الوضوء في العهد العباسي الأوّل ـ ٢
السيد علي الشهرستاني
منذ 15 سنةالعهد العباسي الأوّل « 227 ـ 132 هـ »
المنصور والوضوء
جاء في كتاب الرجال للكشي عن حمدويه وإبراهيم ابني نصير ، عن محمّد ابن إسماعيل الرازي ، عن أحمد بن سليمان ، عن داود الرقي قال : دخلت على أبي عبد الله ـ أيّ الصادق ـ فقلت له : جعلت فداك ، كم عدّة الطهارة ؟
فقال : « ما أوجبه الله فواحدة ، وأضاف إليها رسول الله واحدة لضعف الناس ، ومن توضّأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له » ، أنا معه في ذا حتّى جاءه داود بن زربي ، فسأله عن عدّة الطهارة ؟
فقال له : « ثلاثاً ثلاثاً ، من نقص عنه فلا صلاة » !
قال : فارتعدت فرائصي ، وكاد أن يدخلني الشيطان ، فأبصر أبو عبد الله إليّ وقد تغيّر لوني ، فقال : « أسكن يا داود ، هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق ».
قال : فخرجنا من عنده ، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور ، وكان قد ألقى إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي ، وأنّه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمّد.
فقال أبو جعفر : إنّي مطلع إلى طهارته ، فإن توضّأ وضوء جعفر بن محمّد ـ فإنّي لأعرف طهارته ـ حقّقت عليه القول وقتلته.
فاطلع وداود يتهيّأ للصلاة من حيث لا يراه ، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثاً ثلاثاً كما أمره أبو عبد الله ، فما تمّ وضوءه حتّى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه.
قال : فقال داود : فلمّا أن دخلت عليه رحب بي وقال : يا داود قيل فيك شيء باطل ، وما أنت كذلك ، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة ، فاجعلني في حلّ ، وأمر له بمائة ألف درهم !
قال : فقال داود الرقي : التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبد الله ، فقال له داود بن زربي : جعلت فداك ، حقنت دماءنا في دار الدنيا ، ونرجو أن ندخل بيمنك وبركتك الجنّة.
فقال : « فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين ».
فقال أبو عبد الله لداود بن زربي : « حدث داود الرقي بما مرّ عليكم حتّى تسكن روعته ».
قال : فقال أبو عبد الله : « لهذا أفتيته ، لأنّه كان أشرف على القتل من يد هذا العدوّ » ثمّ قال : « يا داود بن زربي توضّأ مثنى مثنى ولا تزيدنّ عليه ، فإنّك إن زدت عليه فلا صلاة لك » (1).
فالحكومة والحكّام بتقويتهم للخلافات الفقهيّة السابقة بين الصحابة وتبنيهم لآراء المخالفين لعلي وولده ، كانوا يسعون إلى إثارة الرأي العام ضدّ أتباع علي والآخذين بفقه جعفر بن محمّد الصادق بحجّة أنّهم قد خرجوا عن إرادة الأمّة وأتوا بالذي لا تأنسه العامة ، وأنّ الخروج عن الجماعة فسق !!
والإمام الصادق كان لا يريد إعطاء المبرر بيد الحكّام للنيل من شيعته ومواليه. ومن خلال انتهاجه التقيّة كان يريد الحفاظ على المؤمنين من شيعته وصونهم من بطش السلطة ، وقد نقل عنه بأنّه مسح أذنيه (2) وعنقه (3) وأخذ ماء جديداً لمسح الرأس (4) بل مسح جميع رأسه (5) وغسل رجليه (6) ، فتحمل جميع هذه الروايات على التقيّة لما علم من مذهبه في الوضوء ولما ثبت صدوره عنه.
هذا وإن ضغط الحكّام على الصادق وغيره من أئمّة أهل البيت لم يقتصر على الوضوء بل كانوا يريدون توحيد المسلمين على فقه مالك بن أنس وفي جميع أبواب الفقه لقول المنصور له : « لنحمل الناس على علمك » أو قوله : « لنجعل العلم علماً واحداً ».
وقد ثبت في التاريخ أن السلطة حصرت الإفتاء أيّام الموسم بمالك ، وكان مناديها يهتف : لا يفتي الناس إلّا مالك ؟!.
وقد جاء في وسائل الشيعة بأنّ الصادق كان يقول بناقضيّة القبلة للوضوء وكذا مسّ باطن الدبر والإحليل (7) وغيرها. وقد حمل فقهاء الشيعة تلك الأخبار على التقيّة ، وبرهنوا على أن تلك الأخبار ـ كغيرها من أخبار التقيّة ـ تدلّ بنفسها على نفسها بأنّها صدرت تقيّة لمخالفتها للنصوص القرآنيّة والثابت الصحيح من مرويّاتهم.
فقد جاء في التهذيب والاستبصار عن سماعة أنّه سأل الصادق عن الرجللمس ذكره أو فرجه أو أسفل من ذلك وهو قائم يصلّي ، يعيد وضوءه ؟
فقال : « لا بأس بذلك ، إنّما هو من جسده » (8).
وجاء في تفسير العيّاشي عن قيس بن رمانة أنّه سأل الصادق : أتوضّأ ثمّ أدعو الجارية فتمسّك بيدي فأقوم فأصلّي ، أعليّ وضوء ؟
قال : « لا ».
قال : يزعمون أنّه اللمس ؟
قال : « لا والله ، ما اللمس إلّا الوقاع » ـ يعني الجماع ـ ثمّ قال : « كان أبو جعفر ـ أيّ الباقر ـ بعدما كبّر يتوضّأ ثمّ يدعو الجارية فتأخذ بيده فيقوم فيصلّي » (9).
نعم إن صدور مثل هذه الروايات عن الصادق تدلّل على أنّ الوضع الديني لم يكن عادياً ، بل نرجح ـ على فرض صدور الروايات عنه ـ أنّ صدورها كان في السنين الثلاث الأخيرة من عمره الشريف ، أيّ بعد الإطاحة بثورتيّ النفس الزكيّة في المدينة وأخيه إبراهيم الإمام بالبصرة.
