وكان المرء يُقَدَّر على حسب ما يحسنه من إلقاء الخطب الرنّانة ، والأشعار
البليغة.
وقد بلغ تقديرهم للأدب والشعر إلى حدّ عمدوا إلى قصائد سبع ، من خيرة
________________________________________
( 237 )
أشعارهم ، فعلّقوها على جدار الكعبة ، بعد ما كتبوها بماء الذهب ، فكان يقال
هذه مُذَهّبة امريء القيس إذا كانت أجود شعر.
كما بلغ اهتمام رجال العرب ونسائهم بالخطابة والشعر إلى أنّهم كانوا يحتفلون
كل عام في موسم الحج إحتفالات كبيرة لإلقاء الخطب والأشعار . وكان النابغة
الذبياني هو الحَكَم في تمييز الراجح من المرجوح ، فيأتي سوق عكاظ ، وتضرب له فيه
قُبّة حمراء من الأَدم ، فيأتيه الشعراء ، فيعرض كلّ أبياته الّتي صاغها طيلة السنة
المتقدمة(1).
وفي هذه الأجواء ، كانت المناسبة تقتضي أن تكون معجزة المدّعي مشابهة
للفن الرائج في ذلك الظرف ، فلذلك جاء بمعجزة البيان ، وبلاغة الكلام ، حتى
يعرف كلُّ عربي أو الأخصائي منهم أن قُرآنه بعذوبته وحلاوته ، وسمو معانيه
وعمقها ، وروعة نظمه وبداعة أُسلوبه(2) ، خارج عن إطار الكلام الرائج بين
فصحاء العرب وبُلغائهم ، أوّلاً ، وخارج عن طاقتهم ومقدرتهم ، ثانياً.
وسيوافيك تصديق أكابرهم وفحولهم المعاصرين للنبي الأعظم ، بكون كلامه
خارجاً عن طوق البشر ومقدرته ، كما سيوافيك تحليله بوجه علمي ملموس.
وهناك كلام لأحد أئمة الشيعة ـ قيِّمٌ جِدّاً ـ نأتي به:
روى الكليني عن أبي يعقوب البغدادي قال : قال ابن السَكّيت(3) ، لأبي
الحسن(4): « لماذا بعث الله موسى بن عمران ـ عليه السَّلام ـ بالعصا ، ويده
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- شعراء النصرانية : ج 2، ص 640، ط بيروت.
2- سيوافيك أنّ الإعجاز البياني للقُرآن يقوم على أُسس أربعة هي الّتي أشرنا إليها في المتن.
3- أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي، أحد أئمة اللغة والأدب ، وكان حامل لواء علم العربية ،
وله تصانيف منها : كتاب تهذيب الألفاظ ، وكتاب إصلاح المنطق ، قتله المتوكل في خامس شهر
رجب عام 244 هـ ، بحجّة أنّه قال إنّ قنبراً ـ خادم علي ـ خير منه ومن ابنيه. فقال المتوكل
للأتراك ، سلّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا ، فمات. لاحظ تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص 376.
4- الإمام الهادي أبو الحسن ، علي بن محمّد بن علي الرضا ، المدفون بسامراء ، الشهيد بيد المعتزبالله
عام 252 هـ .
________________________________________
( 238 )
البيضاء ، وآلة السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطب؟ ، وبعث محمّداً( صلّى الله عليه
وآله وعلى جميع الأنبياء) بالكلام والخطب؟».
فقال أبو الحسن ـ عليه السَّلام ـ : «إنّ الله لما بعث موسى ـ عليه السَّلام ـ
كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم
مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجّة عليهم.
وإنّ الله بعث عيسى ـ عليه السَّلام ـ في وقت قد ظهرت فيه الزِّمانات(1) ،
واحتاج الناس إلى الطب ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى
لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وأثبت به الحجّة عليهم.
