الوضوء في العهد الأموي ـ ٣
السيد علي الشهرستاني
منذ 15 سنةالعهد الأموي « 132 ـ 40 هـ »
وضوء الزيدية
لرب سائل يسأل : كيف يمكن الاطمئنان إلى استنتاجكم ، ونحن نرى الزيديّة يتوضّؤون وفق ما رووه عن الإمام زيد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن رسول الله : وأنّ رسول الله توضّأ وفق ما حكاه عثمان بن عفان ، ولا ينكر أحد كون زيد من العترة ، ومن فقهاء أهل البيت ، ومن معارضي الحكومة الأمويّة ..
فلو صحّ تحليلكم ، وكان وضوء الخليفة عثمان بن عفان عبارة عن تشريع سياسي ، فكيف يتوضّأ الإمام زيد بوضوئهم وهو المعروف بخروجه عليهم بالسيف ؟
وحدة المرويّات عند العلويين
ثبت في التاريخ إنّ بني علي بن أبي طالب ـ الحسنيين منهم والحسينيين سواء ـ كانوا على فقه واحد ، ولم يختلفوا في الأحكام ، ولو راجعنا التاريخ لوقفنا على صحّة المدّعى ، وهناك نصوص كثيرة تؤكّد على أنّ فقه الطالبيين كان غير فقه الحكّام ، هذا وقد أيّد بعض كبار الصحابة مواقف الطالبيين ، لا لأنّها علوية ، بل لما ثبت عندهم بأن ذلك الفعل قد صدر عنه (ص) ، وإليك بعض النصوص :
1 ـ وقت العصر عند الطالبيين :
جاء في مقاتل الطالبيين : بأنّ رجلا عرض على الرشيد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، نصيحة !
فقال لهرثمة : إسمع ما يقول !
قال الرجل : يا أمير المؤمنين ، إنّها في أسرار الخلافة.
فأمره أن لا يبرح ، ثمّ خلى به واستمع إلى خبره ...
قال الرجل : كنت في خان من خانات حلوان ، فإذا بيحيى بن عبد الله بن الحسن ابن علي في دراعة صوف غليظة ، وكساء صوف أحمر غليظ ، ومعه جماعات ينزلون إذا نزل ، ويرتحلون إذا ارتحل ، ويكونون معه ناحية ، فيوهّمون من رآهم إنّهم لا يعرفونه ، وهم أعوانه ! مع كلّ واحد منهم منشور بياض يؤمن به إن عرض له.
قال : أو تعرف يحيى ؟
قال : قديماً ، وذلك الذي حقّق معرفتي بالأمس له.
قال : فصفه لي.
قال : مربوع ، أسمر ، حلو السمرة ، أجلح ، حسن العينين ، عظيم البطن.
قال : هو ذاك ، فما سمعته يقول ؟
قال : ما سمعته يقول شيئاً ، غير أنّي رأيته ورأيت غلاماً له أعرفه ، لما حضر وقت صلاته ، أتاه بثوب غسيل ، فألقاه في عنقه ، ونزع جبته الصوف ليغسلها ، فلمّا كان بعد الزوال ، صلّى صلاة ظننتها العصر ، أطال في الأولتين ، وحذف الأخيرتين.
فقال له الرشيد : لله أبوك ! لجاد ما حفظت ؟ .. تلك صلاة العصر ، وذلك وقتها عند القوم ، أحسن الله جزاءك ، وشكر سعيك ، فما أنت ؟ وما أصلك ؟
فقال : أنا رجل من أبناء هذه الدولة ، وأصلّي مرو ، ومنزلي بمدينة دار السلام ، فأطرق ملياً ، ثمّ قال ... (1) ـ الخبر ـ.
يفهم هذا النصّ أن الخلاف الفقهي بين الخليفة وبني الحسن كان هو المعيار الشاخص في معرفتهم للطالبيين ، وخصوصاً في الظروف السياسيّة والوقائع الاجتماعيّة ، وإنّك ستتعرف لدى حديثنا عن العهد العباسي كيفيّة استخدام الحكام المذهب كوسيلة لعزل أبناء علي بن أبي طالب عن المسلمين ، بل اعتبارهم مارقين وخارجين عن الإسلام ! في حين أنّ الأصول لتؤكّد على أنّهم لا يقولون بشيء إلّا وكانوا قد توارثوه كابر عن كابر ، وأن أغلب حديثهم هو عن رسول الله (ص).
إن إشاعة الخلاف المذهبي بين أوساط الأمّة ، إنّما حركته النوازع والغايات السياسيّة ، وما جاء إلّا لعزل الشيعة عن غيرهم ، فقول الرشيد للرجل : « لله أبوك ! لجاد ما حفظت ؟ تلك صلاة العصر ، وذلك وقتها عند القوم « ليؤكّد تلك الحقيقة.
وبهذا ، فلا يمكن أن يختلف أبناء علي في حكم ضروري يمارسه المسلم عدّة مرّات في اليوم ، ولو تابعنا رأي الإمام زيد في وقت العصر لرأيناه نفس رأي الإمام الصادق وعبد الله بن عبّاس وغيرهم من أهل البيت.
جاء في مسند الإمام زيد ـ باب أوقات الصلاة ـ : حدّثني زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جدّه ـ رضي الله عنهم ـ ، عن علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ : قال رسول الله : « إنّه سيأتي على الناس أئمّة بعدي يميتون للصلاة كميّتة الأبدان ، فإذا أدركتم ذلك فصلّوا الصلاة لوقتها ، ولتكن صلاتكم مع القوم نافلة ، فإن ترك الصلاة عن وقتها كفر » (2).
وفيه كذلك : سمعت الإمام الشهيد أبا الحسين زيد بن علي رضي الله عنه ـ وقد سئل عن قوله تعالى أتمّ الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ... ـ
فقال رضي الله عنه : دلوك الشمس زوالها ، وغسق الليل ثلثه حتّى يذهب البياض من أسفل السماء ، وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.
وقال زيد بن علي رضي الله عنه : « أفضل الأوقات أولها ، وإن أخرت فلا بأس » (3).
فالإمام زيد يريد الإشارة إلى أن أوقات الصلاة ثلاثة كما قال سبحانه في محكم كتابه وكما يعمل به شيعة علي.
أن وقت فضيلة صلاة العصر ، هو بعد الانتهاء من صلاة الظهر ، وهو ما يذهب إليه الإمامان الباقر والصادق.
ويحتمل أن يكون قول الإمام زيد في الخبر الأوّل « فإن ترك الصلاة عن وقتها كفر »
إشارة إلى فعل الأمويين ودورهم في تغيير أوقات الصلاة ولزوم دعوة المؤمنين وإصرارهم لإتيانها في أوقاتها ، لما ورد في فضيلة الصلاة لوقتها ، ودحضا لعمل المحدّثين في الشريعة واستجابة لما أخبر به النبي (ص) : سيكون عليكم أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة حتّى يؤخّروها ، فصلّوها لوقتها (4).
وجاء في الأنساب للبلاذري أن أهل مصر أرسلوا وفداً لعثمان بسبب تلاعب ابن أبي سرح بمواقيت الصلاة.
وفي تاريخ المدينة لابن شبة : فخرج من أهل مصر سبعمائة إلى المدينة فنزلوا المسجد ، وشكوا إلى أصحاب النبي (ص) في مواقيت الصلاة ما صنع ابن سرح بهم (5).
وقد ثبت في التاريخ أن سليمان بن عبد الملك أعاد الصلاة إلى أوقاتها (6).
وفي نقل هذا الخبر عن الخليفة إشارة إلى أن اعتراض المسلمين على الحكّام ـ في مسألة أوقات الصلوات ـ كان جماهيريّاً ، وأن الخليفة قد استجاب لطلبهم حين رأى المصلحة في ذلك.
وقد أخرج البخاري في صحيحه ـ باب تضييع الصلاة عن وقتها ـ حديثين عن أنس ، أحدهما عن غيلان عن أنس قال : ما أعرف شيئاً ممّا كان على عهد النبي !
قيل : الصلاة ؟!
قال : أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها !
والآخر عن عثمان بن أبي رواد قال : سمعت الزهري يقول : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟
فقال : لا أعرف شيئاً ممّا أدركت إلّا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت (7).
هذا وقد روي عن الإمام الصادق قوله :
لكلّ صلاة وقتان ، وأوّل الوقتين أفضلهما ، ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً ، ولكنّه وقت من شغل ، أو نسي ، أو سها ، أو نام ، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلّا من عذر ، أو علّة (8).
وسأل عبيد بن زرارة الصادق عن وقت الظهر والعصر ، فقال : إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً ، إلّا أن هذه قبل هذه ، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس (9).
مؤيّدات
ويؤيّد موقف أهل البيت بعض الصحابة أيضاً ، ومن ذلك :
1 ـ ما أخرجه أحمد في مسنده ، عن ابن عبّاس ، قال : صلّى رسول الله (ص) في المدينة سبعاً وثمانياً (10) .. ـ إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء ، والظهر والعصر ـ.
2 ـ وأخرج مالك في الموطأ ، عن ابن عبّاس ، قال: صلّى رسول الله (ص) الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً ، في غير خوف ولا سفر (11).
3 ـ وأخرج مسلم ـ في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ـ عن ابن عبّاس ، قال : صلّى رسول الله (ص) الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً ، من غير خوف ولا سفر (12).
4 ـ وعنه كذلك : جمع رسول الله بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا سفر..
قال الراوي : قلت لابن عبّاس : لم فعل ذلك رسول الله ؟
قال : كي لا يحرج أمّته (13).
وعن عائشة : كان رسول الله يصلّي العصر والشمس لم تخرج من حجرتها.
وفي آخر : إنّ رسول الله صلّى العصر والشمس في حجرتها ، لم يظهر الفيء من حجرتها.
وفي ثالث : كان النبي يصلّي صلاة العصر والشمس طالعة في حجرتي لم يظهر الفيء بعد (14).
وروى مثل ذلك عبيد بن زرارة ، أنّه قال للصادق : يكون أصحابنا مجتمعين في منزل الرجل منّا ، فيقوم بعضنا يصلّي الظهر ، وبعضنا يصلّي العصر وذلك كلّه في وقت الظهر ؟
قال : « لا بأس ، الأمر واسع بحمد الله ونعمته » (15).
5 ـ وأخرج البخاري ـ في باب وقت العصر ـ ، قال : سمعت أبا أمامة يقول :
صلّينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ، ثمّ خرجنا حتّى دخلنا على أنس بن مالك ، فوجدناه يصلّي العصر فقلت : يا عمّ ! ما هذه الصلاة التي صلّيت ؟
قال : العصر ، وهذه صلاة رسول الله التي كنّا نصلّي معه (16).
وفي آخر عنه : كنّا نصلّي العصر ثمّ يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فنجدهم يصلّون العصر.
وقوله في آخر : كنّا نصلّي العصر ثمّ يذهب الذاهب منّا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة.
وبسند آخر : يذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة ، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه (17)
6 ـ وقد روى مسلم ، في صحيحه ، قال : خطبنا ابن عبّاس يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم ، وجعل الناس يقولون : الصلاة ! الصلاة !
قال : فجاءه رجل من بني تميم ، لا يفتر ولا ينثني : الصلاة ! الصلاة !