وإنّ الواقف على مجريات الأحداث في العهد العبّاسي وخصوصاً في النصف الثاني من عهد المنصور إلى أواخر عهد الرشيد ، والعارف بأساليب الحكّام والإرهاب ضدّ أولاد علي وشيعته .. يدرك مدى الظلم الواقع على أهل البيت آنذاك. وقد مرّ عليك سابقاً خبر ريطة وجثث الهاشميين وتسليم تلك الخزانة للمهدي العبّاسي ، وخبر يحيى بن عبد الله بن الحسن وأنّه لم يكن قادراً أن يصرح بأن بنته هي بنت رسول الله وليس له أن يزوّجها لذلك السقاء. وقرأت قبلها عن بني الحسن وكيف سامهم المنصور إذلالاً وأودعهم بطون السجون المظلمة بحيث كانوا لا يعرف وقت الصلاة فيها إلّا بتلاوة علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن (10).
إن من يقف على هذه الأمور يدرك أن التقيّة كانت هي السبيل الأوحد لبقاء فقه العلويين ونهجهم ، علماً بأن التقيّة لم تكن نفاقاً كما يطرحه البعض ، إذ أن النفاق هو إظهار الأيمان مع كتمان الكفر. أمّا التقيّة فهي إظهار المسايرة والموافقة والعمل بخلاف الواقع لحفظ الدماء والإعراض وما شابه ذلك ، وكتمان الأيمان .. ضماناً لاستمرار مسيرة الخطّ الإسلامي الأصيل.
بعبارة أخرى : الكافرون هم الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، مثل قوله : ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ).
فهذا .. إيمان ظاهر + كفر باطن = نفاق.
أمّا أهل التقيّة فمثلهم مثل مؤمن آل فرعون ، فإنّه كان يكتم في الباطن إيمانه ولا يعلم به إلّا الله ، ويتظاهر لفرعون وللناس جميعاً على أنّه على دين فرعون ، خوفاً على نفسه من القتل. وقد عظم الله تعالى مبادرته هذه وأشاد بذكره في محكم كتابه : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ).
وقد ذهب إلى العمل بالتقيّة أكثر العلماء وقد ثبت عن الإمام أبي حنيفة أنّه أباح قذف المحصنات وترك الصلاة والإفطار في شهر رمضان تقيّة وحيث كان مكرهاً ، وهكذا الحال بالنسبة إلى مالك فإنّه اتّقى الأمويين والعباسيين واستدلّ بقوله تعالى : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) على جواز التقيّة في معرض حديثه عن طلاق المكره ، أمّا الإمام الشافعي فلا يرى كفّارة على الإنسان الذي حلف بالله كذباً تحت الإكراه ، والنووي الشافعي لا يرى القطع بحقّ السارق كرهاً وهكذا الحال بالنسبة إلى الأحناف والظاهري والطبري والزيدي (11) ، وقال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين : « إنّ عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب ».
وأخرج جلال الدين السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر :
قال : « ويجوز أكل الميتة في المخمصة ، وإساغة اللقمة في الخمر ، والتلفظ بكلمة الكفر. ولو عمّ الحرام قطرا بحيث لا يوجد فيه حلال إلّا نادراً فإنّه يجوز استعمال ما يحتاج إليه ».
وأخرج أبو بكر الرازي الجصاص في كتابه أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (11).
قال : يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها ، وهذا هو ظاهر اللفظ ، وعليه الجمهور من أهل العلم ، كما جاء عن قتادة في قوله تعالى : ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ).
قال : لا يحلّ لمؤمن أن يتّخذ كافرا وليّاً في دينه ، وقوله تعالى : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقيّة (12).
وأخرج البخاري في صحيحه عن قتيبة بن سعيد عن سفيان عن ابن المكندر ، حدّثه عن عروة بن الزبير إن عائشة أخبرته : إنّه استأذن على النبي (ص) رجل ، فقال : « إئذنوا له فبئس ابن العشيرة » أو « بئس أخو العشيرة » فلمّا دخل ألان له الكلام ، فقلت : يا رسول الله قلت ما قلت ثمّ ألنت له في القول ؟
فقال النبي (ص) : « إي عائشة ، إنّ شرّ الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه » (13).
فعليه أنّ مشروعيّة التقيّة ثابتة في التاريخ ، وقد عمل بها الرسول (ص) مع المشركين. وأنّ قضيّة عمّار مشهورة قد أنزل الله فيها آية ، وقد مرّ عليك خبر مؤمن آل فرعون ، ونحن على اطمئنان بأن المسلم الذي لا يقرّ بالتقيّة سيمارسها حتماً لو نزل به الظلم والإرهاب وعاش ظروف الشيعة ، وأنّ التقيّة حقيقة فطريّة يتمسّك بها الإنسان في المهمّات والملمات.
المهدي العباسي والوضوء
تولّى المهدي العبّاسي الخلافة عام 158 بعدما امتنع عيسى بن موسى ولي عهده عن التنازل إلى ابنه محمّد المهدي ، فبدأ سياسته بالنظر في المظالم ، والكفّ عن القتل وإطلاق سراح السجناء السياسيين ، حتّى نرى الحسن بن زيد يبايع المهدي بصدر منشرح ونفس طيّبة.
ورأي المهدي أن الحجاز ، وخصوصاً بعد مقتل محمّد النفس الزكيّة ، أصبحت مركزاً رئيسيّاً من مراكز الحركة الشيعيّة ، فرحل إليها عام 160 ليستميل إليه أهلها حتّى لا يشاركوا العلويين في حركاتهم ، فأعلن المهدي في الحجاز بداية سياسة جديدة والعفو العام ، وبالغ في التقرّب إليهم ، حتّى قيل بأن عدد الثياب المهداة إلى أهالي مكّة مائة وخمسون ألف ثوب ، وصرف عليهم أموالاً طائلة واهتمّ بالأماكن المقدّسة فيها.
والشيعة كانوا على حيطة من سياسة المهدي وتعاملوا معها بحذر.
