الوضوء في عهد علي بن أبي طالب
السيد علي الشهرستاني
منذ 15 سنةعهد علي بن أبي طالب « ٤٠ ـ ٣٥ هـ »
بعد أن توصلنا في البحوث السابقة إلى تعيين زمن الخلاف ، ومنزلة المختلفين ، نتساءل ، بما يلي :
لو صحّ ما ذهبنا إليه ، فلماذا لا نرى لعلي موقفاً في مواجهة هذه البدعة الظاهرة ، من خطبة أو رسالة أو رأي ؟ وعلي معروف بصلابته في الدين ، وبوقوفه الجاد والحاد أمام اجتهادات الصحابة ، وأن مواقفه مع الشيخين ، وحتّى مع عثمان نفسه لا تنسى.
وإذا كان الأمر كذلك .. فما هو تفسيرنا لهذه الظاهرة إذن ؟
ولماذا السكوت ؟!
أضف إلى ذلك ، أن الشيخ الأميني (1) ـ رغم تتبعه وإحصائه لكلّ شاردة وواردة عن الخليفة الثالث ، في كتابه « الغدير » ـ لم نره يتطرق لهذه المسألة ، ولم يعدها من مبتدعاته ، وكذا الحال بالنسبة للعلّامة المجلسي ، في كتابه « بحار الأنوار » !
وعليه .. فكيف لنا أن نقول بإحداث الخليفة الثالث بعد هذا ؟!
نلخص الجواب عن هذا التساؤل في أربع نقاط :
الأولى : معارضة الصحابة لوضوء عثمان
أوقفتنا البحوث السابقة على وجود معارضة دينيّة قويّة كانت تواجه الخليفة ، وقفت له بالمرصاد وعارضت اجتهاداته ، وبمناسبات عدّة ، لكن الخليفة ظلّ غير عابئ بتلك المعارضة ، وواصل مسيره في تطبيق ما يراه من آراء ، غير مكترث بما قيل ويقال ضدّه ، وما قضيّة الوضوء إلّا إحدى تلك الموارد ، فإنّه ـ وكما مرّ سابقاً ـ كان يجلس بالمقاعد وباب الدرب ، وبحضور الصحابة ، فيشهدهم على وضوئه الغسلي ، ثمّ يحمد الله لموافقتهم إيّاه ، وقد عرفت بأنّه كان يتوضّأ ويمسح على رجليه شطراً من خلافته ! ويضحك عند نقله ذلك الوضوء !!!
هذا وإن كلّ تلك الجهود التي بذلها عثمان لترسيخ إحداثاته ذهبت هباء ، بعد أن غلبت كفة المعارضة عليه ، وأودت بحياته في آخر المطاف.
علماً أن إحداث الخليفة عثمان في الوضوء لم يكن كتشريع عمر في صلاة التراويح ، وأنّها لا تحرج الإمام عليّاً كما أحرجته في مواجهته لاجتهادات عمر ، فإنّه (ع) قد جد لأن يمحو تلك البدعة الحسنة « صلاة التراويح » التي سنّت من قبل عمر ، لكن الجند صاحوا : وا سنّة عمراه ، وا سنّة عمراه ، وقد جاء في كلام له يشير إلى ذلك ، فقال :
قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله ، متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيرين لسنّته ، ولو حملت الناس على تركها ، وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله (ص) لتفرق عني جندي حتّى أبقى وحدي ، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسول الله.
أمّا قضيّة عثمان ، فإنّها ليست كذلك ، بل تختلف عن عهد الشيخين اختلافاً جوهريّاً ، إذ ترى المنتفعين والمدافعين عنه قد انحصروا ببعض الأمويين وأصحاب المصالح ، أمّا الغالبيّة الساحقة فهي ضده.
إذن ، المخالفة مع التشريع العثماني لم تكن كالمخالفة مع ما سنّ في عهد عمر ، إذ ترى الناس يحمون الخليفة عمر ويدافعون عن آرائه ، أمّا هنا فالمعارضون هم كبار الصحابة وهم الذين كانوا يتحدّثون عن رسول الله (ص) ، ولا يعقل أن نتصوّرهم يتحدّثون بشيء وهم لا يفعلونه ، ولذا فنقلهم لوضوء النبي (ص) وتشكيكهم في وضوء عثمان ، وإصرارهم على عدم متابعة عثمان في اجتهاده ، لإشارة بيّنة على أن سيرتهم كانت موقفا.
والمعارضة ـ كما عرفت ـ هم من :
أصحاب محمّد (ص) ..
قراء الأمّة ..
فقهاء الإسلام ..
العشرة المبشّرة بالجنّة ..
زوجات النبي (ص) ..
فهم ليسوا بفئة سياسيّة أو حزب علوي ، كما ادّعاه بعض الكتاب والمؤرّخين.
وما يعنيه تصدر الأصحاب ، والقرّاء ، والفقهاء ، والأزواج وغيرهم للوقوف بوجه إحداثات عثمان ؟!!
وإذا تصدر المعارضة أمثال هؤلاء ، فهل يلزم عليّاً لأن يخطب ، أو يكتب رسالة ، وما شابه .. في الردّ على إحداث عثمان ؟
إن المعارضة قد كفت عليّاً مواجهة عثمان في هذه المسألة ، وقد عرف عن علي أنّه كان يتكلّم حين يسكت الآخرون عن إظهار حقّ ، وحيث كان التيار الراد على عثمان في الوضوء وغيره عارماً ، فلا داعي ولا ضرورة لصدور نصّ عنه ضدّ عثمان ، خصوصاً إذا ما عرفنا أن المسلمين ـ عموماً ـ لم يتأثّروا بتلك الاجتهادات العثمانيّة في عهده ، بل نرى البعض منهم قد حكم من جرائها بكفره.
وقد يحتمل أن نصوصاً صدرت عنه في قضيّة الوضوء ، لكن الأيدي الأمويّة ـ وهي المدوّنة للتاريخ والحديث ـ قد تلاعبت بتلك أو حذفتها من الأصول.
الثانية : موقف علي العملي من الوضوء البدعي
نبدأ بإثارة السؤال الآتي :
هل أن المخالفة العمليّة أشدّ وقعاً ، أم القوليّة ؟؟
من الطبيعي القول بالأولى ، لكونها أبلغ في إيصال المطلوب ، وخصوصاً فيما نحن بصدده ، إذ أن الوضوء فعل ، وأن الفعل يتّضح مطلوبه ـ بدقّة ـ بالممارسة والتطبيق.
والآن .. فثمة شواهد كثيرة في بطون كتب الحديث والتفسير والتاريخ تدلّ على أنّ عليّاً قد واجه إحداث عثمان عمليّاً ، فقد نقل عنه أنّه توضّأ أيّام خلافته في الرحبة ، فوصف وضوء رسول الله (ص) ، وقال : « هذا وضوء من لم يحدث » (2) .. وفي العبارة إشارة إلى من أحدث !
فمن هو المحدّث يا ترى ؟
وفي أيّ عهد من عهود الخلفاء كان ؟
وهل يمكن عدّ أبي بكر أو عمر من الذين قد أحدثوا أو أحدث في زمانهم ؟
لقد اتّضح لنا ـ على ضوء البحوث السابقة ـ أنّ الخلاف قد وقع في عهد عثمان ، لقول أبي مالك الدمشقي : حدثت أن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء (3).
ولما أخرجه مسلم ، عن حمران : إنّ عثمان توضّأ ، ثمّ قال : إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله بأحاديث لا أدري ما هي ! ألا إنّي رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا.
وقلنا بأن الخليفة هو الذي عارض « الناس » في وضوئهم ، وأنّهم كانوا الامتداد لوضوء النبي (ص) ، وأنّهم كانوا من أعاظم الصحابة ، وغيرها من الأدلّة والشواهد التي قدّمناها.
وهنا .. لا بدّ من الإشارة إلى من أوّل الخبر وقلب مفهومه ، لكي يستفيد منه لمذهبه القائل بوجوب الغسل بدلا من المسح ..