فقال له ابن عباس : أتعلمني بالسنّة لا أم لك ! ثمّ قال : رأيت رسول الله جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء.
وفي رواية أخرى ... قال للرجل : لا أم لك ! أتعلمنا بالصلاة ، وكنّا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله (18).
7 ـ وجاء في مقاتل الطالبيين ، عن الحسن بن الحسين ، قال : دخلت أنا والقاسم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين ، نغسل أبا الفوارس عبد الله بن إبراهيم بن الحسين ، وقد صلّينا الظهر ، فقال لي القاسم : هل نصلّي العصر ؟ .. فإنّا نخشى أن نبطئ في غسل الرجل ـ يعني به أبا الفوارس ـ.
فصلّيت معه .. فلمّا فرغنا من غسله ، خرجت أقيس الشمس ، فإذا ذلك أوّل وقت العصر ، فأعدت العصر .. فأتاني آت في النوم ، فقال : أعدت الصلاة وقد صلّيت خلف القاسم ؟!
قلت : صلّيت في غير الوقت !
قال : قلب القاسم أهدى من قلبك (19).
فاتّضح ممّا سبق أن موقف الطالبيين ـ سواء الحسني منهم أو الحسيني ـ وكذا بعض الصحابة كعبد الله بن عبّاس « حبر الأمّة » وأنس بن مالك « خادم الرسول » وعائشة « زوج النبي » وغيرهم ، كان هو الجمع ، أو نراهم يقرّرون الجمع. هذا وإن روايات الجمع بين الصلاتين يوافق ما قيل عن دين الإسلام بأنّه : دين يسر لا عسر ، وليس فيه حرج. ولا أدري بأيّ شرع نراهم يجوزون المسح على الخفين والجورب والعمامة ويأبون مسح الأرجل مع علمهم بأن تلك أجسام خارجيّة والماسح عليها كالماسح على الجدار ، كما أنّهم لم يقولوا بالجمع بين الصلاتين في حين اتّفق جميع المسلمين على جواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، وسمّوه بجمع تقديم ، والجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة ، وسمّوه جمع تأخير. وقد وقفت على مشروعيّتها في مواقف أخرى ، وبذلك لا يصح قول من قال بعدم مشروعيّة الجمع بين الصلاتين مطلقاً ، أو أن الجامع بينهما هو خارج عن الدين !
2 ـ المسح على الخفين :
1 ـ أخرج أبو الفرج الأصفهاني أخبار بعض المندسين في صفوف يحيى بن عبد الله بن الحسن ، فقال : صحبه جماعة من أهل الكوفة ، فيهم ابن الحسن بن صالح بن حي .. كان يذهب مذهب الزيديّة البتريّة في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان في ست سنين من إمارته ، وإلى القول بكفره في باقي عمره ، يشرب النبيذ ، ويمسح على الخفّين .. وكان يخالف يحيى في أمره ، ويفسد أصحابه.
قال يحيى بن عبد الله : فأذن المؤذّن يوماً ، وتشاغلت بطهوري ، وأقيمت الصلاة ، فلم ينتظرني وصلّى بأصحابي فخرجت ، فلمّا رأيته يصلّي ، قمت أصلّي ناحية ، ولم أصلّ معه ، لعلمي أنّه يمسح على الخفين .. فلمّا صلّى ، قال لأصحابه : علام نقتل أنفسنا مع رجل لا يرى الصلاة معنا ، ونحن عنده في حال من لا يرضى مذهبه ؟ (20).
2 ـ وروى زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جدّه الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ ، قال : إنّا ولد فاطمة ـ رضي الله عنها ـ لا نمسح على الخفين ولا العمامة ولا كمه ولا خمار ولا جهاز (21).
وروى قول جدّه علي بن أبي طالب : سبق الكتاب الخفين (22) .. وقد مرّ عليك كلامه في عهد عمر.
3 ـ وروى ابن مصقلة ، عن الإمام الباقر ، أنّه قال : فقلت : ما تقول في المسح على الخفين ؟
فقال : كان عمر يراه ثلاثاً للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم ، وكان أبي لا يراه في سفر ولا حضر .. فلمّا خرجت من عنده ، وقفت على عتبة الباب ، فقال لي :
أقبل .. فأقبلت عليه .. فقال : إن القوم كانوا يقولون برأيهم فيخطؤون ويصيبون ، وكان أبي لا يقول برأيه.
وعن حبابة الوالبية ، عن أمير المؤمنين ، قالت : سمعته يقول : إنّا أهل بيت لا نمسح على الخفين ، فمن كان من شيعتنا فليقتد بنا وليستن بسنّتنا ، فإنّها سنّة رسول الله.
وقال قيس بن الربيع : سألت أبا إسحاق عن المسح على الخفين فقال :
أدركت الناس يمسحون حتّى لقيت رجلاً من بني هاشم ، لم أر مثله قط ، محمّد ابن علي بن الحسين .. فسألته عنها ، فنهاني عنه ، وقال : لم يكن علي أمير المؤمنين يمسح على الخفين ، وكان يقول : سبق الكتاب المسح على الخفين.
قال : فما مسحت منذ نهاني عنه.
4 ـ ومن المؤيّدين لموقف أهل البيت في عدم المسح على الخفين ، كل من :
ابن عبّاس ، وعائشة إذ المنقول عنهما أنّهما قالا : لأن تقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفين. و : لأن أمسح على جلد حمار ، أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفين. وغيرهما ... (23).
أما فيما يخصّ ابن عمر ، فقد قال عطاء : كان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفين ، لكنّه لم يمت حتّى وافقهم (24).
وبهذا تبيّن لنا أنّ فقه بني الحسن والإمام زيد والإمام الباقر ، وحتّى عبد الله ابن عبّاس .. كان واحداً في المسح على الخفّين ، وأنّه لم يكن بينهم أدنى اختلاف ، لكن فقه الحاكمين ينسبون إلى علي وبنيه القول بالمسح على الخفّين ..
وحتّى في جزئيّات مسائله.
هذا وقد جاء في الأنساب للسمعاني أنّ أبا جعفر الموسائي ـ نسبة إلى موسى بن جعفر ـ يقول : إنّا أهل بيت لا تقيّة عندنا في ثلاثة أشياء : كثرة الصلاة ، وزيارة قبور الموتى ، وترك المسح على الخفين (25).
ومثله عن جعفر بن محمّد الصادق ـ كما في التهذيب والاستبصار ـ « لا أتقي من ثلاث ، ... » وعدّ منها المسح على الخفّين.
3 ـ حيّ على خير العمل :
روى أبو الفرج الأصفهاني أن إسحاق بن عيسى بن علي ولي المدينة ، في أيّام موسى الهادي ، فاستخلف عليها رجلاً من ولد عمر بن الخطاب ، يعرف بعبد العزيز بن عبد الله ، فحمل على الطالبيين ، وأساء إليهم ، وأفرط في التحامل عليهم ، وطالبهم بالعرض عليه كلّ يوم وكانوا يعرضون في المقصورة ، وأخذ كلّ واحد بكفالة قريبه ونسيبه فضمن الحسين بن علي ، ويحيى بن عبد الله بن الحسن : الحسن بن محمّد بن عبد الله بن الحسن ... ثم عرضهم يوم الجمعة ..
فدعا باسم الحسن بن محمّد ، فلم يحضر ، فقال ليحيى والحسين بن علي :
لتأتياني به أو لأحبسنكما ، فإن له ثلاثة أيّام لم يحضر العرض ، ولقد خرج وتغيب ، أريد أن تأتياني بالحسن بن محمّد.
فقال له الحسين : لا نقدر عليه ، هو في بعض ما يكون فيه الناس ، فابعث إلى آل عمر بن الخطاب ، فاجمعهم كما جمعتنا ، ثمّ اعرضهم رجلاً رجلاً ، فإن لم تجد فيهم من غاب أكثر من غيبة الحسن عنك ، فقد أنصفتنا.
فحلف العمري بطلاق زوجته وحرمة مماليكه ، ليضربنّ الحسين ألف سوط ، وليركبنّ إلى سويقة فيخربها ، و ...
فوثب يحيى مغضباً ، وأعطاه العهد بأن يأتيه إليه .. فبعث إلى الحسن بن محمّد أن يأتي ، فجاء يحيى ، وسليمان ، وإدريس ـ بنو عبد الله بن الحسن ـ وعبد الله بن الحسن الأفطس ، وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا ، وعمر بن الحسن بن علي بن الحسن بن الحسين بن الحسن ، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي ، وعبد الله بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب .. وأرسلوا إلى فتيان من فتيانهم ومواليهم ، فاجتمعوا .. ستّة وعشرين رجلاً من ولد علي ، وعشرة من الحاج ، ونفر من الموالي.
فلمّا أذّن المؤذّن للصبح .. دخلوا المسجد ، ثمّ نادوا : « أحد ، أحد » ، وصعد عبد الله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبي (ص) ، عند موضع الجنائز ، فقال للمؤذّن : أذّن بـ « حيّ على خير العمل » .. فلمّا نظر إلى السيف في يده أذّن بها. وسمعه العمري ، فأحسّ بالشرّ ، ودهش وولّى هارباً ، فصلّى الحسين بالناس الصبح ، ودعا الشهود العدول الذين كان العمري أشهدهم عليه أن يأتي بالحسن إليه ، ودعى بالحسن ، وقال للشهود : « هذا الحسن قد جئت به ، فهاتوا العمري وإلّا والله خرجت من يميني ، وممّا علي ».
ولم يتخلف عنه أحد من الطالبيين إلّا الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن ، فإنّه استعفاه فلم يكرهه ، وموسى بن جعفر بن محمّد ، فقال له : أنت في سعة (26).
وجاء في مسند الإمام زيد :
حدّثني زيد بن علي رضي الله عنه ، عن أبيه علي بن الحسين رضي الله عنه ، إنّه كان يقول في أذانه : « حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل » (27).
وروى عن الحسين بن علي ـ صاحب فخ ـ أنّه قد أذّن بها (28)
قال القوشجي ، في شرحه للتجريد ـ في مبحث الإمامة ـ : إن عمر قال وهو على المنبر : أيّها الناس ! ثلاث كنّ على عهد رسول الله ، وأنا أنهى عنهنّ ، وأحرمهنّ ، وأعاقب عليهنّ : متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحيّ على خير العمل.
ثمّ اعتذر القوشجي عن الخليفة بقوله : إنّ ذلك ليس ممّا يوجب قدحاً فيه ، فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهاديّة ليس ببدع !
قلت : فإن كان ذلك كذلك فلم يوجب عليه العقوبة إذن ؟ أولم يقل : « وأعاقب عليهنّ » ؟!
وإذا كان الإتيان بها غير جائز ، فلم كان ابن عمر وأمامة بن سهل وغيرهما يقولون في أذانهم « حيّ على خير العمل » ، كما حكاه ابن حزم في المحلى ؟!
وبهذا .. عرفنا كذلك أن الطالبيين جميعاً كانوا يتحينون الفرص المناسبة للدعوة إلى السنّة الشريفة ، وإرجاع الناس إليها .. وإن ابن النباح كان يقول في أذانه :
حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل .. فإذا رآه علي ، قال : « مرحباً بالقائلين عدلا ، وبالصلاة مرحباً وأهلاً » (29).