وإنّ بعث محمّداً ـ صلى الله عليه وآله ـ في وقت كان الغالب على أهل
عصره الخطب والكلام ـ وأظنه قال: الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه
وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجّة عليهم.
قال فقال إبن السكِّيت : « تالله ما رأيْتُ مثلك قَطً»(2).
الوجه الثاني : الدين الخالد رهن المعجز الخالد
وهناك وجه ثان لاختصاص النبي بهذه المعجزة ، وهو الفرق الواضح بين
دعوته ، ودعوة سائر الأنبياء ؛ فإنّ دعوتهم وشريعتهم كانت محدودة زماناً ومكاناً ،
أو من حيث الزمان فقط . ولأجل ذلك كانوا يبشرون بمجيء نبي آخر ينسخ
بشريعته شرائع مَنْ قَبْلَه . ومِثْل تلك الدَّعَوات يكفي في إثباتها وجود معاجز تنقلها
الأجيال المعاصرة للأنبياء إلى الأجيال التالية لهم بصورة الأمر المتواتر ، ومثل هذه
المعاجز لا تكفي للدعوة الخالدة ؛ لأنّ الإيمان بالعاجز والإذعان بصحتها من
خلال نقلها بالتواتر يزول بمضي الزمان ، إلى حدّ تصبح معه أموراً ظنية ، غير
قابلة لاتمام الحجّة ، للأجيال المتلاحقة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الزِّمانات : الآفات الواردة على بعض الأعضاء فتمنعها من الحركة كالفالج واللَّقوة.
2- الكافي : ج 1، كتاب العقل والجهل ، الحديث 20، ص 24 ـ 25.
________________________________________
( 239 )
فلأجل ذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الدين الخالد مقروناً بالمعجزة
الخالدة ، حتى تتم الحجّة على جميع الأجيال والقرون إلى أن تقوم الساعة ، وهذا
لا يمكن إلاّ بأن يكون للإعجاز وجودٌ خالدٌ وثابتٌ عبر القرون ، وليس ذلك إلاّ أن
يكون مثل القرآن.
وهذا لا يعني أنّه لم يكن للنبي الأكرم معجزة سوى القرآن ، فإنّ ذلك باطل
كما سنفصل البحث عنه في المقام الثاني ، بل يعني أنّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـاختُص
بهذه المعجزة دون غيره ، وأنّه كان يركز عليها دون غيرها من سائر معاجزه.
وبعبارة أخرى : إنّ لدعوته سمة الشمول وسمة الخاتمية ، أمّا الشمول ،
فَبَعْثُه إلى البشر كلِّهم ، وأمّا الخاتمية فادعاؤه بأنّه خاتم النبيين ، وأنّ كتابه خاتم
الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فمثل هذه الدعوة الّتي تَعُمُّ جميع الأجيال
والأمكنة ، لا تتم إلاّ باقترانها بمعجزة ساطعة على مرّ الدهور وتعاقب الأجيال ،
أوّلاً ، وفي جميع الأمكنة ، ثانياً ، حتى يتمّ الإحتجاج على المتحرّي ، في جميع
الأمكنة والأزمنة . وقد عرفتَ أنّ مرور الزمان يضفي على سائر المعاجز ، ثوب
الظنّ والشك ، إلى أن تصبح في أعين الناس ، خصوصاً الذين هم في منأى عن
الأجواء الدينية ، كالأساطير الّتي تقرء في الكتب. فعند ذلك لا يتمكن المسلم
المحتج من إقامة الحجّة على مخالفه ومعانده ، بل لا تتم الحجّة في حدّ نفسها على
المخالف. فاقتضت مشيئته سبحانه أن يبرهن دعوة نبيّه الخاتم بمعجزة ناطقة
بالحق ، في جميع الأمكنة والأزمنة تكون كفيلة بإتمام الحجّة على البشر إلى قيام
الساعة: ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(1)، بل تكون (للهِ
الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)(2) على الناس في كل مكان وزمان.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- اقتباس من آيتين إحداهما في سورة النساء: الآية 165 والثانية في سورة الأنعام: الآية 149.