فقال قائلهم : إنّ عليّاً قال : « ... هذا وضوء من لم يحدث » ومعناه : من لم يصدر منه الحدث الناقض للطهارة ، فيكون المجرّد من غسل الرجل ، والمحتوي على مجرّد المسح وضوءاً غير رافع للحدث !
وبذلك .. يكون الوضوء ـ عندهم ـ وضوءين :
١ ـ وضوء رافع للحدث ، وهو المشتمل على غسل الرجلين.
٢ ـ وضوء تجديدي ، غير رافع للحدث ، وهو المشتمل على مسح الرجلين أو الخفين (4).
أو ترى الآخر يقول بشيء آخر ، ونحن سنناقش هذه الأقوال في الفصل الثالث من هذا الكتاب « الوضوء في الميزان » إن شاء الله تعالى ، هذا من جهة ..
ومن جهة أخرى .. المعروف عن علي بن أبي طالب صلابته في دين الله ، ووقوفه أمام اجتهادات الصحابة ، لأخذهم بالرأي ، وتركهم صريح القرآن وفعل النبي (ص) ولما كان هذا الوضوء وفق ما طرحناه احداثاً في الدين ، فالإمام كان لا يمكنه تجاهل ذلك بل في كلامه إشارة إليه وستقف عند سردنا لأحاديث الباب على كلماته وأفعاله المشعرة بدحض خطّ الاجتهاد والرأي أمام النصّ وبطلانه.
نقل الشيخ نجم الدين العسكري حديثاً أخرجه أحمد في مسنده ، عن أبي مطر ، قال : بينما نحن جلوس مع أمير المؤمنين علي في المسجد ، على باب الرحبة ، جاء رجل فقال : أرني وضوء رسول الله (ص) ـ وهو عند الزوال ـ ، فدعا قنبر ، فقال : ائتني بكوز من ماء ... فغسل كفّيه ووجهه ، وغسل ذراعيه ، ومسح رأسه واحدة ، ورجليه إلى الكعبين .. ثمّ قال : أين السائل عن وضوء رسول الله ، كذا كان وضوء نبي الله (5).
لكن الموجود في مسند أحمد وكذا في كنز العمال : بينما نحن جلوس مع علي في المسجد ـ على باب الرحبة ـ جاء رجل ، فقال : أرني وضوء رسول الله ـ وهو عند الزوال ـ فدعا قنبر فقال : ائتني بكوز من ماء. فغسل كفيه ووجهه ثلاثاً وتمضمض ثلاثاً وغسل ذراعيه ثلاثاً ومسح رأسه واحدة ، ـ فقال داخلها من الوجه وخارجها من الرأس ـ ورجليه إلى الكعبين ثلاثاً. وفي كنز العمال ليس فيها « ثلاثاً » (6).
والذي نفهمه من الحديث ، هو : أنّ الإمام عليّاً قد أتى بالوضوء التعليمي وهو في أيّام خلافته ، وبطلب من سائل (7).
وأنّ جملة « أرني » التي ابتدأ بها السائل كلامه ، تدلّ على وجود خلاف بين الأمّة في الوضوء وأنّ السائل كان يريد من الإمام أن يوقفه على وضوء النبي !
ويتّضح محلّ النزاع بين المدرستين في الوضوء بما نقله الراوي : مسح رأسه ورجليه واحدة .. للدلالة على أن النزاع كان في :
أ ـ العدد.
ب ـ حكم الأرجل ـ هل هو المسح أم الغسل ؟
فالإمام علي أراد أن يؤكّد للسائل بأن الوضوء المشتمل على مسح الرجلين إنّما هو وضوء رسول الله لا غير ، إذ أن السائل كان في مقام التعلّم والإمام في مقام التعليم ، فلا يعقل أن يصدر منه المسح وإرادة المعنى التجديدي والذي قال به البعض ، أو يراد منه شيء آخر.
وتتّضح الحقيقة بأدقّ ملامحها إذا ما قسنا هذا الكلام من الإمام مع ما صدر عنه في مواقع أخرى وتأكيده على لفظ الاحداث والمحدث.
فإنّه ـ وكما قلنا سابقاً ـ كان يواجه القائلين بـ : « رأي رأيته » في الأحكام ـ وعثمان من أولئك القائلين ـ بكلّ قوّة ، وصلابة حيث لا حجيّة للرأي قبال النصّ الصريح في القرآن ، كما أن الصحابة لا يمتازون عن الناس بشيء من حيث العبوديّة ، فلهم ما لهم ، وعليهم ما عليهم ، والكلّ سواسية فيما وضع على عواتقهم من تكاليف شرعيّة ، ولا مبرّر لترجيح رأي على آخر ، إلّا إذا كان أحدهما مدعوماً أو مسنداً بالقرآن أو السنّة.
وما كان رسول الله (ص) يرى أن له الحقّ في التشريع على ضوء ما يراه هو ، بل : وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (8) .. وقد ثبت عنه (ص) أنّه كان لا يقول برأي أو قياس ، إلّا : ... بِمَا أَرَاكَ اللَّـهُ (9).
نعم، كان الإمام علي يواجه تلك الاجتهادات ، ويسعى لتخطئة أصحاب الرأي بالإشارة والتمثيل .. ومن تلك الأخبار :
ما أخرجه المتّقي الهندي ، عن جامع عبد الرزاق ، وسنن ابن أبي شيبة ، وسنن أبي داود .. كلّهم عن علي ، أن قال : لو كان الدين بالرأي ، لكان باطن القدم أحقّ بالمسح من ظاهرها ، لكن رأيت رسول الله مسح ظاهرها (10).
وفي تأويل مختلف الحديث : ما كنت أرى أن أعلى القدمين أحقّ بالمسح من باطنهما حتّى رأيت رسول الله يمسح على أعلى قدميه (11).
وفي نصّ آخر : كنت أرى أنّ باطن القدمين أحقّ بالمسح من ظاهرهما حتّى رأيت رسول الله يمسح ظاهرهما (12) ، وأمثالها ...
بهذا فقد وقفت على كيفيّة مواجهة الإمام علي لخط الاجتهاد وتسقيطه للرأي قبال فعل النبي (ص) ، إذ إن العمل المجزي هو ما قرن بدليل من القرآن أو السنّة .. والإمام كسب مشروعيّته من ذلك ، وإن كان مخالفاً لرأيه الشخصي (13).
ولم يقتصر عمل الإمام على بيان المورد الآنف الذكر ، بل نرى له مواقف كثيرة مع الذين أحدثوا في الدين وأدخلوا فيه ما ليس منه ، وجعلوا اجتهاداتهم ورواياتهم هي الملاك في فهم الأحكام .. ومن تلك الأمور ، قضيّة الوضوء ، فقد طرحت فيها بعض المفاهيم ـ طبعاً في عهد عثمان ـ لإعطائها صبغة شرعيّة عالية !! منها :
١ ـ عدم جواز شرب المتوضّي فضلة وضوئه وهو قائم.
٢ ـ عدم جواز ردّ المتوضّي سلام أحد ، لأنّه في الوضوء ... وغيرها.
فالإمام ولأجل إبعاد هذه المفاهيم عن الشرعيّة واعتبارها إحداثات في الدين .. نراه يشرب من فضل وضوئه وهو قائم ، ويقول « هذا وضوء من لم يحدث »
فجملة « هذا وضوء من لم يحدث » تأتي دائماً مع وجود الإحداث ، كما شاهدت هنا ، وستقف عليه في المستقبل كذلك ، لا أنّه بمعنى رفع الحدث ـ كما ادّعاه البعض ـ ، ولتطبيق المدعى أكثر .. إليكم بعض النصوص :
عن محمّد بن عبد الرحمن البيلماني ، عن أبيه ، قال : رأيت عثمان بن عفّان بالمقاعد ، فمرّ به رجل فسلّم عليه ، فلم يردّ عليه ، فلمّا فرغ من وضوئه ، قال : إنّه لم يمنعني أن أرد عليك إلّا أنّي سمعت رسول الله (ص) يقول : من توضّأ فغسل يديه ، ثمّ تمضمض ثلاثاً ، واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً ، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ومسح برأسه ، وغسل رجليه ، ثمّ لم يتكلّم حتّى يقول :
أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، غفر له ما بين الوضوئين (14).