ويدلّ هذا النصّ ، وغيره ، على أن أتباع السنّة النبويّة كانوا قلّة في عهده ، إذ أن معظمهم قد أخذوا بكلام الخليفة عمر بن الخطاب وسيرته ، واعتادوا على ذلك ، سوى أهل البيت وبعض الصحابة !
4 ـ الصلاة على الميّت :
يختلف بنو علي مع الآخرين في عدد التكبيرات على الميّت ، فهم يؤكّدون على أنّها خمس تكبيرات أمّا عمر ، فقد جمعهم على الأربع ، لما كانوا يختلفون فيه !
فقد جاء في مقاتل الطالبيين :
حدّثني يحيى بن علي ، وغير واحد ، قالوا : حدّثنا عمر بن شبة ، قال : حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن عبد الله بن أبي الكرام الجعفري ، قال :
1 ـ صلّى إبراهيم بن عبد الله بن الحسن على جنازة بالبصرة ، فكبّر عليها أربعاً ..
فقال له عيسى بن زيد : لم نقصت واحدة ، وقد عرفت تكبير أهلك ؟
قال : إن هذا أجمع للناس ، ونحن إلى اجتماعهم محتاجون ، وليس في تكبيرة تركتها ضرر إن شاء الله.
ففارقه عيسى واعتزله ، وبلغ أبا جعفر ـ أيّ المنصور ـ فأرسل إلى عيسى يسأله أن يخذل الزيديّة عن إبراهيم ، فلم يفعل ، ولم يتمّ الأمر حتّى قتل إبراهيم ، فاستخفى عيسى بن يزيد ، فقيل لأبي جعفر : ألا تطلبه ؟
فقال : لا والله ، لا أطلب منهم رجلاً بعد محمّد وإبراهيم ، أنا أجعل لهم بعد هذا ذكراً ؟!
قال أبو الفرج الأصفهاني : وأظنّ هذا وهما من الجعفري الذي حكاه ، لأن عيسى لم يفارق إبراهيم في وقت من الأوقات ، ولا اعتزله ، قد شهد معه باخمرى حتّى قتل إبراهيم ، فتوارى عيسى إلى أن مات (30) ... ثمّ أتى بخبر عدم مفارقة عيسى لإبراهيم في ص 413.
في النص المذكور عدّة أمور ينبغي التدبّر فيها :
1 ـ لم نقصت واحدة ، وقد عرفت تكبيرة أهلك ؟
2 ـ إن هذا أجمع للناس ، ونحن إلى اجتماعهم محتاجون.
3 ـ ليس في تكبيرة تركتها ضرر إن شاء الله ، ففارقه عيسى واعتزله.
4 ـ بلغ أبا جعفر ، فأرسل إلى عيسى يسأله أن يخذل الزيديّة عن إبراهيم ، فلم يفعل ، ولما قتل إبراهيم ، اختفى.
ويؤيّد موقف عيسى الفقهي ما جاء في مسند الإمام زيد :
2 ـ حدّثني زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جدّه علي رضي الله عنهم في الصلاة على الميّت ، قال : تبدأ في التكبيرة الأولى : بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ، وفي الثانية : الصلاة على النبي ، وفي الثالثة : الدعاء لنفسك والمؤمنين والمؤمنات ، وفي الرابعة : الدعاء للميّت ، والاستغفار له ، وفي الخامسة : تكبّر وتسلّم (31).
3 ـ وما أخرجه أحمد في مسنده ، عن عبد الأعلى ، قال : صلّيت خلف زيد ابن أرقم على جنازة ، فكبّر خمسا .. فقام إليه أبو عيسى ـ عبد الرحمن بن أبي ليلى ـ فأخذ بيده فقال : نسيت ؟!
قال : لا ، ولكنّي صلّيت خلف أبي القاسم خليلي (ص) ، فكبّر خمساً ، فلا أتركها أبداً (32).
4 ـ روى البغوي من طريق أيّوب بن النعمان ، عن زيد بن أرقم ، مثله (33).
5 ـ وأخرج الطحاوي بسنده ، عن يحيى بن عبد الله التميمي ، قال : صلّيت مع عيسى ـ مولى حذيفة بن اليمان ـ على جنازة ، فكبّر عليها خمساً .. ثمّ التفت إلينا ، فقال : ما وهمت ، ولا نسيت ، ولكنّي كبرت كما كبر مولاي ، وولي نعمتي ـ يعني حذيفة بن اليمان ـ صلّى على جنازة ، فكبّر عليها خمساً ، ثمّ التفت إلينا ، فقال : ما وهمت ، ولا نسيت ، ولكنّي كبّرت كما كبّر رسول الله (34).
وبعد هذا فقد وقفت على بعض الأخبار عن ولد علي وأنّهم كانوا لا يكبرون على الميّت إلّا خمساً ! وقد جاء في مقاتل الطالبيين : إنّ الحسن بن علي صلّى على الإمام علي وكبّر خمس تكبيرات (35).
إن الدس ، ووضع الأحاديث المعارضة المختلقة هي من صنيعة الأمويين ، لكي يتمكّنوا من تضعيف روايات السنّة أمام السواد الأعظم من هذه الأمّة الممتحنة !
إنّ مواقف أهل البيت المسطرة على صفحات التاريخ لتدلّل ، بكلّ وضوح ، على أن أصولهم واحدة واتّجاههم واحد ، وأنّهم ما حادوا يوماً عن منهج علي بن أبي طالب الذي هو التجسيد الحقيقي لما أراده رسول الله (ص) وبينه فعلاً وقولاً وتقريراً.
وأن ظاهرة التشكيك في فقه العلويين ، ونقل المتناقضات عنهم ، ما هي إلّا خطّة حكوميّة قد وضعت لبنة أساسها الحكومة الأمويّة ، وسارت على منوالها الحكومة العباسيّة ، كما سنبيّن فيما بعد.
نعم ، لقد كان الطالبيّون أصحاب دين واحد ولهم عدوّ مشترك متمثل بالحكّام .. وتتجلّى هذه الحقيقة في كلام عبد الله بن الحسن لبني هاشم .. حيث يقول :
إنّكم أهل البيت ، قد فضلكم الله بالرسالة ، واختاركم لها. وأكثركم بركة يا ذريّة محمّد (ص) بنو عمّه وعترته. وأولى الناس بالفزع في أمر الله ، من وضعه الله موضعكم من نبيّه (ص) ، وقد ترون كتاب الله معطلاً ، وسنّة نبيّه متروكة ، والباطل حيّاً ، والحقّ ميّتاً ، قاتلوا لله في الطلب لرضاه بما هو أهله ، قبل أن ينزع منكم اسمكم ، وتهونوا عليه كما هانت بنو إسرائيل (36).
وهذا الموقف يشابه ما ذكرناه من موقف علي بن الحسين وكلامه فيما آلت إليه الشريعة في العهد الأموي. ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى موقف يحيى بن عبد الله ابن الحسن في رده على الخليفة العباسي الرشيد ، حينما أراد أن يفتخر بقرابته من النبي (ص) يشابه إلى حدّ كبير جواب موسى بن جعفر المشهور.
فانظر إلى محاورة يحيى مع الرشيد :
قال يحيى : يا أمير المؤمنين ، لو عاش رسول الله (ص) ، وخطب ابنتك ، أكنت تزوّجه ؟
قال : إي والله !
قال يحيى : فلو عاش فخطب إليّ ، أكان لي أن أزوّجه ؟
قال : لا ، وهذا جواب ما سألت.
فغضب الرشيد ، وقام من مجلسه (37).
استنتاج
استبان من هذا كلّه أن فقه الإمام زيد لا يبتعد عن فقه عبد الله بن الحسن ومحمّد الباقر وجعفر الصادق ، بل كلّهم سليل بيت النبوّة ، وأبناء علي والزهراء ، وأن الارتباط والائتلاف الديني ملحوظ بينهم ، وقد وقفت على بعض النصوص الدالّة على ذلك.
فلو كان مذهب زيد غير مذهب الباقر والصادق ، لما ترحموا عليه ، ولما كان يذكر بتلك الجلالة في كتب الرجال عند الشيعة ، ولما قالوا عنه بأنّه يعرف ناسخ القرآن من منسوخه ، وأنّه سيّد أهله ، و ...
وكذا الحال بالنسبة إلى بني الحسن ، فقد دعا الصادق لهم :
جاء في مقاتل الطالبيين ، عن أبي غسان ، قال : إنّي لواقف بين القبر والمنبر إذ رأيت بني الحسن يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر ، يراد بهم الربذة ، فأرسل إليّ جعفر بن محمد ، فقال : « ما وراءك ؟ »
قلت : رأيت بني الحسن يخرج بهم في محامل !
فقال : ـ أجلس. فجلست ... فقال : فدعا غلاماً له ، ثمّ دعا ربّه كثيراً ، ثم قال لغلامه : ـ اذهب ، فإذا حملوا فأت فأخبرني.
قال : فأتاه الرسول ، فقال : قد أقبل بهم.
فقام جعفر ، فوقف وراء ستر شعر أبيض من ورائه ، فطلع بعبد الله بن الحسن ، وإبراهيم بن الحسن ، وجميع أهلهم ، كلّ واحد منهم معادله مسود ..
فلمّا نظر إليهم جعفر بن محمّد ، هملت عيناه حتّى جرت دموعه على لحيته ، ثمّ أقبل علي ، فقال : « يا أبا عبد الله ، والله ما وفت الأنصار ، ولا أبناء الأنصار لرسول الله (ص) بما أعطوه من البيعة على العقبة » !... ثمّ روى الصادق عن جدّه علي ، عن رسول الله ، أنه قال له : « خذ عليهم البيعة بالعقبة ».
فقال : كيف آخذ عليهم ؟
قال : « خذ عليهم يبايعون الله ورسوله » .. وفي آخر : « على أن تمنعوا رسول الله وذريّته ممّا تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ».
ثمّ قال جعفر : « فوالله ما وفوا له حتّى خرج من بين أظهرهم ، ثمّ لا أحد يمنع يد لامس ، اللهم فاشدد وطأتك على الأنصار » (38).
مبررات الخلاف
وعليه .. فلو كان ثمة اختلاف بينهم ، لحمل على ثلاثة عوامل :
1 ـ سيطرة الروح الثوريّة على بني الحسن والزيديّة.
2 ـ محاولة الحكّام إشاعة الفرقة بين صفوف الطالبيين.
3 ـ نجاح الفقهاء الآخرين في احتواء الزيديّة.
أمّا العامل الأوّل :
فهو سيطرة الروح الثوريّة على بني الحسن وجماعة زيد ، واستغلال الحكّام والمندسّين هذه الروح لتشكيكهم في أقوال الصادق وحمل وتفسير كلمات الإمام محمّد الباقر وجعفر بن محمّد الصادق لبني الحسن على أنّها كانت بدافع الحسد والتنافس أو الخوف من القتال ، وما شابه ذلك !
لكن المدقّق في أقوال الباقر والصادق لا يستشم فيها شيئاً من هذا ، فأقوالهما لا تشير إلى تخطئتهم لقيام محمّد النفس الزكيّة أو ثورة زيد بن علي أو ... بقدر ما هي ايضاح وكشف أن جهودهم لن تثمر الثمرة المرجوة ، لأن الظروف التي كانت سائدة ، لا هي ظروف ثورة ولا الزمان زمان ثورة ، وهذا ما عرفوه ببصائرهم ، وما ورثوه عن آبائهم في تحليلهم ومعرفتهم للوقائع والإحداث.