2- اقتباس من آيتين إحداهما في سورة النساء: الآية 165 والثانية في سورة الأنعام: الآية 149.
________________________________________
( 240 )
مزايا أخرى لهذه المعجزة
1 ـ القُرآن كتاب الهداية والتربية
إنّ الكتاب الّذي جاء به نبي الإسلام سنداً لنبوته ، يؤدّي مهمّتين:
1 ـ يثبت أنّه مبعوث من جانبه سبحانه ، وفي هذا يتساوى مع معاجز
المتقدمين عليه من الأنبياء.
2 ـ يهدي الناس إلى أُصول المعارف والعقائد ، يتكفّل بتربية البشر ،
وسوقهم إلى الفضائل الأخلاقية ، وهذه مزية تختص بمعجزته الخالدة ، ولا توجد
في معجزة أخرى . فإن ما جاء به الكليم والمسيح من المعاجز كإنقلاب العصا إلى
الثعبان ، وإحياء الموتى ، لا يؤدّي سوى مهمة واحدة وهي إثبات أنّ الجائي بها
مبعوث من جانب الله سبحانه . وأمّا المعجزة الخالدة ، فهي تهدي ـ مضافاً إلى
ذلك ـ إلى المعارف العليا ، وكرائم الأخلاق ، والفرائض والمنهيات. فهي
بمفردها : برهان نبوته ، وهادي أُمته إلى ما يجب عليهم الإعتقاد به أو العمل به.
وبعبارة أخرى : إنّ معاجز الكليم والمسيح معاجز جسمانية ، لا تثبت إلاّ
صلتهما بالله سبحانه ، وأمّا القرآن الكريم فهو معجزة معنوية ، تصقل العقول
والأرواح ، وتُرْشد إلى طريق الخير والصلاح . والنبي الأكرم قام ـ بفضل هذه
المعجزة ـ بصنع أُمة ، بلغت من الفضل والكمال كل مَبْلغ بعدما كانت غارقة في
الجهل والأُمّية.
2 ـ استقلالها في إثبات الرسالة
إنّ لهذا الكتاب مزية ثانية تفتقدها سائر المعاجز ، حتى المعجزات الأخرى
للنبي الأكرم ، وهي أنّ سائر المعاجز لا تثبت شيئاً إلاّ أن يكون معها مدّعي
النبوة ، فيدّعي ويُسأل البينة ، فيأتي بالمعجز ، ويتحدّى به ، إلى آخر ما ذكرنا من
شروط المعجز.
وأمّا القرآن الكريم ، فإنّه بنفسه يقوم بكل هذه الأُمور ، فيطرح بنفسه
________________________________________
( 241 )
الدعوى ، ويتساءل ـ هو ـ عن برهانها ، ثمّ يثبتها بنفسه ، ويتحدّى الناس على
الإتيان بمثله ، ويعجزهم ويدينهم . وهذه خصيصة لهذه المعجزة لا توجد في سائر
المعاجز.
3 ـ التحدّي بأبسط الأشياء وأوفرها
قد تعرفت في مباحث الإعجاز ـ من النبوة العامة ـ على الفروق الواضحة
بين المعجزة وغيرها ، وقلنا إنّه ربما يصل العلم والصنعة إلى الغاية الّتي وصلت
إليها معاجز الأنبياء ، ومع ذلك كلّه لا تتجاوز الصنعة عن كونها صنعة بشرية ، ولا
تدخل في إطار الإعجاز.
مثلاً : إنّ سليمان بن داود ، أوّل من فتح أبواب الفضاء على عُيون المجتمع
الإنساني ، فهو كان رائد الفضاء الأوّل بفضل الريح المسخرة له ، يقول سبحانه:
(فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْري بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ)(1).