وعن عثمان : إنّه توضّأ بالمقاعد ، فغسل كفّيه ثلاثاً ثلاثاً ، واستنشق ثلاثاً ، ثمّ تمضمض ثلاثاً ، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ومسح برأسه ثلاثاً ، وغسل قدميه ثلاثاً .. وسلّم عليه رجل وهو يتوضّأ ، فلم يرد عليه حتّى فرغ ، فلمّا فرغ كلمه يعتذر ، وقال : لم يمنعني أن أرد عليك إلّا أنّي سمعت رسول الله (ص) يقول : من توضّأ هكذا ولم يتكلّم ، ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله .. غفر له ما بين الوضوءين (15).
وعن ابن البيلماني ، عن أبيه .. إنّه : شهد عثمان يتوضّأ على المقاعد ، فسلّم عليه رجل ، فلم يرد عليه حتّى إذا فرغ ردّ عليه ، وجعل يعتذر إليه ، ثمّ قال :
رأيت رسول الله (ص) يتوضّأ فسلّم عليه رجل فلم يردّ عليه (16).
ولا أدري بأيّ شرع لا يردّ الخليفة على سلام الرجل ؟! وهل يعقل أن لا يردّ رسول الله على من يسلّم عليه ـ وهو الأسوة الحسنة ـ وصريح القرآن يؤكّد بقوله إذا حييتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها ؟!
وكيف به لا يرد وقد تطابق أقوال علماء الإسلام بلزوم جواب السلام وإن كان في حال الصلاة !!
ولماذا لا نرى نقل هذا الخبر وعدم إجابته للسلام في الوضوء المسحي المنقول عنه ؟
وما معنى قوله : من توضّأ هكذا ولم يتكلّم .. وهل حقّاً أنّ لرسول الله وضوءين ، وكيف نراه (ص) يرشد إلى الوضوء الثلاثي دون غيره !!
ولماذا يعتذر الخليفة من الرجل لو كان الذي فعله معه هو تكليفه الشرعي ؟!
نترك هذه التساؤلات .. ولنواصل ما قاله علي بن أبي طالب في شرب فضلة الوضوء وهو قائم وكيف يواجه هذا الخط.
أخرج أحمد في مسنده ، عن النزال بن سبرة : إنّه شهد عليّاً صلّى الظهر ، ثمّ جلس في الرحبة في حوائج الناس ، فلمّا حضرت العصر ، أتي بتور ، فأخذ حفنة ماء ، فمسح يديه وذراعيه (17) ووجهه ورأسه ورجليه ، ثمّ شرب فضله وهو قائم ، ثمّ قال : إنّ أناساً يكرهون أن يشربوا وهم قيام ، وإنّ رسول الله (ص) صنع كما صنعت ، وهذا وضوء من لم يحدث (18).
وفي آخر : وإنّي رأيت رسول الله (ص) فعل كالذي رأيتموني فعلت .. ثمّ تمسح بفضله ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث (19).
وفي نصّ ثالث : أتي علي بإناء من ماء ، فشرب وهو قائم ، ثمّ قال : بلغني إن أقواماً يكرهون أن يشرب أحدهم وهو قائم ، وقد رأيت رسول الله (ص) فعل مثل ما فعلت ... ثمّ أخذ منه فتمسح ، ثمّ قال : هذا وضوء من لم يحدث (20).
وفي نصّ رابع .. وعن طريق آخر ، عن النزال بن سبرة ، قال : رأيت عليّاً (ع) صلّى الظهر ، ثمّ قعد لحوائج الناس .. فلمّا حضرت العصر ، أتي بتور من ماء ، فأخذ منه كفّاً ، فمسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه ، ثمّ أخذ فضله فشرب قائماً وقال : إن أناساً يكرهون هذا وقد رأيت رسول الله (ص) يفعله ، وهذا وضوء من لم يحدث (21).
وأخرج أحمد كذلك ، بسنده عن ربعي بن حراش : إنّ علي بن أبي طالب قام خطيباً في الرحبة .. فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثمّ قال ما شاء الله أن يقول .. ثمّ دعا بكوز من ماء ، فتمضمض منه ، وتمسح ، وشرب فضل كوزه وهو قائم ، ثمّ قال : بلغني إن الرجل منكم يكره أن يشرب وهو قائم .. وهذا وضوء من لم يحدث ، ورأيت رسول الله (ص) فعل هكذا (22).
وعليه .. فقد اطلعت على بعض مواقف الإمام علي تجاه ابتداعات المحدّثين ، وكيفيّة مواجهته للذين أدخلوا في الدين ما ليس منه وعنايته بكلامه وإن ذلك هو وضوء من لم يحدث.
أما الخليفة عثمان فكان يريد إعطاء الوضوء الثلاثي الغسلي قدسيّة أكثر ، فتراه لا يتكلّم ، ولا يشرب فضل وضوئه قائماً ، ويؤكّد على أنّها هي التي توجب غفران الذنوب ...
بقي شيء ينبغي إيضاحه .. فكلمة « يحدث » تعني : إتيان أمر منكر لم يكن معروفاً ...
فقد جاء في المقاييس : حدث : هو كون الشيء لم يكن ، يقال : حدث أمر بعد أن لم يكن (23).
وفي الصحاح : الحدوث : كون الشيء لم يكن ، واستحدثت خبراً ، أي : وجدت خبراً جديداً (24) ، ومثله في تاج العروس (25).
وفي العين (26) والقاموس (27) : الحدث : الإبداع.
وجاء في التكملة والذيل (28) : أحدث الرجل : ابتدع ، والمحدث : المبتدع ، ومنه الحديث « من أحدث فيها حدثاً وآوى محدثاً و ...
وفيه أيضاً : ومحدثات الأمور : ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها ، ومنه الحديث : « وشرّ الأمور محدثاتها .. » ومثله في التهذيب وعنه في اللسان.
ولم يشر أصحاب المعاجم إلى معنى الناقضية إلّا صاحب التهذيب ، وعنه في اللسان ، يقال : أحدث الرجل : إذا صلح أو فضح أو خضب ، أيّ ضرط.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى أصحاب غريب الحديث .. فإنّهم أوردوا استعمالها بمعنى البدعة ، والإحداث في الدين و ... ولا نراهم يتعرّضون إلى معنى الناقضية فيها.
فجاء في غريب الحديث ، لابن الجوزي : « في الأمم محدثون » أيّ : ملهمون أيّ : يصيبون إذا ظنوا.
قال الحسن : « حادثوا هذه القلوب » أيّ : إجلوها واغسلوا درنها.
ثمّ يأتي بالحديث : « إيّاكم ومحدثات الأمور » : هي ما انتزعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها (29).
وجاء في النهاية : وفي حديث المدينة « من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً » الحدث : الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنّة.
والمحدث يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول ، فمعنى الكسر : من نصر جانياً ، أو آواه وأجاره من خصمه ، وحال بينه وبين أن يقتص منه.
والفتح : هو الأمر المبتدع نفسه ، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه ، فإنّه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه.
ومنه الحديث : « إيّاكم ومحدثات الأمور » جمع محدثة ـ بالفتح ـ وهي ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنّة ولا إجماع (30).
وبهذا فقد عرفت بأن الغلبة في اللغة وغريب الحديث هي كون كلمة « الإحداث » جاءت للإحداث في الدين وإن التعدّي في الوضوء هو معنى آخر للإبداع في الدين ، فقد أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن إبراهيم بن معرض أنّه سئل ـ إلى أن يقول ـ فأيّ حدث أحدث من البول ؟
فقال : إنّما يعني بذلك التعدّي في الوضوء ، أن يزيد على حدّ الوضوء (31).