جاء في مقاتل الطالبيين ، عن ابن داحة :
إن جعفر بن محمّد قال لعبد الله بن الحسن : « إن هذا الأمر ، والله ليس إليك ، ولا إلى ابنيك ، وإنما هو لهذا ـ يعني السفاح ـ ثمّ هذا ـ يعني المنصور ـ ثمّ لولده من بعده ، لا يزال فيهم حتّى يؤمروا الصبيان ، ويشاوروا النساء » ..
فقال عبد الله : والله يا جعفر ، ما أطلعك الله على غيبه ، وما قلت هذا إلّا حسداً لابني !
فقال : « لا والله ! ما حسدت ابنك ، وإن هذا ـ يعني أبا جعفر المنصور ـ يقتله على أحجار الزيت ، ثمّ يقتل أخاه بعده بالطفوف ، وقوائم فرسه في الماء ».
ثمّ قام مغضباً يجرّ رداءه .. فتبعه أبو جعفر المنصور ، فقال : أتدري ما قلت يا أبا عبد الله ؟!
قال : « إي والله أدريه ، وإنّه لكائن » (39).
ثمّ قال الراوي : فلمّا ولي أبو جعفر الخلافة ، سمّى جعفراً الصادق ، وكان إذا ذكره قال : قال لي الصادق جعفر بن محمّد كذا وكذا ، فبقيت عليه (40).
وقد روى السيّد رضي الدين علي بن طاووس بسنده إلى الصادق : إنّه كتب إلى عبد الله بن الحسن ، حين حمل هو وأهل بيته ، يعزيه عمّا صار إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الخلف الصالح والذريّة الطيّبة من ولد أخيه وابن عمّه.
أمّا بعد : فلأن كنت تفردت أنت وأهل بيتك ممّن حمل معك بما أصابكم ، ما انفردت بالحزن والغيظ والكآبة ، وأليم وجع القلب دوني ، فلقد نالني ذلك من الجزع والقلق ، وحرّ المصيبة مثل ما نالك (41) ... ـ الخبر ـ.
وبهذا يفهم أن الاختلاف بين عبد الله بن الحسن ، وجعفر بن محمّد ، لم يكن مذهبيّاً ، بل إنّه ناشئ عن سوء فهم بني الحسن والزيديّة مواقف الصادق ، إذ أن في كلمة الصادق : « إلى الخلف الصالح » إشارة إلى كونه لم يحد عن الجادة ، وكذا الأمر بالنسبة إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين ، فقد جاء في تاريخ الشام ، عن عمرو بن القاسم : إن جعفر بن محمّد ذكر عمّه زيداً فترحّم عليه وقال : « كان والله سيّداً ، والله ما ترك فينا لدنيانا ولآخرتنا مثله ».
وجاء في « الخطط المقريزية » ، عن جعفر بن محمّد ، أنّه قال لجماعة تبرأوا من بيعة زيد بن علي : « برئ الله ممّن تبرأ من عمّي زيد ».
وذكر ابن حجر في ترجمة حكيم بن عياش ، في الإصابة :
جاء رجل إلى جعفر بن محمّد الصادق ، فقال له : سمعت حكيم بن عياش ينشد هجاءكم بالكوفة.
فقال : « هل علقت منه بشيء ؟ »
فقال : سمعته يقول :
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة |
ولم نر مهديا على الجذع يصلب |
|
وقستم بعثمان عليّاً سفاهة |
وعثمان خير من علي وأطيب |
فرفع يديه وهما ترعشان ، وقال : « اللهم إن كان عبدك كاذباً فسلّط عليه كلبك » .. فبعثه بنو أميّة إلى الكوفة ، فبينا هو يدور في سككها ، إذ افترسه الأسد ، واتّصل خبره بجعفر ، فخرّ ساجداً ثم قال : « الحمد لله الذي أنجزنا وعده » (42).
وقد روي عنه أنه قال : « لعن الله قاتله وخاذله ، وإلى الله أشكو ما نزل بأهل بيت نبيّه بعد موته ، ونستعين بالله على عدوّنا وهو المستعان ».
وجاء في عيون الأخبار : لما خرج زيد بن موسى بن جعفر على المأمون ، وظفر المأمون به ، عفاه لمكان الرضا منه ، فقال للرضا : يا أبا الحسن ، لئن خرج أخوك ، وفعل ما فعل ، فلقد خرج قبله زيد بن علي ، فقتل ، ولولا مكانك منّي لقتلته.
فقال الرضا : « يا أمير المؤمنين ، لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي ، فإنّه من علماء آل محمّد ، غضب لله فجاهد أعداءه حتّى قتل في سبيله ، ولقد حدّثني أبي أنه سمع أباه جعفراً يقول : رحم الله عمّي زيداً ، إنّه دعا إلى الرضا من آل محمّد ، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه ، وقد استشارني في خروجه ، فقلت له : يا عمّ إن رضيت أن تكون المقتول بالكناسة فشأنك » (43).
ففي قول الصادق إشارة إلى إخبار الرسول وإخبار علي بن أبي طالب والحسين بن علي ، وغيرهم : « بأن رجلا من ولده يصلب بالكناسة » (44).
وحدة المواقف الدينيّة
اتّضح ممّا مضى إن مذهب الإمام زيد لا يخالف مذهب الباقر والصادق ، وكذا الحال بالنسبة إلى بني الحسن ، وإن اختلفوا في بعض المواقف السياسيّة ، إذ كيف يمكن تصوّر مخالفة زيد لأخيه الأكبر محمّد الباقر ، وكلاهما ابنا علي بن الحسين بن علي ، والجميع يشهد بفضلهما وجلالة قدرهما ومكانهما من الفقه والشريعة ؟!.
فقد روي عن الإمام زيد أنّه قال : « من أراد الجهاد فإليّ ، ومن أراد العلم فإلى ابن أخي ».
كما قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق : « القائم إمام السيف ، والقاعد إمام علم » (45).
وهذا ما يبيّن أن أهل البيت كانوا يواجهون الحكّام على الصعيدين العلمي والسياسي. ومن المعلوم أن الاختلاف في المنهجية والأسلوب ، لا يعني الاختلاف في العقيدة وأصول التشريع ، وكان أهل البيت من المعتقدين بضرورة الحفاظ على كلا الأسلوبين في مجال تبيين الأحكام والسياسة ، من أجل استمرار المواجهة على مرّ الأيّام.
وصحيح أن القيام والقعود خطّان متوازيان ، لكنّهما يصبان في هدف واحد مشترك ، وهو دوام نهج السنّة النبويّة الشريفة ، ولهذا السبب نرى في تاريخ الشيعة تيارين حاكمين عبر جميع فترات تاريخهم ، التيار الثوري الرافض ، والتيار المنتظر المحافظ ، ومن التيارين السالب والموجب ـ كما يقول علماء الفيزياء ـ يحدث النور ، وهكذا الأمر بالنسبة للحركة ، فهي لا تنتج إلّا بتقديم رجل وتأخير أخرى وكلاهما ضروري للتقدّم والسير. فصدور بعض النصوص عن الصادق في زيد أو غيره ، لا يعني التشكيك في قيامه ، بل يرجح أن يكون صدور تلك الأخبار عنه عبارة عن موقف تكتيكي اقتضته الظروف السياسية الخاصّة آنذاك. ولأجل ذلك قال الرسول عن الحسن والحسين أنّهما إمامان قاما أو قعدا !
وعليه ، فوحدة الفكر والمذهب والمنحى السياسي بين بني الحسن والزيديّة والجعفريّة لا انفصام لها ، إذ لو لم تكن كذلك ، لما رأينا يحيى بن عبد الله بن الحسن يخاطب جعفر بن محمّد الصادق بـ « حبيبي ».
فقد جاء في مقاتل الطالبيين :
كان يحيى يسمّيه ـ أي الصادق ـ حبيبي، وكان إذا حدث عنه قال : « حدثني حبيبي جعفر بن محمّد » (46).
وكان الصادق قد أوصى إليه ، كما أوصى إلى ابنه موسى وأمّ ولد كانت عنده بأمور (47).
ألا ترى أن هذه الكلمات تدلّ على وحدة الهدف وتقارب الفكر والاستدلال ؟
وإذا لم يكونا متّحدين ، فكيف يولي أبو السرايا : إبراهيم بن موسى بن جعفر اليمن ، وزيد بن موسى بن جعفر الأهواز (48) ؟
وكيف يقف علي بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين أمام الجعفري صاحب البصرة أيّام المنصور (49) ؟
وإذا لم يكونا على تفاهم في الأمر ، فبم نفسّر هذا الخبر :
حدّثنا إبراهيم بن إسحاق القطان ، قال : سمعت الحسين بن علي ـ صاحب فخ ـ ، ويحيى بن عبد الله ، يقولان : « ما خرجنا حتّى شاورنا أهل بيتنا ، وشاورنا موسى بن جعفر ، فأمرنا بالخروج » (50).
ولما جاء الجند برؤوس شهداء فخّ إلى موسى والعبّاس ، وعندهم جماعة من ولد الحسن والحسين ، يتكلّم أحد منهم بشيء إلّا موسى بن جعفر ، فقال له :
هذا رأس الحسين ؟
فقال : « نعم ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، مضى والله مسلماً ، صالحاً ، صواماً ، قواماً ، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله » فلم يجيبوه (51).
فإذا كانوا على اختلاف في الفقه ، فهل يمكن صدور مثل هذا النصّ من قبل موسى بن جعفر ؟ وهل يمكن أن يقول يحيى بن عبد الله بن الحسن للصادق :
« حبيبي » ؟
وكذا الحال بالنسبة للحسين بن علي ويحيى في قولهما : « ما خرجنا حتّى شاورنا أهل بيتنا ، وشاورنا موسى بن جعفر ، فأمرنا بالخروج » ؟
وعلى ضوء ذلك ، فما الفاصل بين وضوء بني الحسن والزيديّة إذن ؟ فهل كانا يمثلان خطّين متضادين ، أم هما على وفاق فيه ؟
وهل إن وضوء علي بن الحسين وزيد بن علي وعبد الله بن الحسن كان موافقاً لوضوء عثمان بن عفان وعمرو بن العاص والربيع بنت معوذ ، أم أنّهم يعتقدون بما حكاه علي بن أبي طالب وأوس بن أبي أوس وعبد الله بن عبّاس ؟
إن المتتبع لموضوع الوضوء في كتب الحديث والرجال ليقف على حقيقة قد تكون جليّة ، خلاصتها : أنّ بني هاشم لم يكونوا يمسحون على الخفين ، ولا يغسلون الرجلين ، بل يدعون إلى مسح الأرجل ، وكانت لهم مواقف اعتراضيّة على من نسب الغسل إلى رسول الله (ص) :
أ ـ اعتراض ابن عبّاس على الربيع بنت معوذ.
ب ـ كلام علي بن أبي طالب في الرحبة : « هذا وضوء من لم يحدث ».
ج ـ وقوله : « لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أولى بالمسح من ظاهره ، إلّا أنّي رأيت رسول الله توضّأ هكذا ».