ولم تتوفق الحضارة البشرية إلى إرسال الإنسان إلى الفضاء إلاّ بعد آلاف
السنين ، حتى تمكنت أخيراً من إنزاله على سطح القمر ، والركب بعد مستمر ،
ومع ذلك كلّه فما أنجزته هذه الحضارة لا يخرج عن إطار الصنعة ، لوجود الميز
الجوهري بين العَمَلين ، وإن اتحدا في النتيجة ؛ وذلك أنّ سليمان بَدَأَ عمله بأبسط
الأشياء ، وأكثرها شياعاً ، وهو الجلوس على بساط ، يحركه الريح ، تجري بأمره
حيث شاء كما قال تعالى: ( وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا
شَهْرٌ)(2).
وأمّا ما قامت به الحضارة الصناعية من إرسال الرّواد إلى الفضاء ، فهو
صنعة بحتة ؛ لأنّها قامت بهذا الفعل بأعقد الصناعات وأخفاها. فالسفينة
الفضائية الحاملة لعدّة من الرواد ، والّتي هبطت على سطح القمر ، اشترك في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سور ص: الآية 36.
2- سورة سبأ: الآية 12.
________________________________________
( 242 )
صنعها مجموعة هائلة من الصناعيين وخبراء العلوم الطبيعية من علماء الفيزياء
والكيمياء والفلك والرياضيات والطب ، حتى علماء النفس وغيرهم ممّن خدموا
هذه السفينة والصواريخ الحاملة لها . فلأجل ذلك كلما ازدادت الصناعة عمقاً
وتعقيداً ، اتّضح كونها نتيجة حضارة بشرية بحتة ، لا صلة لها بأمر سماوي.
ونفس هذه القاعدة تنطبق على معجزة النبي الأكرم بوضوح ، فإنّه تحدّى
بشيء مؤلف من مواد يعرفها كل الناس وفي متناولهم ، حيث إنّه لا يتجاوز عن كونه
حروفاً وألفاظاً تشكل لغة العرب ومفردات كلامهم وجملهم . فلو كان هذا القرآن
مصنوعَ نفسِ مَنْ جاء به ، فهو وسائر الناس في هذه الحلبة سواء ؛ لأنّ موادّه في
متناول الناس واختيارهم ، فليقم خُبَراُؤهم وعلماؤهم وبُلَغاؤهم وفصحاؤهم بصنع
كتاب ، أو عشر سُوَر ، أو سورة واحدة مثله..
ومع أنّ كل المعاجز تشترك في هذا المضمار ، غير أنّ القرآن يمتاز عنها بمزية
ثالثة ، وهي أنّ الإذعان بكون ما جاء به الكليم والمسيح من المعاجز ، يحتاج إلى
معلومات خاصة حتى يتميز في ظلّها السّحر والطب من الإعجاز ، ولكن الإذعان
بكون القرآن معجزة إلهية لا يحتاج إلى شرائط في السامع أزيد من كونه عربياً
صميماً عارفاً بأساليب الكلام ، فإنّ ذلك كاف في تمييز ما هو داخل في حدود
الطاقة البشرية عمّا هو خارج عنها ، ولأجل ذلك كان النبي يتحدّى بالقرآن ، ويدعو
كلَّ الناس إلى المقابلة والمنازلة ، وقلّما يّتفق أن يسمع إنسان كلامه ولا يتأثر منه ،
وإن كان أغلبهم يعارض ما يجده حقّاً في فطرته وعمق ضميره ، بأساليب
شيطانية ، كما سيوافيك في قصة الوليد بن المُغيرة ، وعتبة بن ربيعة ، ومجمل سيرة
رؤساء قريش.
هذه المزايا الثلاث تختص بمعجزته الخالدة . ولها مزايا أخرى سنقف عليها
خلال المباحث الآتية.
التعلیقات