وأخرج الكليني بسنده إلى حماد بن عثمان ، قال : كنت قاعداً عند أبي عبد الله [ الصادق ] ، فدعا بماء فملأ به كفّه فعم به وجهه ، ثمّ ملأ كفّه فعمّ به يده اليمنى ، ثمّ ملأ كفّه فعمّ به يده اليسرى ، ثمّ مسح على رأسه ورجليه وقال :
هذا وضوء من لم يحدث ، يعني به التعدي في الوضوء (32).
وعليه فقد اتّضح لك بأن أهل البيت كانوا يعنون بكلمة « هذا وضوء من لم يحدث » معنى التعدّي والتجاوز عن حدود ما أمر به الله ، وأنّهم أدرى بما في البيت ، علماً بأنّا لا ننكر ورودها واستعمالها في كلام الرسول بمعنى الناقضيّة لكن الغلبة الاستعماليّة ـ وكما قلنا ـ تبوح بأنّها للإحداث في الدين.
فالشريعة كانت تستقبح التصريح بالمقززات والمنفرات في مفرداتها الشرعيّة ، فاستخدمت ما يماثلها في لغة العرب رعاية للأدب وقد كان ذلك من ديدن العرب العرباء ، فمثلاً نراهم يعدلون عن لفظ الفقحة إلى لفظ الدبر رعاية للأدب ، وكذا لفظ المضاجعة والمواقعة والجماع للدلالة على العمل الجنسي بين الطرفين ، والفرج للإشارة إلى العضوين.
وبذلك يحتمل أن يكون مجيء حدث وأحدث في الشريعة هو رعاية للأدب وأرادوا بها العدول عن لفظ خرى أو بال أو ... وعليه فإن لفظ الحدث وكما قلنا موضوع لكون شيء لم يكن ، ثمّ استعملوها في الناقضيّة بنحو من العناية وزيادة المؤونة.
وعلى فرض كون رواية « ... من لم يحدث » محتملة للوجهين ، فلا يمكن للقائل جعلها وظيفة المتجدّد للوضوء فقط ، إذ فيه احتمال آخر ، وحيث جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
وعلى الرغم من كلّ ذلك .. فرواية « ... من لم يحدث » تشير بوضوح إلى الإحداث في الدين ، ونؤيّد هذا القول بأمرين :
الأول : ورود جملة : « ... هذا وضوء من لم يحدث ... » في قضايا خارجيّة تكون بمثابة المؤيّد والمفسّر لما نحن فيه ، كما لاحظنا في قضيّة : « شرب فضلة ماء الوضوء واقفاً » ، فإنّه إنما شرب فضل وضوئه ، ليصحّح ما وقع فيه أولئك واعتبروه خارجاً من الدين.
الثاني : إنّ جملة : « أرني وضوء رسول الله » في الحديث الأوّل ، وقوله : « ... أين السائل عن وضوء رسول الله ... » ، تبينان بأن مسح الرجلين هو من السنّة ، وتشيران إلى أن الإمام كان بمقام التعليم وبيان الوضوء النبوي للسائل مقابل الإحداث والإبداع في الوضوء ، فهاتان قرينتان صارفتان عن معنى التبوّل والتغوّط معيّنتان لمعنى الابتداع واحداث ما لم يكن.
وعليه .. فقد أبطلنا قول من ذهب إلى أن « الحدث » في الرواية المبحوثة هو بمعنى الأمر الناقض للطهارة فقط وسعيه في تأويل الخبر.
الثالثة : موقف علي القولي من الوضوء البدعي
نحن لا نستبعد صدور بعض النصوص القوليّة عن الإمام علي في قضيّة الوضوء ، وتداولها بين الناس في عهده ، لكنّنا نحتمل أن يكون للأيدي الأمويّة أو العباسيّة دور فعّال في طمس أو إضاعة تلك النصوص ، وذلك لما بدر منهم من عداء سافر لعلي بن أبي طالب (33).
وممّا يؤيّد المدّعى .. ما جاء في كتاب الإمام علي إلى محمّد بن أبي بكر وأهل مصر والذي رواه الثقفي في « الغارات ».
فقد جاء في المطبوع منه : ... واغسل كفّيك ثلاث مرّات ، وتمضمض ثلاث مرّات ، واستنشق ثلاث مرّات ، واغسل وجهك ثلاث مرّات ، ثمّ يدك اليمنى ثلاث مرّات إلى المرفق، ثمّ يدك الشمال ثلاث مرّات ، ثمّ امسح رأسك ، ثمّ اغسل رجلك اليمنى ثلاث مرّات ، ثمّ اغسل رجلك اليسرى ثلاث مرّات ، فإني رأيت النبي هكذا كان يتوضّأ (34).
وأخرج الشيخ المفيد بسنده عن صاحب الغارات : « ... تمضمض ثلاث مرّات ، واستنشق ثلاثاً ، واغسل وجهك ، ثمّ يدك اليمنى ، ثمّ اليسرى ، ثمّ امسح رأسك ورجليك .. فإنّي رأيت رسول الله يصنع ذلك (35) ... ».
وقال النوري ، في المستدرك ـ وبعد نقله النصّ الأوّل ـ : قلت : ورواه الشيخ في أماليه ، عن أبي الحسن علي بن محمّد بن حبيش الكاتب ، عن الحسن بن علي الزعفراني ، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الثقفي ، عن عبد الله بن محمّد بن عثمان ، عن علي بن محمّد بن أبي سعيد ، عن فضيل بن الجعد ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن أمير المؤمنين .. مثله ، إلّا أن فيه ، وفي أمالي ابن الشيخ (36) ، كما في الأصل : « ... ثمّ امسح رأسك ورجليك ... » ، فظهر : أن ما في الغارات من تصحيف العامّة ، فإنّهم ينقلون عنه ... (37).
وقال المجلسي ـ وبعد نقله الرواية عن أمالي المفيد ـ :
بيان : استحباب تثليث المضمضة والاستنشاق مشهور بين المتأخرين ، واعترف بعضهم بأنّه لا شاهد له ، وهذا الخبر يدلّ عليه (38).
وقال بعدها : قد مرّ أن هذا سند تثليث المضمضة والاستنشاق ، لكن رأيت في كتاب الغارات هذا الخبر ، وفيه تثليث غسل سائر الأعضاء أيضاً ، وهذا ممّا يضعف الاحتجاج (39) ـ به ـ.
علماً ، بأنّ كلمة « ثلاثاً » لم ترد بعد غسل الوجه واليدين في أمالي المفيد ، والطوسي عن الغارات !
ولا ندري لماذا يضعف المجلسي الاحتجاج بالخبر ، معلّلاً بأن فيه تثليث سائر الأعضاء ؟! وهل التثليث هو الجارح ، أم غسل الرجلين ؟ أم كلاهما معاً ؟ !!
وهل يلزم اعتبار جميع نسخ الغارات صحيحة ، مع ما وقفنا على التعارض فيما بينها ؟
بل كيف يطمأن بنصّ مأخوذ من نسخة مطبوعة متأخّراً ، وترك ذات النصّ المنقول عن نسخة قد مضى عليها ما يقارب ألف سنة أو أكثر ؟! وبطريقي المفيد والطوسي (40).
أمّا نحن .. فنشكّك في صدور النصّ الأوّل عن الإمام علي ، للأسباب التالية :
١ ـ عرف عن الثقفي بأنّه شيعي ، بل من متعصّبيهم ـ كما يحلو للبعض أن ينعته بذلك.
فإن كان شيعيّاً .. فكيف يروي خلاف ما يعتقده ويلتزم به دون أدنى إشارة أو تنبيه ؟!