والمعروف عن المهدي إنّه كان يتخوّف من ثلاثة أشخاص :
1 ـ عيسى بن موسى ، ولي عهد المنصور سابقاً.
2 ـ عيسى بن زيد ، أخو الحسن الذي بايع المهدي أولاً.
3 ـ علي بن العبّاس بن الحسن.
وقد نصح المنصور المهدي بقوله : « يا بني إنّي قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام قبلها ، ولست أخاف عليك إلّا أحد رجلين : عيسى بن موسى ، وعيسى بن زيد ، فأمّا عيسى بن موسى فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته ، ووالله لو لم يكن إلّا أن يقول قولاً لما خفته عليك ، فأخرجه من قلبك. وأمّا عيسى بن زيد فانفق هذه الأموال واقبل هؤلاء الموالي واهدم المدينة حتى تظفر به ثمّ لا ألومك ».
علماً بأن عيسى كان قد اتّخذ الكوفة مركزاً لنشاطه السياسي بعد أن كان في البصرة يقاتل العباسيين مع إبراهيم حتّى قتل ، فالعباسيّون كانوا يراقبون تحرّكات الشيعة للوقوف على مكان عيسى وغيره من المجاهدين. وكانوا يسعون للعثور عليهم على ضوء ما يمارسونه من عبادات. وقد مرّت عليك النصوص السابقة وكيف تعرفوا على يحيى ، وإنّ سليمان بن جرير جاء إلى إدريس وقال : إن السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي.
ومن المستحسن أن نذكر خبراً آخر عن عيسى بن زيد حتّى نقف على ظلامة الطالبيين ، ثمّ نعرج على رواية الوضوء في هذا العهد.
جاء في مقاتل الطالبيين عن المنذر بن جعفر العبدي عن ابنه ، قال : خرجتأنا والحسن وعلي بن صالح ابنا حيّ ، وعبد ربه بن علقمة ، وجناب بن نسطاس مع عيسى بن زيد حجاجاً بعد مقتل إبراهيم ، وعيسى بيننا يستر نفسه في زي الجمالين ، فاجتمعنا بمكّة ذات ليلة في المسجد الحرام ، فجعل عيسى بن زيد والحسن بن صالح يتذاكران أشياء من السيرة ، فاختلف هو وعيسى في مسألة منها ـ وغالباً ما كانوا يختلفون ـ فلمّا كان من الغد دخل علينا عبد ربه بن علقمة فقال :
قدم عليكم الشفاء فيما اختلفتم فيه ، هذا سفيان الثوري قد قدم ، فقاموا بأجمعهم فخرجوا إليه ، فجاؤوه وهو في المسجد جالس ، فسلّموا عليه. ثمّ سأله عيسى بن زيد عن تلك المسألة ، فقال : هذه مسألة لا أقدر على الجواب عنها لأن فيها شيئاً على السلطان ـ مع العلم إن الثوري كان من المخالفين للسلطان وكان متوارياً عن الأنظار ـ.
فقال له الحسن : إنّه عيسى بن زيد ، فنظر إلى خباب بن نسطاس مستثبتاً.
فقال له جناب : نعم ، هو عيسى بن زيد ، فوثب سفيان فجلس بين يدي عيسى وعانقه وبكى بكاءً شديداً واعتذر إليه ممّا خاطب به من الردّ ، ثم أجابه عن المسألة وهو يبكي. وأقبل علينا فقال : إن حبّ بني فاطمة والجزع لهم ممّا هم عليه من الخوف والقتل والتشريد ليبكي من في قلبه شيء من الأيمان.
ثمّ قال لعيسى : قم بأبي أنت ، فاخف شخصك لا يصيبك من هؤلاء شيء نخافه ، فقمنا فتفرقنا (14).
هذا والمعروف عن المهدي إنّه كان يراقب حركات الشيعة ، وكان قد أمر واليه على الكوفة أن يخبره عن مكان اختفاء عيسى. ولما اجتمع بعض زعماء الزيدية في بيت عيسى هجم عليهم الوالي مع عدد من جيشه ، وألقى القبض على المجتمعين وبعثهم إلى المهدي ، فأمر بسجنهم ، وظلّ عيسى في السجن حتّى مات.
وبذلك تتأكّد لنا وحدة كلمة الطالبيين ـ حسنيين وحسينيين ـ وأن فقههم كان غير فقه الحكّام ، وأن الحكّام كانوا يستخدمون الشريعة للتعرّف على الطالبيين.
وقد قدمنا شواهد وإليك نصّاً آخر :
أخرج الشيخ الطوسي بسنده إلى داود بن زربي قال : سألت الصادق عن الوضوء ؟
فقال لي : « توضّأ ثلاثاً ثلاثاً »
ثمّ قال لي : « أليس تشهد بغداد وعساكرهم ؟! ».
قلت : بلى
قال ـ داود ـ : فكنت يوماً أتوضّأ في دار المهدي ، فرآني بعضهم وأنا لا أعلم به ، فقال : كذب من زعم أنّك رافضي وأنت تتوضّأ هذا الوضوء.
قال : فقلت : لهذا والله أمرني (15).
وقد نقل الطبري لنا نصّاً يكفينا تعريفاً بالمهدي وشدّة بغضه لعلي ، فقد جاء في الطبري أن القاسم بن مجاشع التميمي عرض على المهدي وصيّته ـ وكان فيها بعد الشهادة بالوحدانيّة ونبوّة محمّد « وإنّ علي بن أبي طالب وصي رسول الله ووارث الإمامة من بعده » ـ فلمّا بلغ المهدي إلى هذا الموضع رمى بالوصيّة ولم ينظر فيها (16).
الرشيد والوضوء
جاء في الإرشاد للمفيد : عن محمّد بن الفضل قال : اختلفت الرواية من بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء ، أهو من الأصابع إلى الكعبين أم من الكعبين إلى الأصابع ؟
فكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر : جعلت فداك ، إن أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين ، فإن رأيت أن تكتب إليّ بخطّك ما يكون بحسبه ، فعلت إن شاء الله.