د ـ ما سيأتي في العهد العبّاسي من هذه الدراسة من أقوال الصادقين من آل رسول الله ، وأنّهم اعتبروا الغسل الثالث للأعضاء وغسل الرجلين بدعة وليس من فعل رسول الله ، واعترضوا على من يذهب إلى ذلك الرأي.
فظاهرة الغسل ـ كما عرفت ـ حكوميّة ، ولم تكسب شرعيّتها من القرآن (52) ، لاعتراض ابن عبّاس على الربيع ، وقوله : « أبى الناس إلّا الغسل ، ولا أجد في كتاب الله إلّا المسح » ، وقول أنس بن مالك والشعبي وعكرمة : « نزل القرآن بالمسح » .. وما إلى ذلك من النصوص التي سلف ذكرها.
أمّا الآن ، فمع نصّ آخر نستشف منه :
موقف علي بن الحسين في الوضوء :
أخرج البيهقي في السنن الكبرى ، عن سفيان بن عيينة ، قال : حدّثنا عبد الله ابن محمّد بن عقيل : إن علي بن الحسين أرسله إلى الربيع بنت معوذ ليسألها عن وضوء رسول الله (ص) ، فذكر الحديث في صفة وضوء النبي (ص) ، وفيه قالت :
« ... ثمّ غسل رجليه... » ..
قالت : « وقد أتاني ابن عمّ لك ـ تعني ابن عبّاس ـ فأخبرته ، فقال : ما أجد في كتاب الله إلّا غسلتين ومسحتين » (53).
في النصّ المذكور إشارات عديدة يهمّنا منه بعض أمور :
1 ـ صدور هذا النصّ في العهد الأموي ، إذ أن عبد الله بن محمّد بن عقيل قد توفّى سنة 145 ، وعلي بن الحسين سنة 92 ، وبه يكون عبد الله بن محمّد قد ولد في العهد الأموي.
2 ـ كون عبد الله بن محمّد بن عقيل أصغر سنّاً ، وموقعاً اجتماعيّاً من علي ابن الحسين ، لفارق الوفاة إذ عد أصحاب الطبقات ابن عقيل من الطبقة الرابعة من التابعين وابن الحسين من الثانية.
3 ـ لا يعني إرسال علي بن الحسين ابن عمّه عبد الله بن محمّد بن عقيل إلى الربيع لأجل الوقوف على حكم الوضوء ، إذ لا يعقل أن لا يعرف علي بن الحسين أو عبد الله ـ وهما ابنا رسول الله ، وعاشا في بيت النبوّة - حكم أمر عبادي ، يمارسه المسلم عدّة مرّات في اليوم ، ثمّ كيف يعقل أن يكون علي بن الحسين وهو بهذا العمر لا يعرف الوضوء ، وأبوه الحسين بن علي ، وعمّاه الحسن وابن الحنفيّة ، أضف إلى ذلك كونه أحد أئمّة المسلمين وفقهاء أهل البيت ؟!
فهل يمكن قبول كون الأمر تعليميّاً ، وراوي الخبر السابق سفيان بن عيينة يقول عنه : « ما كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين ، وما رأيت أحداً أفقه منه » (54) ؟!
وحدث عبد الله محمّد القرشي ، قال : كان علي بن الحسين إذا توضّأ اصفرّ لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يغشاك ؟
فيقول : « أتدرون لمن أتأهب للقيام بين يديه ؟ » (55).
فمن هذه حاله ، هل يصدق أن لا يعرف حكم الوضوء ، فيرسل عبد الله بن محمّد بن عقيل إلى الربيع ليسألها عن وضوء رسول الله ، ليأخذ منها ؟!
ومن هو عبد الله بن محمّد بن عقيل ؟ ألم يكن ابن زينب الصغرى ـ بنت علي بن أبي طالب ـ وخاله ابن الحنفيّة و ... وهل يصدق أن لا يعرف ـ مثل هذا ـ حكم الوضوء ؟
فما الغاية من الإرسال والسؤال إذن ، إن صحّت الرواية ؟
من الجلي أن إرسال علي بن الحسين ابن عمّه عبد الله بن محمّد بن عقيل إلى الربيع وسؤالها عن الوضوء لم يكن استفهاميّاً تعليميّاً كما صوره البعض ، بل هو استفهام إنكاري منهم على ما تدعيه ، ومعناه : كيف بنا ـ ونحن أهل البيت ـ لا نعرف ما تروينه عن رسول الله (ص) !
ويتأكّد هذا المدّعى بقولها له : « وقد أتاني ابن عمّ لك » ، وعدم بيانها لصفة وضوء رسول الله ، إذ أن موقف ابن عبّاس كان اعتراضيّاً ، وكذا الحال بالنسبة إلى موقف عبد الله.
هذا ، وإن عدم مجيء علي بن الحسين إليها ينبئ بأنّه لا يريد أن يعطي لوضوئها المشروعيّة بمجيئه إليها ، وأن إرسال عبد الله ، وهو يومئذ صغير السن ، يكفي في التدليل على اعتراضهم على هذا الأمر.
وقد أراد البعض ـ بنقلهم رواية عن عبد الله بن محمّد بن عقيل ، عن الربيع ، بأنّه (ص) : « مسح رأسه ، ومسح ما أقبل منه وما أدبر ، وصدغيه وأذنيه مرّة واحدة » (56) ـ إثبات كون عبد الله من القائلين بالمسح الشمولي في الرأس ، كما يقول بذلك الإمام مالك !
إن قول الربيع : « وقد أتاني ابن عمّ لك ... » ليشير بكلّ وضوح إلى معرفتها وتوجّهها لمغزى سؤال ابن عقيل وكونه استنكاريّاً وليس حقيقيّاً ، وهي بذلك أرادت أن تفهمه بأنّها ثابتة على رأيها على الرغم من عدم استساغة العلويين لما قالته ، هذا أوّلا.
وثانياً : في سنده هذه الرواية ، رجال أمويّون غير معتمدين في السند كمحمّد ابن عجلان القرشي ـ مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة ـ الذي أغرق الرجاليّون في « مدحه ! » حتّى نقل عن ابنه عبد الله أنّه قال : « حمل بأبي أكثر من ثلاث سنين » (57) !
ثالثاً : المنقول في حديث عبد الله بن محمّد بن عقيل عن الربيع في حكم الرأس لا يرد في الوضوءات البيانيّة الأخرى المحكيّة عن عثمان وغيره ، إلّا في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني وما حكى عن معاوية.
وعليه ، فلا يمكن القول بأن ذلك سنّة متبعة كان رسول الله (ص) يفعلها على نحو التشريع ، مضافاً إلى أن المروي عن جابر ـ بطريق عبد الله بن محمّد بن عقيل ـ عن رسول الله أنّه قال : إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه (58) ، أو قوله :
رأيت رسول الله يدير الماء على المرافق ... ممّا يؤكّد حقيقة أخرى تخالف ما نسب إليه ، وسنشير إليها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
ولأجل مواقف ابن عقيل نرى ابن سعد يذكر عبد الله بن محمّد بن عقيل في الطبقة الرابعة ويقول عنه : « منكر الحديث ، لا يحتجون بحديثه ، وكان كثير العلم » (59).
وقال الحسن بن علي الحلواني عن علي بن المدائني ، عن بشر بن عمر الزهراني : « كان مالك لا يروي عنه » (60).
وقال يعقوب بن شيبة ، عن علي بن المدائني : « لم يدخل مالك في كتبه ابن عقيل ولا ابن فروة » (61).
لماذا ؟ العدم صدقه ، أم لمواقف الإمام مالك من العباسيين وعدم ارتضائهم للطالبيين ؟ أم لشيء آخر.
ولماذا يترك ابن سعد حديثه مع شهادته بكثرة علمه ؟!
وهل إن عدم رواية مالك حديثاً عنه دليل على ضعفه حقّاً ؟ فلو كان كذلك فالإمام علي بن أبي طالب هو أوّل الضعفاء في منطق المدائني ومالك ومن يقول بهذا، إذ ليس لعلي حديث في الموطأ ، قيل إنّه لما سئل عن ذلك قال : إنّه لم يكن بالمدينة (62) !!
وكيف نرى الإمام مالكاً يستجيب للمنصور في كتابة الموطأ ، مع علمه بوجود من هو أعلم منه (63) ؟!
وما يعني كلام المنصور له : هل أخذت بأحاديث ابن عمر ؟
فقال : نعم.
فقال المنصور : خذ بقوله ، وإن خالف عليّاً وابن عبّاس (64) !
هل هناك منهجان في التحديث عن رسول الله ، يتزعم أحدهما ابن عمر وهوى الحكّام ، والآخر علي وابن عبّاس ؟ وما دلالة مثل هكذا نصوص ؟ وهل تراه يضعف ابن عقيل حقّاً ؟
فإن كان ضعيفاً وكذاباً عند الإمام مالك ، فكيف تأخذ المالكيّة إذن بحديثه في مسح جميع الرأس ؟!
عود على بدء
نرجع إلى صلب الموضوع للتأكيد على وحدة الطالبيين فكريّاً وفقهيّاً وسياسيّاً ، بعدما عرفت اتّجاه علي بن الحسين وابن عقيل وابن عبّاس وعلي بن أبي طالب في الوضوء ، ومن خلاله يمكننا معرفة وضوء الإمام زيد بن علي بن الحسين ، وأنّه لم يكن موافقاً للربيع وقد سردنا مواقف غيرهم من بني هاشم كابن عبّاس ، أخذاً عن آبائهم.
قال الشيخ أبو زهرة في كتابه « تاريخ المذاهب الإسلاميّة » عن الإمام زيد :
« .... قد مات أبوه عام 94 هـ ، أيّ وهو في الرابعة عشرة من عمره ، فتلقّى الرواية عن أخيه محمّد الباقر ، الذي يكبره بسن يسمح بأن يكون له أباً ، إذ أن الإمام جعفر بن محمّد الباقر كان في سن الإمام زيد رضي الله عنهم أجمعين.
وما كان من المعقول أن يجمع الإمام زيد وهو في سن الرابعة عشرة كلّ علم أهل البيت ، فلا بد أن يكمل أشطره من أخيه ، الذي تلقّى علم أبيه كاملاً. وقد كان الباقر إماماً في الفضل والعلم ، أخذ عنه كثيرون من العلماء ، ورووا عنه ، ومن هؤلاء أبو حنيفة شيخ فقهاء العراق. وقد نال الباقر فضل الإمامة العلميّة حتّى أنّه كان يحاسب العلماء على أقوالهم وما فيها من خطأ وصواب ... (65) »
والآن نتساءل :
كيف جاء هذا النقل عن الإمام زيد إذن ؟ وهل حقّاً إنّه حدث أصحابه عن أبيه عن جدّه بذلك ؟ أم إن الأخبار تظافرت عنه دون معرفة ملابسات الحكم الشرعي ؟! وإنّا بطرحنا العاملين الثاني والثالث ـ من أسباب اختلاف الطالبيين ـ سيتّضح إن شاء الله جواب هذا السؤال وغيره.
وأمّا العامل الثاني (66) :
فهو محاولة الحكّام إشاعة حالة الفرقة والخلاف بين الطالبيين ، لتضعيفهم ثمّ احتوائهم فكريّاً وسياسيّاً.