بل ، وهل يصحّ منه ذلك النقل مع وقوفه على ما يعارضه ويضعفه من الروايات ؟
وقد عدّه ابن النديم من علماء الشيعة (41) ، وذكره الطوسي في رجاله ، في باب : « من لم يرو عن الأئمّة » (42) ، وقال عنه في الفهرست : إبراهيم بن محمّد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي ـ رضي الله عنه ـ ، أصله كوفي ، وسعد بن مسعود أخو أبي عبيد بن مسعود عمّ المختار ولّاه علي عليه السلام على المدائن ، وهو الذي لجأ إليه الحسن (ع) يوم ساباط ، وانتقل أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد إلى أصفهان وأقام بها وكان زيديّا أولا ، ثمّ انتقل إلى القول بالإمامة (43).
وترجم له غالب أصحاب الرجال من الشيعة ، مثل : النجاشي ، العلّامة الحلّي ، ابن داود ، وغيرهم.
هذا وقد تهجم عليه غير واحد من أصحاب الرجال من العامّة ، لتشيّعه :
فقال ابن أبي حاتم الرازي : سمعت أبي يقول : هو مجهول (44).
وقال أبو نعيم : كان غالياً في الرفض، يروي عن إسماعيل بن أبان ، وغيره .. ترك حديثه (45).
وقال السمعاني : قدم أصفهان وأقام بها ، وكان يغلو في الترفض ، وله مصنّفات في التشيّع (46).
وقال الذهبي : قال ابن أبي حاتم : هو مجهول ، وقال البخاري : لم يصحّ حديثه ، أيّ .. فيما رواه عن عائشة في الاسترجاع لتذكر المصيبة (47).
فلو صحّ هذا عنه .. فهل تصدق صدور الوضوء الثلاثي الغسلي عنه في الغارات مع عدم التنويه به ، ومع ما عرفت من كون الإماميّة نقلوا عنه المسح ـ في رسالة علي بن أبي طالب إلى محمّد بن أبي بكر ـ كالمفيد والطوسي وغيرهما ؟! ...
وعليه ، فإن خبر الغارات المطبوع قد حرف !!
٢ ـ إن كتاب الغارات ، من الكتب التي تداولتها أبناء العامة واستفادوا منه ، وليس بعيداً أن يرووا عنه بما يوافق مذهبهم ، وقد كان للنسّاخ والحكّام على مرّ التاريخ الدور الكبير في تحريف الحقائق !
وقد مرّ عليك سابقاً ، أن الطبري وابن كثير كانا يتغاضيان عن نقل بعض النصوص ، بحجّة إنّ العامة لا تتحمّل سماعها ، وأنّهما قد بدلا بعض النصوص بأخرى .. رعاية لحال العامة !
فعلى سبيل المثال : نقل الطبري ، وتبعه ابن كثير ، كلمة « كذا وكذا » مكان جملة : « ووصيّي وخليفتي فيكم من بعدي » ! من كلام النبي (ص) في حقّ الإمام علي ، وذلك في تفسيرهما لآية الإنذار (48) !
وجاء في هامش كتاب « آراء علماء المسلمين » للسيّد مرتضى الرضوي : قبل نصف قرن تقريباً ، قامت دار الكتب المصريّة بالقاهرة ـ بمديريّة الأستاذ علي فكري للدار ـ بمراجعة الكتب التي يشمّ منها التأييد للشيعة الإماميّة ، أو لأهل البيت ، فكانت اللجنة تحذف ذلك الكلام كلّه ، وتختم الكتاب بالعبارة الآتية : « راجعته اللجنة المغيّرة للكتب » بتوقيع رئيس اللجنة علي فكري (49) ! بكلّ جرأة ووقاحة !!!
نعم ، إنّ تحريف النصوص ، والتلاعب بالتراث كان وما زال ، وليس بعيداً أن ينال المستقبل أيضاً بمخالبه وأنيابه.
٣ ـ إنّ رواية الغارات « المطبوع » تخالف ما أصلناه في البحوث السابقة ، وتعارض ما سنبيّنه في البحوث اللاحقة ، التي تؤكّد على اعتبار الإمام علي هو الرائد والمعيد لمدرسة الوضوء الثنائي المسحي أصالتها.
أمّا ما رواه المفيد والطوسي في أماليهما ، فهو يوافق مدرسة الإمام علي وأهل بيته ، وليس بينها وبينهم أي تعارض ، وهذا التوافق يرجح بأن تكون هي الأصيلة لا غير ، إذ أن المفيد والطوسي يتّحد سندهما عند ابن هلال الثقفي ، وأن ما نقلاه عن الغارات يرجع تاريخه إلى القرن الرابع أو الخامس الهجري ، إذ أن المفيد قد توفّي في سنة ٤١٣ هـ ، والطوسي في سنة ٤٦٠ هـ .. فهما كانا قريبي عهد بالغارات ، وإنّي راجعت نصّاً من الأمالي يقرب من عهد المؤلف ورأيت فيه أن الإمام قد كتب إلى محمّد بن أبي بكر بالمسح لا الغسل ، وبعد هذا لا معنى لكتابته إليه بالغسل وقد عرفت ما بينهما من التضاد ، وكيف يكتب بالغسل ونراه وأهل بيته وخاصّته يمسحون اقتداء برسول الله ، وما معنى الكتابة إليه بالغسل بعد ثبوت الإحداث في عهد عثمان ! وستقف على المزيد من الإيضاح لاحقاً إن شاء الله تعالى.
والمتحصّل ممّا سبق هو : إنّ نقل الشيخين ـ المفيد والطوسي ـ هو أقرب إلى الصواب بخلاف ما هو الموجود في الغارات المطبوع والذي تلاعبت فيه أيادي الأهواء والعصبيات ..
وفات على المجلسي إن كلمة « ثلاثاً » هذه ، هي ليست من أصل الكتاب ، وإنّما هي من تلاعب وتحريف النسّاخ ، ولولا نقل المفيد والطوسي لهذا النصّ من الغارات ، لضاع الصواب والتبس الأمر ، ولاء لقيت العهدة على عاتق الثقفي ، وهو منها براء ! ...
وبذلك ، فقد وصلنا إلى زيف النصّ المطبوع ، ووقفنا على بعض ملابسات التحريف.
الرابعة : تدوين الوضوء النبوي في عهد علي
ثبت في كتب التراجم أنّ عبيد الله وعليّاً ابني أبي رافع ـ مولى رسول الله ـ كانا من الذين دوّنوا السنّة النبويّة بأمر الإمام علي بن أبي طالب.
قال النجاشي : وجمع علي بن أبي رافع كتاباً في فنون في الفقه : الوضوء ، الصلاة ، وسائر الأبواب ، ثمّ ذكر مسنده إلى رواية الكتاب (50).
وقد عدّ الإمام شرف الدين في « المراجعات » أسماء الذين دوّنوا السنّة النبويّة فقال : ومنهم علي بن أبي رافع ـ وقد ولد ـ كما في ترجمته من الإصابة ـ على عهد النبي فسمّاه عليّاً ـ له كتاب في فنون الفقه على مذهب أهل البيت ، وكانوا عليهم السلام يعلمون هذا الكتاب ، ويرجعون شيعتهم إليه ، قال موسى بن عبد الله بن الحسن : سأل أبي رجل عن التشهد ، فقال أبي : هات كتاب ابن أبي رافع ، فأخرجه وأملاه علينا (51).
فما يعني نقل مثل هذا عن أئمّة أهل البيت ؟
أو لم يكن بإمكانهم بيان الأحكام الشرعيّة من غير مراجعتهم لكتاب ابن أبي رافع ؟
ثمّ ما دلالة ومفهوم هذا الخبر الذي ينصّ على أن لابن أبي رافع كتاباً في الوضوء ؟
إنّ أقرب الاحتمالات التي تسبق إلى الذهن ، تتلخّص في كون أئمّة أهل البيت كانوا يهدفون من ذلك إلى أمور ، منها :
أوّلاً : إيقاف الناس على الحقيقة ، وإشعارهم أن ما ينقلونه عن رسول الله (ص) هو الثابت صدوره عنه (ص).