فكتب إليه أبو الحسن : « فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثاً وتستنشق ثلاثاً ، وتغسل وجهك ثلاثاً ، وتخلل شعر لحيتك وتغسل يدك إلى المرفقين ثلاثاً ، وتمسح رأسك كلّه ، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ، ولا تخالف ذلك إلى غيره ».
فلمّا وصل الكتاب إلى علي بن يقطين ، تعجّب ممّا رسم له ممّا أجمع العصابة على خلافه ، ثمّ قال : مولاي أعلم بما قال ، وأنا ممتثل أمره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة ، امتثالاً لأمر أبي الحسن.
وسعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل له : إنّه رافضي مخالف لك.
فقال الرشيد لبعض خاصّته : قد كثر عندي القول في علي بن يقطين ، والقرف ـ أيّ الاتهام ـ له بخلافنا ، وميله إلى الرفض ، ولست أرى في خدمته لي تقصيراً ، وقد امتحنته مراراً ، فما ظهر منه علي ما يقرف به ، وأحبّ أن استبري أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرز منّي.
فقيل له : إنّ الرافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخففه ، ولا ترى غسل الرجلين ، فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه.
فقال : أجل ، إن هذا الوجه يظهر به أمره.
ثمّ تركه مدّة وناطه بشيء من الشغل في الدار حتّى دخل وقت الصلاة ، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته ، فلمّا دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو ، فدعا بالماء للوضوء ، فتمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ، وخلل شعر لحيته وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ومسح رأسه وأذنيه ، وغسل رجليه ، والرشيد ينظر إليه ، فلمّا رآه الرشيد فعل ذلك لم يملك نفسه حتّى أشرف عليه بحيث يراه ، ثمّ ناداه : كذب ـ يا علي بن يقطين ـ من زعم أنّك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده.
وبعد ذلك ورد عليه كتاب من أبي الحسن : « ابتدئ من الآن يا علي بن يقطين ، توضّأ كما أمر الله ، اغسل وجهك مرّة فريضة وأخرى إسباغاً ، واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كان يخاف عليك ، والسلام » (17).
العباسيّون وتأصيل المذاهب الأربعة
قدمنا سابقاً عناية الحكومة العباسيّة بالفقه المخالف لآل البيت واحتواء العباسيين لخطي الأثر والرأي. لما في انتشار مذهب آل البيت من تضعيف لخطّ الحكومة وتقوية لمنافسيهم على منصب الخلافة.
وإن احتواءهم لخطّي الأثر والرأي هو تعضيد لحكمها وتمسّك بالصفة شرعيّتها ، لأن رواد الخطّ الأوّل لا يرتؤون شرعيّة الخلافة العباسيّة خلافاً لروّاد الخطّ الثاني ، فإنّهم انخرطوا في سلك الدولة وترعرعوا في أحضانها وتولّوا منصب القضاء ، واستغلّت الدولة قدراتهم وطاقاتهم العلميّة في صالحها ، ولذلك ترى الحكومة العباسيّة تؤكّد على رفض آراء الخطّ الأوّل ، وإن كان عبد الله بن عبّاس ـ جدّهم الأعلى ـ من روّادها والدعاة إليها.
بعد كلّ ذلك نحاول المرور سريعاً بالمذاهب الأربعة التي أصلت آنذاك قبال مذهب علي وعبد الله بن عبّاس وأهل البيت ، لنأخذ فكرة إجماليّة عنها ، وكيف أن هذه المذاهب جعلت الوضوء الثلاثي الغسلي الذي ركزت عليه الحكومة العباسيّة كنقطة من نقاط الاختلاف التي يمكن من خلالها معرفة مخالفيها العقائديين والفقهيين.
مذهب الإمام أبي حنيفة
وأوّل مذهب يطالعنا في ذلك العصر وأقدمه هو مذهب الإمام أبي حنيفة ، فإن الإمام كان من أوائل الذين تقدموا لمبايعة أبي العبّاس السفاح في جملة من بايعه من الفقهاء ، حيث إن الناس كانوا يتشوّقون لحكم وعدهم بإقامة العدل والسنّة لينقذهم من جور الأمويين.
لكن أبا حنيفة سرعان ما أدرك انحراف العباسيين وشراءهم لضمائر بعض الفقهاء والعلماء ، فابتعد عن السلطة ورفض أن يتولّى القضاء للمنصور العبّاسي رغم كلّ السبل التي اقتفاها لاحتوائه ، فكلّما ازدادوا إلحاحا عليه ازداد ابتعاداً عنهم ورفضاً لتولّي القضاء ، حتّى وصل الأمر إلى سجنه وتعذيبه ، وقيل : إنّه مات مسموماً على أيدي العباسيين.
وعلى كلّ حال فإنّه لم يدوّن فقهه للسلطان ولا لغيره ، اللهم إلّا وريقات باسم « الفقه الأكبر » في العقائد نسبت إليه ، ولم يصحّ ذلك على وجه القطع واليقين.
ثمّ إنّ السلطات بعد وفاة الإمام أبي حنيفة استطاعت أن تحتوي اثنين من أكبر تلامذته ، هما : أبو يوسف القاضي ، ومحمد بن الحسن الشيباني اللذين كانا ينسبان كلّ ما وصلا إليه من رأي إلى أبي حنيفة !
وكان أبو يوسف قد انضمّ إلى السلطة العباسيّة أيّام المهدي العبّاسي سنة 158 وظلّ على ولائه أيّام الهادي والرشيد ، ودوّن من كتب الفقه : الصلاة ، الزكاة ، الصيام ، الآثار ، الفرائض ، البيوع ، الحدود ، الوكالة ، الوصايا والصيد ، الذباحة ، وكتاب اختلاف الأمصار ، وكتاب الردّ على مالك بن أنس.
وأهمّ كتبه : كتاب الخراج ، الذي ألّفه بناء على طلب من الخليفة هارون الرشيد في جباية الخراج ، فالمؤلّف خرج عن حدود تلك الدائرة إلى موضوع الإمامة والخلافة وشؤون القضاء والحرب !