فقد مرّ عليك خبر ابن الحسن بن صالح بن حيّ مع يحيى بن عبد الله بن الحسن في « المسح على الخف » ، وكيف كان يخالف يحيى في أمره ، ويفسد أصحابه عليه ، وقول يحيى بن عبد الله : « فأذن المؤذّن يوماً ، وتشاغلت بطهوري وأقيمت الصلاة، فلم ينتظرني ، وصلّى بأصحابي .. فخرجت ، فلمّا رأيته يصلّي قمت أصلّي ناحية ، ولم أصلّ معه لعلمي أنّه يمسح على الخفين ».
ففي الجملة الأخيرة إشارة إلى أن يحيى بن عبد الله وغيره من أهل البيت كانوا لا يرون مشروعيّة الصلاة خلف الذي يمسح على الخفّين ، وكذا لا يرون الاقتصار على التكبيرة الرابعة في صلاة الميّت. وإذا ظهر منهم ما يخالف مذهبهم فإنما جاء امتثالاً لأمر الرسول (ص) بلزوم الحفاظ على وحدة الصفّ الإسلامي وعدم الانشغال بجزئيّات الشريعة ، ولا يدلّ موقفهم ذلك على كون هذا الفعل المأتي به هو سنّة رسول الله !
نعم ، إن أبا الحسن بن صالح بن حيّ كان يريد بث الفرقة في صفوف أصحاب يحيى وإثارة المشاعر بقوله : « علام نقتل أنفسنا مع رجل لا يرى الصلاة معنا ، ونحن عنده في حال من لا يرتضى مذهبه ؟ » فالإمام يحيى لا يرتضي الصلاة خلفه لعدم رعايته لحقوق الإمرة والأخوة وسعيه في بثّ الفرقة بين المجاهدين.
وقد استغلّ أبو الحسن بن صالح الخلاف المذهبي في إثارة هذه النعرة بين صفوف الثوّار ، وهو ما كان يسعى إليه الحكّام ويبذلون من أجله الأموال.
وحكى يحيى بن عبد الله نصّاً آخر عن دور ابن حيّ التخريبي في صفوف الثوّار ، فقد جاء في مقاتل الطالبيين :
« ... وأهديت إليّ شهدة في يوم من الأيّام ، وعندي قوم من أصحابي فدعوتهم إلى أكلها ، فدخل ـ ابن حي ـ في إثر ذلك ، فقال : هذه الأثرة ! أتأكله أنت وبعض أصحابك دون بعض ؟!
فقلت له : هذه هدية أهديت إليّ وليست من الفيء الذي لا يجوز هذا فيه.
فقال : لا ، ولكنّك لو ولّيت هذا الأمر لاستأثرت ولم تعدل.
وأفعال مثل هذا من الاعتراض (67) ».
وجاء في مقاتل الطالبيين كذلك : إن إدريس بن عبد الله بن الحسن أفلت من وقعة فخّ وكان الرشيد يتابع خبره ، فلمّا بلغه أنه قدم مصر متوجها إلى إفريقيّة غم كثيراً لعدم إمكانه القبض عليه ، فشكا ذلك إلى يحيى بن خالد ، فقال : أنا أكفيك أمره ، ودعا سليمان بن جرير الجزري ، وكان من متكلّمي الزيديّة البتريّة ، ومن أولي الرياسة فيهم ، فأرغبه ووعده عن الخليفة بكلّ ما أحبّ على أن يحتال لإدريس حتّى يقتله ، ودفع إليه غالية مسمومة ، فحمل ذلك وانصرف من عنده ، فأخذ معه صاحباً له وخرج يتغلغل في البلدان حتّى وصل إلى إدريس بن عبد الله فمت إليه بمذهبه ، وقال : إنّ السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي فجئتك ، فأنس به واجتباه ، وكان ذا لسان وعارضة ، وكان يجلس في مجلس البربر فيحتج للزيديّة ويدعو إلى أهل البيت كما كان يفعل ، فحسن موقع ذلك من إدريس إلى أن وجد فرصة لإدريس ، فقال له : جعلت فداك ، هذه قارورة غالية حملتها إليك من العراق ليس في هذا البلد من هذا الطيب شيء ، فقبلها وتغلل بها وشمها وانصرف سليمان إلى صاحبه ، وقد أعد فرسين ، وخرجا يركضان عليهما.
وسقط إدريس مغشيّاً عليه من شدّة السمّ ، فلم يعلم من بقربه ما قصّته ، وبعثوا إلى راشد مولاه، فتشاغل به ساعة يعالجه وينظر ما قصته.
فأقام إدريس في غشيته هاته نهاره حتّى قضى عشيّاً ، وتبيّن راشد أمر سليمان فخرج في جماعة يطلبه ... (68) الخبر.
كانت هذه إحدى طرق التصفية الجسديّة عند الحكّام ، وقد وقفت على أسلوبهم وكيفيّة استغلالهم المذهب كسلاح ضد الطالبيين ، وإن سليمان بن جرير مع كونه من متكلّمي الزيديّة البتريّة وأولي الرياسة فيهم ، تراه يدخل ضمن المخطّط ، وأن جملة سليمان : « إن السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي » فيها إشارة إلى أن فقه الطالبيين هو غير فقه السلطان وأن الحكّام استخدموا الشريعة لصالح السياسة ليتعرّفوا على الطالبيين وفق ما يؤدّونه من العبادات !
ومن خلال موقف سليمان نصل إلى أنّه كان من المندسّين الفكريين في صفوف الزيديّة ، ومن ثمّ استخدمه السلطان للغدر والخيانة.
ونودّ أن نوضح هنا نقطة ذكرها بعضهم للطعن في الشيعة وهي :
إن الشيعة اجتمعوا إلى زيد وسألوه عن أبي بكر وعمر ، وما هو رأيه فيهما ؟
أو أنّهم سألوه البراءة منهما ؟ فأجابهم بخلاف ما أرادوا من الطعن في الشيخين ، فتفرّقوا عنه فسمّاهم الرافضة !
فلفظ الرافضة ـ على هذا التصوّر ـ قد جاء من إطلاق الإمام زيد عليهم هذه التسمية ، وذلك لرفضهم الشيخين ، لا غير !
الحقيقة أن الشيعة لم يسألوا زيداً عن الشيخين ورأيه فيهما ، وخاصّة في ذلك الموقف الحرج ، بل إن الحكّام وأذيالهم كانوا يريدون بثّ روح الفرقة بين صفوف الإمام زيد ، وكان المخطط لهذه المكيدة الوالي يوسف بن عمر.
قال ابن عساكر : « ... فخرج زيد في أربعة آلاف بالكوفة ، فاحتال عليه بعض من كان يهوى هشاماً ، فدخلوا عليه ..
وقالوا : ما تقول في أبي بكر وعمر ؟
فقال زيد : رحم الله أبا بكر وعمر ، صاحبي رسول الله ، ثمّ قال : أين كنتم قبل اليوم » (69).
أراد المندسون بإثارتهم هذا السؤال أحد أمرين ، وفي كليهما نجاح تلك الخدعة ، فهو إمّا أن يتبرأ زيد من الشيخين ويسيء القول فيهما ، فيتّخذ ذلك ذريعة لسفك دمه ، وتلك وسيلة اتّخذها الحكّام على طول التاريخ للإطاحة بالعلويين ، وإمّا أن لا يتبرأ ، فيثار ضدّه السؤال : كيف لا يتبرّأ زيد ممّن ظلم العلويين وغصب حقّهم ؟ وقد نجحت المؤامرة حقّاً وتفرق عنه أهل الغدر وذوو الأطماع.
يقول الأستاذ الخربوطلي : « ولجأ يوسف بن عمر إلى الحيلة ، فدس لزيد بين أنصاره من يسأله عن رأيه في أبي بكر وعمر ... (70) ».
وفي الطبري : إنّ يوسف بن عمر هذا أعطى لبعض جواسيسه الأموال ليتعرف على أصحاب زيد ، وإن في قول زيد « أين كنتم قبل اليوم » إشارة إلى أن المخاطبين ليسوا من الشيعة بل هم من أتباع الوالي ، لأنّ الشيعي لا يجهل رأي أهل البيت فيما طرح ، وعليه فما معنى إثارة هذا السؤال في ذلك الموقف الحرج ، في ساعة حرب وتأهب ، وهياج وتحزب ؟! كما أنّهم يعرفون الجند واختلاطهم من عناصر مختلفة ، فكيف يهبط بهم الشذوذ في التفكير إلى هذا المستوى ، في حين هم إلى الاجتماع أحوج منهم إلى الفرقة واختلاف الرأي ؟!
وبهذا ، تجلّى لنا أن الحكّام قد اتبعوا طرقاً لاحتواء الزيديّة ، منها :
1 ـ دسّ علماء السوء بين صفوفهم ، وكانت مهمّتهم : محاولة إبعاد الفصائل الثوريّة الزيديّة عن فقه علي بن أبي طالب.
2 ـ بثّ النعرات المذهبيّة بين صفوف الزيدية.
3 ـ محاولة خلق فجوة خلاف بين الطالبيين وغيرهم ، وسواها الكثير.
أمّا العلويّون فكانوا ـ بقدر المستطاع ـ يسعون للمحافظة على وحدتهم سياسيّاً وفكريّاً ، ممّا دعا المنصور لأن يعتب على الزيديّة لتعاونهم مع بني الحسن بقوله : « ما لي ولبني زيد ! وما ينقمان علينا ؟! ألم نقتل قتلة أبيهما ونطلب بثأره ونشفي صدورهما من عدوّهما (71) ؟!
وكيف لا ينقمون على العباسيين وهم يرون بأم أعينهم ذلك الدور التخريبي الذي يمارسونه والذي فاق دور وممارسات الأمويين خسة وحقدا !
وأما العامل الثالث :
فهو احتواء بعض الفقهاء لثورة زيد بن علي.
من الثابت في كتب التاريخ إن الإمام النعمان بن ثابت « أبا حنيفة » كان من المؤيّدين للثورات العلويّة ، كثورة زيد بن علي بالكوفة ، ومحمّد النفس الزكيّة في المدينة ، وأخيه إبراهيم في البصرة ، وكان من الداعين للخروج على طاعة السلطان الفاسد.
ومن الطبيعي أن تؤثّر هذه المواقف على نفسيات المجاهدين ممّا يولد لديهم حالة من التعاطف مع الإمام أبي حنيفة ، مضافاً إلى أن أصول فقه أبي حنيفة كانت توافق الرأي وترتسم وفق القياس ، وإنّه كان يجادل مخالفيه الفقهيين ويبيّن لهم وجوها من الرأي ممّا كان يعجب كثيراً من الناس ، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية ، كان الإمام أبو حنيفة يعيش في الكوفة ، ويرى أن غالب أهلها علويون فكرا ، فكان عليه أن يتسلح بسلاح الحديث والمأثور إلى جوار ما يحمله من الاستدلال والرأي ، فذهب إلى المدينة للاستزادة من حديث محمّد الباقر وجعفر الصادق لتقوية مكانته الاجتماعيّة في الكوفة أكثر من ذي قبل.