ولما كان التدوين محصوراً في فئة معيّنة ومعدودة ، وكتاب ابن أبي رافع من ذلك المعدود ، فقد أراد الأئمّة ـ وبإرجاعهم الشيعة إلى الكتاب المذكور ـ أن يفهموا الشيعة على : أنّهم لا يفتون برأي ، ولا قياس ، بل هو حديث توارثوه عن رسول الله (ص) كابرا عن كابر.
كلّ ذلك ، من أجل أن يحصنوا شيعتهم ويوقفوهم على خلفيّات الأمور.
ثانياً : بما أنّ الوضوء من الأمور المدوّنة في العهد الأوّل ، فيحتمل أن يكونوا قد قصدوا بذلك إيقاف شيعتهم على أن هذا الوضوء لم يكن حادثاً ، كغيره من الأحكام الشرعيّة التي عهدوها في عهد عثمان وغيره ، بل هو وضوء رسول الله (ص) ، كما يرونه بخطّ ابن أبي رافع ، أو في صحيفة علي ، أو ...
وعليه .. فقد عرفنا بأنّ الوضوء كان مسألة مبحوثة عند القدماء ، وأن أئمّة أهل البيت قد أرشدوا شيعتهم لمدارسة تلك الكتب ، للضرورة نفسها.
وقد نقل عن أبي حنيفة أنّه : قد نسب إلى جعفر بن محمّد الصادق بأنّه « صحفي » ، أيّ : يأخذ علمه من الصحف ..
وما كان من الصادق إلّا أنّ أجابه مفتخراً ومصرحاً ، بأنّه لا ينقل حكم الله إلّا عمّا ورثه عن آبائه ، عن رسول الله (ص) ، بقوله : « أنا رجل صحفي ، وقد صدق ـ أي : أبو حنيفة ـ .. قرأت صحف آبائي ، وإبراهيم ، وموسى).
وأشار الأستاذ محمّد عجاج : بأن عند جعفر بن محمّد الصادق رسائل ، وأحاديث ، ونسخ.
وإلى هنا .. فقد اتّضح لنا بأن قضيّة الوضوء كانت مطروحة منذ عهد الإمام علي حتّى أواخر عهد الأئمّة من ولده ، وقد كتب فيها الكثير من أصحاب الأئمّة وعلماء أهل البيت ، منهم :
علي بن مهزيار الأهوازي .. (52)
علي بن الحسن بن فضال .. (53)
علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي .. (54)
أحمد بن الحسن بن فضال (55) ... وغيرهم.
وكتب :
علي بن بلال .. (56)
محمّد بن مسعود العيّاشي .. (57)
والفضل بن شاذان النيسابوري (58) ... وغيرهم .. في إثبات المسح على القدمين ، أو في عدم جواز المسح على الخفين.
وبذلك ، فلا معنى لدعوى من قال : ليس هناك نصّ واحد قد صدر عن علي في هذا الباب !
أمّا ما يخصّ ، عدم نقل العلامتين الأميني والمجلسي ، وغيرهما .. فلا يستوجب تضعيف ما وصلنا إليه ، لأنّهم لم يدعوا جمع كلّ إحداثات الآخرين ، وحصرها في كتبهم ـ وإن أشاروا إلى بعضها ، استطرادا.
أضف إلى ذلك ، أن بحث العلّامة الأميني يختصّ بالغدير ، وكتاب المجلسي يختصّ بروايات أهل البيت .. هذا أوّلا.
وثانياً : إنّ الشيخ الأميني في كتابه الغدير لم يسر على ما انتهجناه ـ في دراسة قضيّة الوضوء ـ من الأسلوب العلمي التحليلي ، المتلخص بجمع المفردات الصغيرة للقضيّة ، وتأليفها ومتابعتها بالشرح والتفسير ابتداءاً لما أخرجه مسلم بن حمران : إنّ ناساً يتحدّثون وانتهاءاً بالحقائق التي سيصلها في آخر الكتاب.
نعم ، إن الشيخ الأميني قد درس القضايا بما فيها من النصوص الثابتة والمنقولة في الإحداث والإبداع ممّا ورد ذكره في كتب السير والتاريخ ، ولا يدعي أكثر من ذلك.
ومن هنا ، فإنّنا نهيب بالأخوة الباحثين انتهاج طريقة التحليل العلمي عند دراستهم لمفردات الخلاف بين المذاهب ، لما تؤوّل إليه من نتائج باهرة يقبلها كلّ ذي لب باحث عن الحقيقة.
وبهذا نكون قد انتهينا إلى ما يهمنا من عهد الإمام علي (59).
مع المصطلحين :
اصطلحنا من أوّل الدراسة وحتّى الآن على مفهومين :
١ ـ الوضوء الثلاثي الغسلي = وضوء الخليفة عثمان بن عفان.
٢ ـ الوضوء الثنائي المسحي = وضوء الناس المخالفين لعثمان المتحدّثين عن رسول الله (ص).
ونود هنا التعريف بهذا الاصطلاح ، وكيفيّة انتزاعنا لهذين المفهومين في دراستنا ، وبذلك نختم الباب الأول من مدخل هذه الدراسة.
المعروف إن الإشهاد عند أهل القانون والشرع هو أنّه من أصول الإثبات ، وغالباً ما يجري في الدعاوي ويكون بمثابة الرأي التعضيدي للمدّعي على خصمه ، وهو حجّة قانونيّة يتمسّك بها لحسم النزاع.
وإنّ الخليفة عثمان بن عفّان ـ كما ترشدنا النصوص الحديثيّة والتاريخيّة ـ قد اعتمد هذا الأصل واستفاد منه فأقدم على إشهاد الصحابة على وضوئه ، وادّعى أن رسول الله كان يغسل أعضاء الوضوء ثلاث مرّات ، مفهماً بذلك أنّه ـ أيّ عثمان ـ على خلاف مع الناس فيه ، إذ أنّهم لا يعتبرون ذلك الفعل سنّة وإن تأكيد الخليفة وإشهاده لبعض الصحابة على الفعل الثلاثي يدلّ على أنّه أراد إسناد ما يدّعيه بتقرير الصحابة وكونه فعل قد صدر عن النبي (ص) ، في حين نرى الإمام جعفر بن محمّد الصادق ـ وهو من أئمّة أهل البيت ـ لا يقبل مشروعيّة الغسل الثالث في الوضوء ولا يرتضي كون ذلك سنّة ، بل وصمه بالبدعة .. ولتقرير الموضوع أكثر ، إليك بعض النصوص :
١ ـ أخرج أحمد في مسنده : حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا وكيع ، ثنا سفيان ، عن أبي النضر ، عن أنس : إن عثمان (رض) توضّأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً ، وعنده رجال من أصحاب رسول الله ، قال : أليس هكذا رأيتم رسول الله يتوضّأ ؟
قالوا : نعم (60).
٢ ـ حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي، ثنا ابن الأشجعي ، ثنا أبي ، عن سفيان ، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد ، قال : أتى عثمان المقاعد ، فدعا بوضوء .. فتمضمض ، واستنشق ، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، ويديه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ قال : رأيت رسول الله (ص) هكذا يتوضّأ، يا هؤلاء ! أكذاك ؟
قالوا : نعم ، لنفر من أصحاب رسول الله عنده (61).
٣ ـ حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا عبد الله بن الوليد ، ثنا سفيان ، حدّثني سالم أبو النضر ، عن بسر بن سعيد ، عن عثمان بن عفان (رض) ، أن قال : دعا بماء فتوضّأ عند المقاعد .. فتوضّأ ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ قال لأصحاب رسول الله (ص) :
هل رأيتم رسول الله (ص) فعل هذا ؟
قالوا : نعم (62).
٤ ـ نقل المتقي الهندي ، عن أبي النضر .. بطريقين :
أ ـ إنّ عثمان توضّأ ثلاثاً ثلاثاً .. ثمّ قال : أنشدكم بالله ، أتعلمون أنّ رسول الله كان يتوضّأ كما توضّأت ؟
قالوا : نعم (63).