وقد ذكر المؤرّخون سبب اتّصال أبي يوسف بالرشيد وتوثيق علاقاته معه :
إنّ بعض القوّاد حنث في يمين ، فطلب فقيهاً يستفتيه فيها ، فجيء بأبي يوسف ، فأفتاه إنه لم يحنث ، فوهب له دنانير وأخذ له داراً بالقرب منه واتّصل به.
فدخل القائد يوماً على الرشيد فوجده مغموماً ، فسأله عن سبب غمّه ،`فقال : شيء من أمر الدين قد حزبني ، فاطلب لي فقيها أستفتيه ، فجاءه بأبي يوسف.
قال أبو يوسف : فلمّا دخلت إلى ممرّ بين الدور ، رأيت فتى حسناً أثر الملك عليه ـ الظاهر أنّه الأمين بن الرشيد ـ وهو في حجرة في الممرّ محبوس ، فأومأ إليّ بإصبعه مستغيثاً ، فلم أفهم عنه إرادته ، وأدخلت إلى الرشيد ، فلمّا مثلت بين يديه ، سلّمت ، ووقفت.
فقال لي : ما اسمك ؟
قلت : يعقوب ، أصلح الله أمير المؤمنين.
قال : ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني ، هل يحدّه ؟
قلت : لا يجب ذلك.
قال : فحين قلتها سجد الرشيد ، فوقع لي أنّه قد رأى بعض أولاده الذكور على ذلك ، وأنّ الذي أشار إلي بالاستغاثة هو الابن الزاني !
قال : ثمّ رفع رأسه وقال : ومن أين قلت هذا ؟
قلت : لأنّ النبي (ص) قال : « ادرؤوا الحدود بالشبهات » ، وهذه شبهة يسقط الحدّ معها.
فقال : وأيّ شبهة مع المعاينة ؟
قلت : ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى ، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم.
قال : ولم ؟
قلت : لأنّ الحدّ حقّ الله تعالى ، والإمام مأمور بإقامة الحدّ ، فكأنّه قد صار حقّاً له ، وليس لأحد أخذ حقّه بعلمه ، ولا تناوله بيده ، وقد أجمع المسلمون على وقوع الحدّ بالإقرار والبيّنة ، ولم يجمعوا على إيقاعه بالعلم.
قال : فسجد مرّة أخرى ، وأمر لي بمال جليل ، ورزق في الفقهاء في كلّ شهر ، وأن ألزم الدار.
قال : فما خرجت حتّى جاءتني هدية الفتى وهدية أمّه وأسبابه ، فحصل لي من ذلك ما صار أصلاً للنعمة ، وانضاف رزق الخليفة إلى ما كان يجريه عليّ ذلك القائد.
ولزمت الدار ، فكان هذا الخادم يستفتيني ، وهذا يشاورني ، فأفتي وأشير ، فصارت لي مكنة فيهم ، وحرمة بهم ، وصلاتهم تصل إليّ وحالتي تقوى. ثمّ استدعاني الخليفة وطاولني واستفتاني في خواصّ أمره وأنس بي ، فلم حالي تزل تقوى معه حتّى قلّدني قضاء القضاة (18).
هذا حال أشهر تلامذة الإمام أبي حنيفة الناشر لفقهه والمدوّن لآرائه. وقد وقفت على دور الدولة في الأخذ بفتواه والعمل برأيه وجعله قاضياً للقضاة ، وجلوسه في البيت لإفتاء الناس !!
أمّا محمد بن الحسن الشيباني ، فهو ثاني أبرز تلامذة أبي حنيفة ، وقد درس عليه وناظر وسمع الحديث ، لكن غلب عليه الرأي.
قدم بغداد ودرس فيها ، ثم خرج إلى الرقة وفيها هارون الرشيد ، فولّاه قضاء الرقة ، وأخرجه هارون معه إلى الري فمات بها.
كان ملازماً للسلطة العباسيّة وألّف في الفقه الكثير.
قال أبو علي الحسن بن داود : فخرّ أهل البصرة بأربعة كتب ، منها : كتاب البيان والتبيين للجاحظ ، وكتاب الحيوان له ، وكتاب سيبويه ، وكتاب الخليل في العين ، ونحن نفخر بسبعة وعشرين ألف مسألة في الحلال والحرام عملها رجل من أهل الكوفة يقال له محمد بن الحسن الشيباني قياسيّة عقليّة لا يسع الناس جهلها (19).
وقد ألّف كتاب « الجامع الصغير » عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ، و « الجامع الكبير » ، وله مؤلّفات فقهيّة أخرى ، منها : « المبسوط في فروع الفقه » و « الزيادات » و « المخارج من الحيل » و « الأصل » و « الحجّة على أهل المدينة » وغيرها من الكتب (20).
فهذا حال التدوين عند أصحاب أبي حنيفة والمسائل التي سار عليها طائفة كبيرة من المسلمين.
وبذلك اتضح لك دور السلطة في انتشار مذهب أو التعتيم على آخر ، وأن مهنة القضاء وتوجه الحكّام إلى البعض من العلماء كان له الدور الأكبر في تعرف الناس على ذلك المذهب أو الفقيه. وقد عرفت بأن ازدياد عدد أتباع هذا المذهب أو ذاك يرجع إلى العوامل الجانبيّة والسياسيّة لا المقومات الأساسيّة وقوّة دليل المذهب ، بل لمسايرته الساسة جنباً إلى جنب.
ولأجل تولّي مهنة القضاء والتقرّب إلى السلطان وغيره ترى الكثير من العلماء يتحوّلون من مذهب إلى آخر طلبا لرفد السلطان.
فهذا الأمير يلبغا بن عبد الله الخاصكي الناصري كان يتعصّب لمذهب أبي حنيفة ، ويعطي لمن تحوّل إليه العطاء الجزيل (21).
وقيل عن أبي البركات الحنفي : إنّه تحوّل إلى المذهب الحنبلي (22).
وأبو بكر البغدادي : إنّه تحوّل إلى الشافعي وولي القضاء.