قال المستشرق رونلد سن :
إنّ الشيعة كانوا يحترمون ويجلون أبا حنيفة لصلاته الودية بالإمام جعفر الصادق ، وقد ازداد إعجابهم به حينما قال عن العباسيين : إنّهم لو أرادوا بناء مسجد وأمروه بإحصاء الأجر فإنه لا يفعل ، لأنّهم فاسقون والفاسق لا يتولّى الإمامة (72).
أمّا الإمامان الباقر والصادق فكانا يتخوفان على شيعتهم من الإمام أبي حنيفة وأشاروا عليهم بالحيطة والحذر من آرائه لمخالفتها أصول مدرستهم « مدرسة السنّة والتعبّد » بل ولموافقة اجتهاد الإمام أبي حنيفة للرأي والقياس ، في حين يرى أهل البيت أن دين الله ـ أي التشريع ـ لا يقاس بالعقول.
هذا وإن القول بالرأي لا يدلّ على كون قائله من المتأثّرين بالحكومة قطعاً ، أو هو من أتباع السياسة الأمويّة ، بل إن الفقيه قد يوافق السلطان في رأيه وقد لا يوافقه ، ومن ذلك ما قلناه في مسألة الوضوء العثماني ، فإن ذهاب أبي حنيفة إلى وضوء عثمان لا يعني أنه قد استجاب للسلطان أو تأثّر بالأجواء الحاكمة ، بل إنّه تبنى هذه الوجهة لموافقتها للأصول التي رسمها لنفسه وبنى عليها فقهه.
وعليه ، فإن توافق الآراء لا يعني تطابق السياسة والمنحى ، وقد عرف عن الإمام أبي حنيفة إنّه كان الوحيد في الكوفة الذي يترحّم على عثمان بن عفان.
وقد نقل سعيد بن عروبة ذلك بقوله : « قدمت الكوفة ، فحضرت مجلس أبي حنيفة ، فذكر يوماً عثمان فترحم عليه.
فقلت له : وأنت يرحمك الله !! فما سمعت أحداً في هذا البلد يترحّم على عثمان غيرك ؟ » (73).
ولنوضح ما قلناه بتقرير آخر :
مضى على الوضوء العثماني وإلى أيّام ثورة الإمام زيد بن علي ما يقارب القرن من الزمن ، فلا يعقل أن لا يترك هذا الوضوء بصماته على الحديث ومواقف التابعين ، مع ما عرفت من سعي الحكومة في تبني فقه الخليفة عثمان ونشر آرائه ، مضافاً إلى أن مدرسة عثمان في الوضوء ـ كما سيتضح لك لاحقاً ـ كانت تبتني على الرأي والاستحسان. وهذه الرؤية كانت تتّحد في بعض أصولها مع فكر الإمام أبي حنيفة ، فذهاب أبو حنيفة إلى الوضوء الثلاثي الغسلي إنّما جاء لاعتقاده بصحّة تلك الأحاديث المنقولة وموافقتها لأصول مذهبه وليس لتأثره بالاتّجاه الحكومي ، إذ أنّه قد حضر عند عطاء بن رباح في مكّة ، ونافع مولى ابن عمر في المدينة ، وأخذ عن عاصم بن أبي النجود ، وعطية العوفي وعبد الرحمن بن هرمز مولى ربيعة بن الحارث ، وزياد بن علاقة ، وهشام بن عروة وآخرين ، وغالب هؤلاء كانوا يتّحدون في الفكر والآراء.
وعلى هذا ، تكون الزيديّة قد تأثرت بالفقه الحنفي للعلاقات والمواقف التي وقفها الإمام لهم ، فإنّهم قد تمسّكوا بالفقه الحنفي وتركوا ما كان رسمه لهم زيد من فقه آبائه عن رسول الله (ص) ، وذلك لعاملين :
1 ـ خلو الكوفة من علماء الزيديّة ـ بعد مقتل الإمام زيد ـ وانشغال الطالبيين بمقارعة الظالمين ، وبذلك تهيّأت الأرضية لأبي حنيفة لاحتوائهم فكريّاً لقربه إليهم مكانيّاً وسياسيّاً.
2 ـ ابتعادهم عن فقهاء الطالبيين الموجودين في المدينة ، كعبد الله بن الحسن وجعفر بن محمّد الصادق ، وسعي المندسين في صفوف الثوار لبثّ روح الفرقة بين صفوفهم وإشاعة كون عبد الله بن الحسن ليس بفقيه ولا يجوز الرجوع إليه ، وأنّ جعفر بن محمّد لا يمكن الأخذ عنه لتقاعسه عن الجهاد مع زيد ، وما شاكل ذلك من الشبهات ، كلّ ذلك ليحصروا الأخذ في الإمام أبي حنيفة.
وقد ثبت في علم الاجتماع أن الخلاف بين الأقارب ـ سواء في العقيدة أو النسب ـ يكون أكثر وضوحاً من الخلاف بين الأباعد ، فلو لحظنا ـ مثلاً ـ الخلاف بين الشيعي والسنّي ـ في العقائد وغيرها ـ لرأيناه يشغل كثرا من وقت المسلمين ، مع تقارب نظرهم واستقائهم من أصول واحدة واتّحادهم في كثير من الميادين والأصول ، في حين لا نرى مثل هذه المواجهة بين المسلم وبين اليهودي أو المسيحي مع اختلافهم معهم في أكثر من أمر ، وهكذا الأمر بالقياس إلى الخلاف النسبي بين الأقارب ، فإن الخلاف بين الأخوة وبين الأعمام تظهر ملامحه سريعاً على عكس الخلاف بين الأباعد. ولما كان الفقه الزيدي يستوحي فقهه من العترة وأن الإمام جعفر بن محمّد الصادق هو ابن أخ الإمام زيد بن علي ، فإن المندسين بين صفوف الزيديّة يسعون لتكدير الموقف بين الزيديّة والجعفريّة عن طريق رفع مستوى التوقعات وطرح بعض الشبهات ، ليبعدوا أنظار الزيديّة عن أعلام الطالبيين في المدينة ، حتّى يسهل الالتفاف عليهم لاحتوائهم فكريّاً.
وتبيّن بهذا أن القريب دوما يتوقّع من قريبه ـ أكثر من البعيد أو المختلف معه ـ أن يؤازره وينصره ، وأن يسير معه ، وحينما لا يلمس هذا التعاون ـ رغم ما بهذا من مسوغات وأدلّة ـ نراه يبتعد شيئاً فشيئاً عن قريبه ، ولربّما بلغ به الأمر أن يجعله في ضمن أعدائه ومناوئيه ، وخصوصاً إذا لحظنا بعد المسافة بين الكوفة والمدينة ووجود أعلام كالإمام أبي حنيفة في الكوفة !
ولأجل كلّ هذا ، نرى بصمات الفقه الحنفي ظاهرة على الفقه الزيدي ، ويمكننا أن نعد أكثر من ثلثيه مأخوذا عن الإمام أبي حنيفة ، وقد أكّد هذه الحقيقة الشيخ محمّد بخيت ـ مفتي الديار المصريّة في أوانه ـ في تقريظه لمسند الإمام زيد بن علي ، بقوله :
أمّا بعد ، فإنّي اطلعت على هذا المجموع الفقهي الذي جمعه الإمام عبد العزيز بن إسحاق ، المنسوب بالسند الصحيح إلى الإمام الشهيد زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي ابن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه ، صهر الرسول وزوج البتول بضعة الرسول (ص) ، وقرأته على راويه حضرة الأستاذ الشيخ عبد الواسع ، فوجدته مجموعاً جمع من المسائل الفقهيّة والأحكام الشرعيّة ما هو مدلّل عليه بالآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة ، وهو موافق في معظم أحكامه لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ، وحيث إن مذهب الزيديّة في العلوم الشرعيّة لم يشتهر في الديار المصريّة ... (74).
وبهذا ، يحتمل أن يكون مجيء الإمام أبي حنيفة إلى المدينة ـ مضافاً إلى تقوية مكانته الاجتماعيّة في الكوفة ـ إنما كان لاختراق صفوف الشيعة الإماميّة.
أمّا حيطة الإمام جعفر بن محمّد الصادق وتركيزه على الأخذ بالمأثور وترك الرأي والقياس وتنظيمه لحلقات الدرس وقوله : « ليت السياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا » وتأكيده على الفقه .. فإنّه هو الذي أحبط بادرة الإمام أبي حنيفة في محاولة اختراقه للفقه الشيعي ، بخلاف الزيديّة الذين انشغلوا بالحرب والكفاح المسلّح وعدم وجود أئمّة من أهل البيت بينهم ممّا أدّى إلى خلق فجوة وفراغ فقهي عندهم اضطرهم إلى الالتجاء لفقه أبي حنيفة.
بين وضوء زيد ووضوء الزيديّة
وعلى هذا فالوضوء المتداول بين الزيديّة اليوم لم يكن وضوء الإمام زيد بن علي ، إذ أنّه ليس بوضوء أبيه علي بن الحسين ، وليس بوضوء جدّه علي بن أبي طالب وليس بوضوء أخيه الباقر ، ولا ابن أخيه الصادق ، وليس بوضوء ابن عمّه عبد الله بن محمّد بن عقيل ، ولا هو وضوء عبد الله بن عبّاس وغيرهم من الطالبيين ، بل هو وضوء الإمام أبي حنيفة وفق ما ثبت عنده من الأصول والمباني ، ومثل هذا الحكم الشرعي كثير في فقه الزيديّة. قد جاء في مقدّمة مسند الإمام زيد :
وممّا جرى عليه الناس ولم يعرفوا سبب ذلك هو عدم ذكر آل رسول الله (ص) في الكتابة في كتبهم في لصلاة. وسبب عدم ذكرها إن الأمويّة شددت في ذكر الآل كما هو مشهور من قتلهم وتشريدهم في البلاد ، حتّى أن الحجّاج منع من التحديث عن علي كرم الله وجهه ، حتّى كان الحسن البصري جماعة من التابعين إذا رووا حديثا وكانوا في الجوامع لم يقدروا أن يصرحوا بذكر علي خوفاً من سيف الحجّاج ، فكانوا يقولون : وعن أبي زينب عن النبي (ص) فجرى الناس على ذلك من عدم ذكر الآل ، والآن بحمد الله زال المانع وذلك الزمن المخوف ، والآن كتب الهند وبعض الكتب المصريّة الحديثة وأمثالها الذين أهلها متنورون ، صاروا يذكرون الآل في الصلاة بعد ذكر النبي فيجعلونها من جملة الصلاة ، والصلاة على النبي التي لا يذكر فيها تسمّى الصلاة البتراء المنهي عنها كما في الحديث : « لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء »
قيل : يا رسول الله ، وما الصلاة البتراء ؟
قال : « أن تصلّوا عليّ ولا تصلّوا على آلي ».