ب ـ وبعبارة أخرى : ... ثمّ قال للذين حضروا : أنشدكم الله ، أتعلمون أنّ رسول الله كان يتوضّأ كما توضّأت الآن ؟
قالوا : نعم .. وذلك لشيء بلغه عن وضوء رجال (64).
٥ ـ أخرج الدارقطني بسنده إلى أبي علقمة ، بأن عثمان : دعا ناساً من أصحاب رسول الله ، فأفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى وغسلها ثلاثاً ، ثمّ مضمض ثلاثاً ، واستنشق ثلاثاً ، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ غسل يديه ثلاثاً ثلاثاً إلى المرفقين ، ثمّ مسح برأسه ، ثمّ غسل رجليه فأنقاهما ، ثمّ قال : رأيت رسول الله يتوضّأ مثل هذا الوضوء الذي رأيتموني توضأته ، ثمّ قال : من توضّأ فأحسن الوضوء ، ثمّ صلّى ركعتين ، كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه ، ثمّ قال : أكذلك يا فلان ؟
قال : نعم.
ثم قال : أكذلك يا فلان ؟
قال : نعم.
... حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول الله .. ثمّ قال: الحمد لله الذي وافقتموني على هذا (65) !
نستنتج من النصوص السابقة : إنّ الفعل الثلاثي ، هو من موارد الخلاف بين المسلمين في زمن الخليفة الثالث ، إذ لا يعقل أن يشهد الخليفة جملة من الصحابة على فعل ، وبذلك التركيز ـ كما لاحظناه في رواية أحمد الثانية التي أشهد فيها جماعة من الصحابة في باب المقاعد ، أو في إشهاده لجمع من الصحابة كلا على حدة ، كما في رواية الدارقطني ، وغيرها من الروايات الكاشفة عن حقيقة ما ـ دون أن يكون وراء المسألة « الإشهاد » شيء .. فمحل الخلاف بين الخليفة وآخرين واضح بين ، وإلّا لما احتاج إلى الإشهاد ما دام جميع المسلمين متّفقين على ذلك الفعل باعتباره سنّة !
أمّا المورد الثاني من موارد الخلاف ، والذي نستوحيه من النصوص والروايات ، فهو التأكيد على الغسل من قبل عثمان بدلاً من المسح الذي تعارف عليه الصحابة من فعل النبي (ص) .. كما لاحظت في حديث أبي علقمة السابق الذكر وغيرها ، وقد استغلّ الخليفة الثالث تعبيري « الإسباغ ، والإحسان » الواردين في كلام الرسول فأضفي عليها مفهومه الخاصّ ، ثمّ انطلق من ذلك لتجسيد فكرته ومحاولة إقناع الآخرين بهما باعتبارهما مفسّرين لما يدّعيه في غسل الأرجل وتثليث الغسلات.
إحسان الوضوء :
حدّثنا زهير بن حرب ، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدّثنا أبي عن صالح : قال ابن شهاب : ... ولكن عروة يحدث عن حمران .. أن قال : ... فلمّا توضّأ عثمان ، قال : والله لأحدثنكم حديثاً ، والله لولا آية في كتاب الله ما حدّثتكموه .. إنّي سمعت رسول الله (ص) يقول : « لا يتوضّأ رجل فيحسن وضوءه ، ثمّ يصلّي ، إلّا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها » ..
قال عروة : الآية : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ ... (66) ، إلى قوله : ... اللاعنون.
فهل يحتاج نقل رواية كهذه إلى مثل هذا الأغلاظ في الأيمان « والله لأحدثنكم » ، « والله لولا آية » ... ؟! وقد اتّفق المسلمون على صدورها ، وتناقلتها الصحابة.
علماً بأن « إحسان الوضوء » قد ورد عن أنس ، وعمر بن الخطاب وغيرهما بكثرة ، عن النبي (ص) ..
وهو لا يختلف فيه اثنان .. وقد جاء عن عمر ـ بالخصوص ـ : ... من توضّأ فأحسن الوضوء ... (67)
و : ... ما من أحد يتوضّأ فيحسن الوضوء ، ثمّ يقول ... (68) ، و : ... إنّه (ص) أبصر رجلاً وقد ... (69) الخ ، وإن تحديثه بهذه كان قبل تحديث عثمان !
فإن كان الأمر كذلك .. فما الداعي لتلك الأيمان المغلظة من الخليفة الثالث إذن ؟! وعلام يدلّل إشهاده ونقله ؟!
إسباغ الوضوء :
أمّا فيما يخص « الإسباغ » ، فقد وردت نصوص في صحيح مسلم بأربعة طرق ، وكذا في موطأ مالك ، عن أبي عبد الله سالم ، قال : دخلت على عائشة ـ زوج النبي ـ يوم توفّي سعد بن أبي وقاص .. فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر ، فتوضّأ عندها ، فقالت : يا عبد الرحمن ، أسبغ الوضوء .. فإنّي سمعت رسول الله يقول : « ويل للأعقاب من النار » (70).
فعائشة أرادت أن تستفيد من جملة أسبغ الوضوء ـ في مخاطبتها لأخيها ـ لتدلّل على لزوم الغسل ، وكذا الحال في نقلها لقوله (ص) « ويل للأعقاب » ..
وهنا نتساءل .. إلى أيّ مدى يدلّ هذان على المقصود ؟ ولماذا نراهم يستندون في لزوم الغسل ، وتثليث الغسلات على معان مثل أسبغوا وأحسنوا ، أو ويل للأعقاب ، وتكون غالب أحاديث باب غسل الرجلين في الصحاح والمسانيد وما يستدلّ به فيها هو قوله : « ويل للأعقاب » وليس فيها نقل صفة وضوئه (ص) ؟!
هذا وقد وردت روايات كثيرة في كتب الصحاح عن « إسباغ الوضوء » ، نقلت عن :
علي بن أبي طالب
عمر بن الخطاب
أبي هريرة
أنس بن مالك
ابن عبّاس ..
أبي مالك الأشعري
أبي سعيد
ثوبان
لقيط بن صبرة ... وغيرهم ، لكنّهم لم يشهدوا أحداً على صدور ذلك ، ولم يحتاجوا للقسم والأيمان الغليظة ، كما فعله الخليفة عثمان !
و ... أخيراً
فقد اتّضح لنا ، على ضوء ما تقدّم ، أنّ الخليفة كان يبغي من وراء تأكيده الشديد على جملتي أحسن ، وأسبغ الوضوء تمرير شيء يجول في ذهنه ، محاولاً إيصاله إلى الآخرين .. إذ أن إشهاده الصحابة على الأحاديث المسلمة بين المسلمين لا يحتاج إلى التأكيد عليه بالقسم.
فالتأكيد إذن يستبطن أمراً .. وهو : إنّ الخليفة ـ كما عرفنا ـ قد حاول استغلال مفهوم ثابت عند المسلمين ، فانطلق من خلاله لطرح رؤيته الجديدة .. وهو بذلك يرمي إلى استقطاب الناس ، حيث إن عبارة « أحسن الوضوء » أو « أسبغ الوضوء » تشير ـ من جهة ـ إلى الزيادة في القدسيّة ، والمسح ليس كالغسل في إظهار تلك القدسيّة !
ومن هنا نفهم معنى تأكيد الإمام علي في ردّه للأخذ بالرأي والقياس ، وبيانه الجلي في كون الأحكام الشرعيّة مأخوذة من الكتاب والسنّة النبويّة الشريفة ، فيلزم أن تكون خاضعة للنصّ لا للرأي ، وقد ثبت عنه (ص) أنه قال : « تعمل هذه الأمّة برهة بكتاب الله ، ثمّ تعمل برهة بسنّة رسول الله ، ثمّ تعمل بالرأي .. فإذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا » (71) .. وبهذا فقد عرفنا نهي رسول الله (ص) عن الأخذ بالرأي ، ومرّ عليك بعض ذلك ، وستقف على المزيد منه في العهد الأموي.