وكان أبو المظفر يوسف بن فرغلي سبط ابن الجوزي حنبليّاً ، نقله الملك المعظّم إلى مذهب أبي حنيفة (23) ، وغيرهم.
إذن ، فمهنة القضاء كانت من المناصب التي يمكن اعتبارها إحدى أسباب التحول من مذهب إلى آخر.
مذهب الإمام مالك
بعد يأس المنصور من احتواء الإمام أبي حنيفة ، توجّه إلى الإمام مالك ليكتب له « الموطأ » ، وقال له : إنه سيحمل الناس على ذلك ، ويجعل العلم علماً واحداً !
وبعد وفاة المنصور تمكّن المهدي العبّاسي من احتواء كلا الخطين ، إذ أناط إلى أبي يوسف مهنة القضاء وقربه إليه ، في حين كان المنصور قبله قد كسب الإمام مالكاً ، وقد قرأت ذلك سابقاً وعرفت تفانيه في خدمة المنصور.
وقد نقل عن الإمام مالك أنه قال للمنصور : « لو لم يرك الله أهلاً لذلك ما قدر لك ملك أمر الأمّة ، وأزال عنهم الملك من بعد نبيّهم ولقرب هذا الأمر إلى أهل بيته. أعانك الله على ما ولاك وألهمك الشكر على ما خولك ، وأعانك على ما استرعاك »
واتّخاذ هذا الموقف من قبل مالك لصالح الحكّام جعل أستاذه ربيعة الرأي يبتعد عنه ويكرهه ، لأنّه كان لا يداهن السلطان ولا يرتضي التعامل معهم ، فلذلك هجر الناس ـ تبعاً للحكومة ـ ربيعة الرأي ، والتفوا حول مالك.
وعلى أيّ حال ، فقد اعتذر المنصور من مالك في سنة 150 أو 151 لما أصابه من الضرب على يد والي المدينة ، فقربه ولاطفه وطلب منه أن يؤلّف له كتاباً في الفقه ليكون المعوّل عليه عند المسلمين.
فقال : « يا عبد الله ، ضع هذا العلم ودونه ، وتجنّب فيه شواذ عبد الله بن مسعود ورخّص ابن عبّاس وشدائد ابن عمر ، واقصد إلى أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمّة والصحابة ، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار ، ونعهد إليهم ألّا يخالفوها ولا يقضوا بسواها » (24).
فاستجاب مالك لطلب المنصور ، وألّف « الموطأ » مع علمه بأن أهل العراق لا يستجيبون لما كتبه ، لكن المنصور طمأنه بأنّه سيحملهم عليها بالقوّة والسلطان !!
فصار « الموطأ » دستور الحكومة ، وأوّل كتاب دوّن في الحديث للدولة العباسيّة.
وقد روي أن أبا يحيى معن بن عيسى القزاز قرأ الموطأ على مالك للرشيد وبينه ، وكان القزاز هذا قد أخذ أربعين ألف مسألة عن مالك (25).
وأمر الرشيد عامله على المدينة بأن لا يقطع أمراً دون مالك ، واشتهر عن الرشيد أنّه كان يجلس على الأرض أمامه لاستماع حديثه.
قال ابن حزم : مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان ، مذهب أبي حنيفة ، فإنّه لما ولي أبو يوسف القضاء كان لا يولّي قاضياً إلّا من أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه ، والثاني مذهب مالك ... (26).
فلاحظ كيف صار فقه رسول الله يدوّن من قبل الحكّام الذين لا يهمّهم إلّا الحكم !!
وكيف استغلّوا الفقهاء لترجيح الآراء المخالفة لفقه الطالبيين وأنصار التعبّد المحض ، ليكون نهجاً في الحياة دون فقه أهل البيت.
وقد طمأن مالك المنصور بأن الفقه سيبقى في أيديهم وليس لأهل البيت نصيب فيه ، فجاء فيما قاله :
يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ، أما هذا الصقع فقد كفيتكه ، وأمّا الشام ففيه الرجل الذي علمته ـ يعني الأوزاعي. وأمّا أهل العراق فهم أهل العراق !!
وأن جملة « وأمّا الشام ففيه الرجل الذي علمته » تعني عداءه وبغضه لأهل البيت ، وأنّها هي المطلوبة ، أي أنّك قد حصلت على النتيجة دون مقدّمات. وقد عرف عن المنصور أنّه كان يعظّمه ويراسله لما عرف عنه من الانحراف عن آل محمّد.
قال الدهلوي في حجّة الله البالغة : « فأيّ مذهب كان أصحابه مشهورين وأسند إليهم القضاء والإفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس ، ودرسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض ، لم يزل ينتشر كلّ حين. وأيّ مذهب كان أصحابه خاملين ، ولم يولّوا القضاء والافتاء ، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين » (27).
هذا بالنسبة إلى المذاهب الحكوميّة ، أمّا مذهب أهل البيت فلم يكن يسمح بتداوله ، بل إن اتّباع هذا المذهب ، بممارساتهم الطقوس الدينيّة والعبادات الشرعيّة ، يعرفون أنّهم من المخالفين لنظام السلطة.
هذا وإن أشهر كتب المذهب المالكي هي : المدوّنة ، الواضحة ، العتيبة ، الموازنة.
لنرجع قليلاً وندرس هدف المنصور من توحيد الفقه وجعله فقهاً واحداً وهنا آراء عدّة :
أوّلها : حرص المنصور على الإسلام والدين حدا به أن يسعى لردم هوة الخلاف وتوحيد المذاهب في مذهب واحد !!
إلّا أن هذا الرأي منقوض بما عرف عن عدم تدين المنصور وشدّة ولعه بالدماء ، وعدم رعايته لما أوجبه الله ، بل تهتكه وإهانته للعلماء. ولو سلّمنا جدلاً بسلامة نيّته ، فلماذا يكون مذهب مالك هو المختار دون غيره ؟
ولم يكون مذهبه دون غيره مجزياً ومبرئاً للذمّة ، مع وجود فقهاء آخرين كربيعة الرأي مثلاً ؟
ولماذا نراه يعلم الإمام مالكاً ويرسم له طريق التدوين « تجنّب شدائد ابن عمر ، وشواذ ابن مسعود ، ورخص ابن عبّاس » إن كان مالك مختاراً ؟!!