وأخرج الدارقطني والبيهقي في حديث : « من صلّى عليّ ولم يصلّ على أهل بيتي لم تقبل منه » وأخرج مسلم
وغيره ... (75)
هذا ولو سلّمنا جدلاً بأن الإمام زيد بن علي كان قد توضّأ وغسل رجليه ـ مع إنّا قد أوضحنا عدم وقوع ذلك ـ فهو لا يدلّ على مشروعيّة ذلك الفعل وكونه سنّة رسول الله ، إذ أن الإمام زيداً كان موقفه موقف الإمام العادل الذي يجب عليه التحلي بجميع فضائل الإمام العادل المجاهد ضدّ أئمّة الجور ، وأن يحذر كلّ الحذر من إشغال أصحابه في الجزئيّات والفروع ، خوفاً من وقوع الخلاف بينهم ، وقد التف بالفعل حوله أغلب الفرق الإسلاميّة ، حتّى المرجئة والخوارج ، فيحتمل أن يكون الإمام زيد قد أتى بالوضوء الغسلي رعاية لحال غالبيّة الجند ووحدة الصفّ وإن كان لا يعتقد بمشروعيّته ، وقد لحظ مثل هذا الموقف في كلام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الصلاة على الميّت وقوله : « هذا أجمع لهم ، ونحن إلى اجتماعهم محتاجون ، وليس في تكبيرة تركتها ضرر إن شاء الله » (76).
وقد صدرت عن الصادق نصوص كثيرة في صلاة الجماعة مع العامّة رعاية للصف الإسلامي ولزوم الصلاة معهم ، فقال : « ومن صلّى معهم في الصفّ الأوّل كمن صلّى خلف رسول الله في الصفّ الأوّل » (77).
وقوله : « يا إسحاق ، أتصلّي معهم في المسجد ؟ »
قلت : نعم.
قال : « صلّ معهم ، فإن المصلّي معهم في الصف الأوّل كالشاهر سيفه في سبيل الله » (78)
وقوله : « إذا صلّيت معهم ، غفر الله لك بعدد من خالفك » (79).
تلخص ممّا سبق
بهذا عرفت أن موقف الإمام زيد في الوضوء لا يمكن أن يخالف موقف جعفر بن محمّد الصادق وبني الحسن ، بل إن فقه الجميع واحد كما رأيت دعوتهم وتأكيدهم على وحدة الصف الإسلامي في أمور متشعبة ومختلفة.
وإن الخلاف لو حدث بينهم إنّما كان لأحد العوامل التالية :
1 ـ سيطرة الروح الثوريّة علي بني الحسن والزيديّة وتأثّرهم بأقوال المندسين بين صفوفهم وقناعتهم بتلك الشبهات ، مثل إن جعفر بن محمّد الصادق لا يجوز الأخذ بكلامه لقعوده عن القتال مع زيد والنفس الزكيّة و ... !
2 ـ دور الحكّام في اتّساع الفجوة بين الزيديّة والإمام الصادق ، بل التمهيد وبصورة غير مباشرة إلى الأخذ بفقه الإمام أبي حنيفة.
3 ـ حصول فراغ فكري في الطائفة الزيديّة ـ بعد مقتل الإمام زيد بن علي عام 120 ـ لمدّة تقارب الثلاثين عاماً ، أيّ حتى عام 150 ، وهي المدّة التي استطاع الفكر الحنفي أن يخترق خلالها صفوف الفقه الزيدي.
وقلنا بأن تعلق الزيديّة بفقه الإمام أبي حنيفة كان لعاملين :
أ ـ قرب الإمام أبي حنيفة منهم مكانيّاً وسياسيّاً ، وتعاطفه مع المجاهدين منذ عهد الإمام زيد وحتّى قيام محمّد النفس الزكيّة بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة.
ب ـ عدم وجود فقيه من أهل البيت في الكوفة ، ولو اعتبرنا الإمام يحيى بن زيد هو الفقيه من أهل البيت فإنّه لم يعش إلّا خمس سنوات بعد والده وقد خذلته الزيديّة. وإن قلنا إنّه أحمد بن عيسى بن زيد ، فإن جلّ فقهه مأخوذ من تلامذة الإمام أبي حنيفة ، وكذا الأمر بالنسبة إلى القاسم بن إبراهيم الرسني الحسني ، ويحيى بن الحسين بن القاسم ، وغيرهم من أعلام العلويين.
والذي يؤكّد حقيقة ما قلناه من تبدّل الفقه الزيدي وبعده عن آراء زيد ، هو اضطراب مباني الفقه الزيدي اليوم ، فتراها ملفقة وخليطاً من مباني عدّة مذاهب ، فهم يقولون بحجيّة المصالح المرسلة في حين أن الحنفيّة والشافعيّة والحنبليّة لم يعدوها من أصولهم ، ثمّ يقولون بالقياس في حين أن الإماميّة والظاهريّة يأبيانه ، وهكذا في كثير من مبانيهم الفقهيّة.
إلى هنا ننهي الكلام عن الوضوء في العهد الأموي ، وننتقل إلى دراسة الوضوء حتّى نهاية العصر العباسي الأوّل.
الهوامش
1. مقاتل الطالبيين : 466 ـ 467.
2. مسند الإمام زيد : 88 ، وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة نحوه.
3. مسند الإمام زيد : 88.
4. مسند أحمد 5 : 315.
5. تاريخ المدينة 4 : 1158.
6. راجع : البداية والنهاية 9 : 187 ، وغيره من كتب التاريخ.
7. صحيح البخاري 1 : 141.
8. تهذيب الأحكام 2 : 39 / 123 ، الإستبصار 1 : 276 / 1003.
9. تهذيب الأحكام 2 : 24 / 68 و 26 / 73 ، الإستبصار 1 : 246 / 881 ، من لا يحضره الفقيه 1 : 139 / 647.
10. مسند أحمد 1 : 221 ، شرح معاني الآثار 1 : 160 / 966 ، صحيح البخاري 1 : 143 و 147.
11. الموطأ 1 : 144 / 4 ، شرح معاني الآثار 1 : 160 / 967 ، مسند أحمد 1 : 283 ، سنن أبي داود 2 : 6 / 1210.
12. صحيح مسلم 1 : 489 / 49 ، وفي شرح معاني الآثار 1 : 160 / 967.
13. صحيح مسلم 1 : 490 / 54.
14. صحيح البخاري 1 : 144 ، الموطأ 1 : 4 / 2.
15. قرب الإسناد : 164 / 601 ، وعنه في البحار 79 : 331 / 2.
16. صحيح البخاري 1 : 144.
17. راجع صحيح البخاري 1 : 145.
18. مسلم صحيح 1 : 491 ، 492 / 57 ، 58.
19. مقاتل الطالبيين : 617.
20. مقاتل الطالبيين : 468.
21. مسند الإمام زيد : 74.
22. مسند الإمام زيد : 75.
23. انظر : التفسير الكبير 11 : 163.
24. التفسير الكبير 11 : 164.
25. الأنساب 5 : 405.
26. ًمقاتل الطالبيين : 443 ـ 447 مختصرا.
27. مسند الإمام زيد : 83.
28. انظر : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 276.
29. من لا يحضره الفقيه 1 : 187 / 890 ، وعنه في وسائل الشيعة 5 : 418 / 6973.
30. انظر : مقاتل الطالبيين : 335 و 408 إلى 413.
31. مسند الإمام زيد : 149.
32. مسند الإمام أحمد بن حنبل 4 : 370 ، شرح معاني الآثار 1 : 494 / 2827 ، التلخيص : 112 رقم 257.
33. الإصابة 2 : 22.
34. شرح معاني الآثار 1 : 494 / 2828.
35. مقاتل الطالبيين : 41 ، وكذا في درر الأحاديث النبويّة بالأسانيد اليحيويّة : 22 ، 93.
36. مقاتل الطالبيين : 254.
37. مقاتل الطالبيين : 473 ـ 474 ، ضمن حديث طويل.
38. مقاتل الطالبيين : 219 ـ 220.
39. قال ابن خلدون في تاريخه في الفصل الثالث والخمسين 1 : 589 عن الإمام الصادق (ع) : « وقد صحّ عنه إنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم ، فتصحّ كما يقول ، وقد حذر يحيى ـ ابن عمّه زيد ـ من مصرعه وعصاه ، فخرج وقتل بالجوزجان كما هو المعروف ، وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنّك علماً وديناً وآثاراً من النبوّة ، وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيّبة » انتهى بلفظه.
40. مقاتل الطالبيين : 255 ـ 256.
41. إقبال الأعمال : 579.
42. الإصابة 1 : 395.
43. عيون الأخبار 1 : 194 / 1 ، وقريب منه في تهذيب تاريخ دمشق 6 : 20.
44. عيون الأخبار 1 : 195 ، 196 / 2 ، 4 ، مقاتل الطالبيين : 130.
45. انظر : جهاد الشيعة ، للدكتورة سميرة الليثي : 190.
46. مقاتل الطالبيين : 464.
47. مقاتل الطالبيين : 464.
48. مقاتل الطالبيين : 533.
49. مقاتل الطالبيين : 534.
50. مقاتل الطالبيين : 457.
>51. مقاتل الطالبيين : 453.
52. سيتّضح لك ذلك أكثر في الفصل الثاني من هذه الدراسة.
53. السنن الكبرى 1 : 72.
54. تهذيب الكمال 20 : 386.
55. مختصر تاريخ دمشق 17 : 236 ، سير أعلام النبلاء 4 : 392 ، طبقات ابن سعد 5 : 216 : حلية الأولياء 3 : 133 ، تهذيب الكمال 20 : 390.
56. سنن الترمذي 1 : 26 / 34.
57. تهذيب الكمال 21 : 107.
58. السنن الكبرى ، للبيهقي 1 : 56 باب إدخال المرفقين في الوضوء.
59. تهذيب الكمال 16 : 80 ، تهذيب التهذيب 6 : 14 عن الطبقات.
60. الضعفاء ، للعقيلي : 2 : 299 ، وعنه في تهذيب الكمال 16 : 80 ، وتهذيب التهذيب 6 : 14.
61. الكامل ، لابن عدي 4 : 1447 ، تهذيب الكمال 16 : 80 ، تهذيب التهذيب 6 : 14.
62. انظر : مقدّمة موطأ مالك ، بقلم الدكتور محمّد كامل حسين « جك » وغيرها.
63. انظر : المصدر السابق وغيره من كتب التراجم عن الإمام مالك.
64. طبقات ابن سعد 4 : 147.
65. تاريخ المذاهب الإسلاميّة : 653.
66. قد مرّت الإشارة إلى العامل الأوّل منه في ص 313.
67. مقاتل الطالبيين: 468.
68. مقاتل الطالبيين : 489.
69. تهذيب تاريخ دمشق ، لابن عساكر 6 : 25.
70. الدولة العربية الإسلامية : 305 ، عنه في : الإمام الصادق 1 : 126.
71. مقاتل الطالبيين : 406 ـ 407.
72. عقيدة الشيعة : 143.
73. تاريخ المذاهب الإسلامية : 261 ، عن الانتقاء لابن عبد البر : ص 130.
74. من مقدّمة مسند الإمام زيد بن علي : 36 ، وحكى المامقاني في تنقيح المقال 1 : 36 / 3 عن الوحيد البهبهاني « في ترجمة الحسين بن علوان » إن الزيديّة في الفروع مثل العامة.
75. مقدّمة مسند الإمام زيد : 34.
76. مقاتل الطالبيين : 406.
77. من لا يحضره الفقيه 1 : 250 / 1126 ، أمالي الصدوق 300 / 14 ، الكافي 3 : 380 / 6.
78. تهذيب الأحكام 3 : 277 / 809.
79. من لا يحضره الفقيه 1 : 265 / 1211.
مقتبس من كتاب : [ وضوء النبي (ص) ٍ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 296 ـ 335
التعلیقات