وعليه .. فيمكننا تعيين موارد الخلاف فيما بين عثمان ومعارضيه من الصحابة في قضيّة الوضوء بـ :
١ ـ العدد .. حيث أصرّ الخليفة على ثلاث غسلات بدلاً عن اثنتين ، وأشهد الصحابة على ذلك.
٢ ـ جعل الغسل عوضاً عن المسح ، وإشهاد الأصحاب على ذلك ، كما في رواية أبي علقمة.
وعليه ، فإنّا نعتبر إشهاد الخليفة الصحابة على الفعل الثلاثي وغسل الأرجل بأنّها نقطة اختلافه مع الناس إذ نراه يؤكّد على هذين المفهومين ، ومن أجله انتزعنا :
١ ـ مفهوم الوضوء الثلاثي الغسلي ، للإشارة إلى وضوء الخليفة عثمان بن عفان.
٢ ـ ومن مفهوم المخالفة انتزعنا مصطلح الوضوء الثنائي المسحي ، للإشارة إلى وضوء الناس المتحدّثين عن رسول الله ، المخالفين لعثمان.
وبذلك .. فقد خطّ الخليفة أبعاد مدرسة وضوئيّة جديدة في قبال السنّة النبويّة المباركة ، بعد أن جاء بـ « الوضوء الثلاثي الغسلي » بدلاً عن « الوضوء الثنائي المسحي » ! ولنا وقفة أخرى مع أحاديث « أحسنوا الوضوء و « أسبغواالوضوء » في الفصل الثاني من هذه الدراسة « الوضوء في الكتاب واللغة» ، وسنشير إلى السبب الداعي لاتّخاذ الخليفة والحكومة الأمويّة هذا الموقف ، ومدى استفادتهما من هذين المصطلحين وغيرها من الأدلّة التعضيديّة ، ودورهم في إشاعتها لترسيخ وضوء عثمان.
الهوامش
1. وهو من علماء الشيعة الإماميّة.
2. سنن البيهقي 1 : 75 ، كنز العمال 9 : 456 / 26949.
3. كنز العمال 9 : 443 / 26890.
4. انظر : الطبري ، تفسير الآية ، ورسالة الشيخ المفيد والكراجكي في ذلك.
5. الوضوء في الكتاب والسنّة: ص ٤٠ ، عن مسند أحمد ١٠٨ / ١ و ١٥٨.
6. مسند أحمد 1 : 158 ، كنز العمال 9 : 448 / 26908.
7. لا أن يفاجئ حمران بقوله « إنّ ناساً ... » ، أو أن يقترح على ابن دارة « أن يريه وضوء رسول الله » ، أو أن يجلس بباب الدرب والمقاعد ويدعو الصحابة فيتوضّأ أمامهم .. كما كان يفعله عثمان مع المسلمين !!!
8. سورة النجم : الآية 3 ، 4.
9. سورة النساء : الآية ١٠٥.
10. المصنف 1 : 30 / 6 ، سنن أبي داود 1 : 42 / 164 ، وكذا في كنز العمال.
11. تأويل مختلف الحديث 1 : 56.
12. سنن أبي داود 1 : 42 / 164.
13. وسنشير إلى كيفيّة رؤية الخليفة عثمان لصفة وضوء رسول الله في الفصل الأوّل من هذه الدراسة فتابع معنا.
14. كنز العمال 9 : 442 / 26887 عن « البغوي في مسند عثمان ».
15. كنز العمال 9 : 442 / 26885 عن « ع ، وضعف » ، سنن الدارقطني 1 : 92 / 5.
16. كنز العمال 9 : 443 / 26888 « البغوي فيه ، ص ».
17. المقصود في « مسح يديه وذراعيه » و « فمسح بوجهه وذراعيه » كما في النصّ الرابع في كلام الراوي هو : الغسل يقيناً لاجماع المسلمين بذلك ، أمّا المسح في الرأس والرجلين فيبقى على معناه ، أمّا دعوى أن المسح هو الغسل فلا يصحّ إلّا بقرينة ، وسيأتي ردّها تفصيلاً في الفصل الثالث « الوضوء في الميزان » إن شاء الله تعالى.
18. مسند أحمد 1 : 139 ، وفي تفسير ابن كثير 2 : 45 قريب منه ، وفي البخاري : بعضه.
19. سنن البيهقي 1 : 75 ، مسند أحمد 1 : 123.
20. مسند أحمد 1 : 144.
21. مسند أحمد 1 : 153 ، سنن البيهقي 1 : 75.
22. مسند أحمد 1 : 102.
23. معجم مقاييس اللغة 2 : 36.
24. الصحاح 1 : 278.
25. تاج العروس 5 : 206 ، وفيه أيضاً : أحدثه : ابتدأه وابتدعه.
26. العين : 3 : 177.
27. القاموس 1 : 170.
28. التكملة والذيل ، للصاغاني 1 : 357.
29. غريب الحديث لابن الجوزي 1 : 195 ـ 196.
30. النهاية 1 : 351.
31. معاني الأخبار : 1 : 248 ، وعنه في الوسائل 1 : 440 ، أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢٥.
32. الكافي 3 : 27 / 8 ، وعنه في الوسائل 1 : 437 ، أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٨.
33. وستقف على نماذج من ذلك في دراستنا للعهدين الأموي والعباسي.
34. الغارات 1 : 244.
35. الأمالي « مصنفات الشيخ المفيد 13 : 267 ».
36. أمالي الطوسي : ٢٩.
37. مستدرك الوسائل 1 : 306.
38. البحار 77 : 266.
39. البحار 77 : 334.
40. توفّي الشيخ المفيد في سنة ٤١٣ هـ ، والشيخ الطوسي في سنة ٤٦٠ هـ.
41. الفهرست : ص ٣١٣ الفن الخامس ، من المقالة السادسة.
42. رجال الطوسي : 451 / 73.
43. الفهرست ، للشيخ الطوسي : 4 / 7.
44. الجرح والتعديل 2 : 127 / 394.
45. ذكر أخبار أصفهان 1 : 187.
46. الأنساب 1 : 511.
47. ميزان الاعتدال 1 : 62.
48. تفسير الطبري 19 : 75 ، تفسير ابن كثير 3 : 581.
49. آراء علماء المسلمين : ٢٤٦.
50. رجال النجاشي : 6 / 2.
51. المراجعات : ص ٣٠٦ ـ المراجعة ١١٠ ـ القسم الثاني منه.
52. الفهرست للشيخ الطوسي : 88 / 369.
53. الفهرست للشيخ الطوسي : 92 / 381.
54. الفهرست للشيخ الطوسي : 93 / 382.
55. الفهرست للشيخ الطوسي : 62 / 24.
56. الفهرست للشيخ الطوسي : 402 / 96.
57. الفهرست للشيخ الطوسي : 136 / 593.
58. الفهرست للشيخ الطوسي : 124 / 552.
59. راجع ص ٤٦٣ من هذا الكتاب.
60. مسند أحمد 1 : 57.
61. مسند أحمد 1 : 67 ، وهذا يؤكّد بأن إحداث الفعل الثلاثي في غسل الأعضاء كان قبل الإبداع في غسل الرجلين وبمثابة التمهيد لذلك.
62. مسند أحمد 1 : 67 ـ 68.
63. كنز العمال 9 : 439 / 26876.
64. كنز العمال 9 : 447 / 26907.
65. سنن الدارقطني 1 : 185 / 9 ، كنز العمال 9 : 441 / 26883.
66. البقرة : ١٥٩ ، والحديث في صحيح مسلم 1 : 206 / 6.
67. سنن النسائي 1 : 92 ـ 93 ، كنز العمال 9 : 295 / 26074.
68. كنز العمال 9 : 298 / 26088.
69. تفسير القرآن العظيم 2 : 46.
70. صحيح مسلم 1 : 213 / 25 ، الموطأ 1 : 19 / 5.
71. كنز العمال 1 : 180 / 915.
مقتبس من كتاب : [ وضوء النبي (ص) ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 143 ـ 173
التعلیقات