ولماذا يقول له : « خذ بكلام ابن عمر وإن خالف عليّاً وابن عبّاس » ؟!
وغيرها.
ثانيها : المعروف أن المنصور طلب من مالك أن يدوّن الفقه لما علم من رسالة ابن المقفع إلى جمع من الصحابة ذاكراً فيها نقائص وعيوب نظام القضاء ـ في عهد المنصور بالقياس إلى ما كان في عهد الدولة الأمويّة ـ.
وهذا الرأي أيضاً لا يصمد للتحقيق والنقد ، إذ نراه يواجه نفس الإشكال السابق وهو فقدان المرجّح الذي يرجّح مذهب مالك على سائر المذاهب ، واختصاص كتابه « الموطأ » به مع وجود علماء كبار يشهد مالك بأنّهم أفضل منه وأعلم.
ثمّ إن خلل نظام القضاء يزعزع كيان الدولة ، فلو كان ذلك هو الباعث على طلب المنصور من مالك توحيد الفقه لكان الوقت أهمّ ما يراد اختزاله وعدم التفريط به ، إذ كان بإمكان المنصور جمع عدد كبير من الفقهاء لتعيين دستور فقهي موحّد للدولة بأسرع وقت ، لا أن يستغرق مالك عشر سنين أو أكثر لتدوين كتاب واحد ، والناس أحوج ما يكونون إليه.
فقد بدأ مالك بتأليف الموطأ سنة 148 هـ وانتهى منه سنة 159 هـ ، فلا يعقل أن يتعطل قضاء أكبر دولة ويبقى مختلاً كلّ هذه المدّة المديدة.
ثالثها : هو ما يوصلنا إليه البحث الموضوعي ، ويعضده ما نعرف من دهاء المنصور ومسلكه في التضليل ، وهو : أن المنصور خاف من انتشار مذهب أهل البيت بعد أن اجتمع بباب جعفر بن محمّد الصادق نحو أربعة آلاف راو يأخذون عنه العلم ، فخشي المنصور من ميل الناس إليه ، خصوصاً وأنّ آراءه وأفكاره ممّا يرتضيه المنطق والعقل وتستند إلى التقوى والورع ، وتؤكّد على عدم التعاون مع الحكّام ، بل رفض كلّ مبدأ فاسد ، وتدعو إلى العدل والصلاح.
وأنّ ذلك ممّا حدا بالحكّام أن يرجّحوا كفة أبي حنيفة ومالك ويتّخذوهما أئمّة دون غيرهم من الفقهاء ويؤكّدوا على الأخذ برأيهم ، واعتزال مذهب الصادق والباقر من أهل البيت ، لأن تقوية مدرسة أهل البيت يشكل خطراً على الدولة ويخرج الأمر من يد الحكّام ، إذ عرفوا أن حبس الصادق أو قتله لا يجدي نفعاً بعد شيوع فقهه في الناس ، فرأوا محاربة الفكر بالفكر والفقه بالفقه هي الخطوة الناجحة ، وبالفعل حقّقت هذه العمليّة أهدافها بعد حين ، خصوصاً مع ما عرف عن عامة الناس بأنّهم على دين ملوكهم !
ولا يسعني هنا إلّا أن أنقل كلاماً للدهلوي في حجّة الله البالغة ، مضمونه : إن أبا يوسف ومحمّد بن الحسن صارا يكبران في العيدين تكبير ابن عبّاس ، لأن هارون الرشيد كان يحب تكبيرة جدّه (28) !
وقد ذكر الشاطبي ـ في القسم الخامس من الموافقات « كتاب الاجتهاد » ـ ما صار إليه كثير من مقلدة الفقهاء بحيث صار أحدهم يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال (29) اتباعاً لغرضه وشهوته ، ثمّ ساق أحاديث في ذلك.
وقال الأستاذ السيد محمّد رشيد رضا في الاعتصام معلقاً على كلام الشاطبي : « ومن فروع هذه البدعة أن بعضهم يستحلّ أن يجعل المرجّح لأحد القولين في الفتوى ما يعطيه المستفتون من الدراهم ، فإذا جاء مستفتيان في مسألة واحدة فيها خلاف ، يطلب أحدهما الفتوى بالجواز أو الحلّ ، والآخر يطلب الفتوى بالمنع أو الحرمة ، يفتي من كان منهما أكثر بذلاً للمفتي ، فهو تارة يفتي بالحلّ وتارة يفتي بالحرمة. والقاعدة في ذلك ما صرّح به بعض الفقهاء في بعض الكتب التي تدرس في الأزهر « نحن مع الدراهم قلّة وكثرة » ! فإذا كان القولان المتناقضان صحيحين في المذهب ، جاز أن يكون السحت هو المرجح في الفتوى ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم (30).
وقال الشيخ محمّد بن عبد الله دراز شارح الموافقات : « بل أخرجوا الأمر عن كونه قانوناً شرعيّاً وعدوه متجراً ، حتّى كتب بعض المؤلّفين في الشافعيّة ما نصّه : « نحن مع الدراهم قلّة أو كثرة » » !
مذهب الإمام الشافعي
أمّا الإمام الشافعي ، فإنّه ارتبط بالفقه المالكي وحفظ الموطأ منذ صباه ، وأحبّ أن يتّصل بمالك فأخذ كتابا من والي مكّة إلى والي المدينة ليدخله على مالك ، فلمّا وصل إلى المدينة وقدم إلى واليها الكتاب ، قال الوالي : إن المشي ، من جوف المدينة إلى جوف مكّة حافياً راجلاً أهون عليّ من المشي إلى باب مالك ، فلست أرى الذلّ حتّى أقف على بابه.
يبدو من هذا الكلام أن الشافعي أراد الاتّصال بمالك بعد سطوع نجمه وارتقاء محلّه عند العباسيين ، بحيث أن والي المدينة يشعر بالذلّة والتصاغر أمام مالك والوقوف ببابه !
وقيل عن مالك أنه لما قرأ الكتاب ، قال : « سبحان الله ، أو صار علم رسول الله يؤخذ بالوسائل ».
فتهيبه الوالي أن يكلّمه ، ثمّ كلّمه الشافعي ، فرق له ووعده أن يأتي من بعد ليدرس عنده (31).
وقد طالت تلمذة الشافعي على يد مالك ما يقارب تسع سنين ، ثمّ إن الشافعي أملق أشدّ الإملاق بعد موت مالك فرجع إلى مكّة ، وصادف ذلك أن قدم إلى الحجاز والي اليمن ، فكلّمه بعض القرشيين ، فأخذه الوالي معه ، وأعطاه عملاً من أعماله ، وهي ولاية نجران.
ثمّ وشي به عند الرشيد بتهمة كونه ذا ميول علويّة ويحاول الخروج على الحكم ، فأرسلوه إلى بغداد مكبلا بالحديد ، فتبرّأ من تهمة انخراطه مع العلويين ، وأكّد إخلاصه للسلطة وشهد له صديقه محمّد بن الحسن الشيباني ـ الذي كان قد تعرف عليه عندما كان يدرس عند مالك ثلاث سنين ، ـ بأنّه ثقة ومن أتباع الدولة ، فخلى سبيله.
وبعد هذا توطدت علاقته وصلاته بالشيباني ، فأخذ يدرس عليه آراء أبي حنيفة في الرأي والقياس. لكن الخطيب البغدادي يحدّثنا عن اختلافهما في أهلالبيت ، فقال :
قال الشافعي : لم يزل محمّد بن الحسن عندي عظيماً جليلاً ، أنفقت على كتبه ستين ديناراً حتّى جمعني وإيّاه مجلس عند الرشيد ، فابتدأ محمّد بن الحسن فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ أهل المدينة خالفوا كتاب الله نصّاً ، وأحكام رسول الله (ص) وإجماع المسلمين.
فأخذني ما قدم وما حدث ، فقلت : ألا أراك قد قصدت لأهل بيت النبوّة ومن نزل القرآن فيهم وأحكمت الأحكام فيهم ، وقبر رسول الله (ص) بين ظهرانيهم ، عمدت تهجوهم ، أرأيتك أنت بأيّ شيء قضيت بشهادة امرأة واحدة قابلة حتّى تورث ابن خليفة ملك الدنيا ومالاً عظيماً ؟
قال : بعلي بن أبي طالب.
قلت : إنما رواه عن علي رجل مجهول يقال له عبد الله بن نجي ... إلى آخر الخبر (32).
إذن فالشافعي أخذ من كلا المدرستين ـ 1 ـ مدرسة الرأي والقياس ، بواسطة محمّد بن الحسن ، 2 ـ مدرسة الأثر ، من مالك بن أنس ـ ، فكان نتاجه مدرسة جديدة خاصّة به أشاعها في مصر بعدما عاد إليها من بغداد عام 199 هـ مع أميرها العبّاس بن عبد الله بن العبّاس.
والمعروف عن الإمام الشافعي أنّه قدم بغداد ثلاث مرّات :
الأولى : سنة 184 ، وكانت من اليمن بسبب اتّهامه بالميول العلويّة.
والثانية : سنة 195 ، بعد أن مات الرشيد.
والثالثة : سنة 198 ، ومنها خرج بصحبة والي مصر العبّاس بن عبد الله بن العبّاس إلى مصر. فنزل ضيفاً على محمّد بن عبد الله بن عبد الحكم ـ وكان من أكبر أنصار مذهب مالك ـ وكانت له مكانة ورياسة ، فأكرم مثوى الشافعي وآزره.
قال ابن حجر : « إن الرشيد سأل الشافعي أن يوليه القضاء ، فامتنع.
فقال : سل حاجتك.
قال : حاجتي أن أعطى من سهم ذوي القربى بمصر ، وأخرج إليها.
ففعل ذلك وكتب له إلى أميرها (33) ». وأنّه بدأ في تقوية بناء مدرسته ، فهاجم مالكاً لتركه الأحاديث الصحيحة لقول واحد من الصحابة أو التابعين أو لرأي نفسه ، وهاجم أبا حنيفة وأصحابه لأنّهم يشترطون في الحديث أن يكون مشهوراً ويقدمون القياس على خبر الآحاد وإن صحّ سنده ، وأنكر عليهم تركهم بعض الأخبار لأنّها غير مشهورة وعملهم بأحاديث لم تصحّ لأنّها مشهورة ، فاستاء منه المالكيّون وأخذوا يبتعدون عنه ، لأنّه أخذ يغير آرائه القديمة التي كان يقول بها سابقاً والتي كانت موافقة لرأي مالك في الغالب ـ ويرسم مكانها رأيه الجديد المتّخذ على ضوء القياس والرأي المخلوط بالأثر. ولما استقرّ مذهبه الجديد شغب عليه بعض عوام أصحاب مالك فقتلوه (34).
ومن الظريف هنا أن أنقل كلاماً عن الأستاذ علي فكري والذي مرّ اسمه في عهد علي بن أبي طالب وكيف كان يغيّر التراث ويختم على ما يصدر من دار الكتب ـ راجعته اللجنة المغيّرة للكتب ـ ، وملخص الكلام هو:
إن الأستاذ نسب في كتابه « أحسن القصص » إلى الشافعي أنّه دخل الكوفة واجتمع بأبي يوسف وجرت بينهما مناظرات ، وسافر إلى بلاد فارس وحولها من بلاد العجم ، ثمّ سافر إلى بلاد ربيعة ومضر وشمال العراق حتّى وصل إلى جنوب بلاد الروم ـ وهي الأناضول الآن ـ وعرج على حران وأقام زمنا ... إلى آخره.
في حين نعلم أن أبا يوسف القاضي قد توفي سنة 182 أيّ قبل ورود الشافعي إلى العراق في المرّة الأولى بعامين.
وكذا الحال بالنسبة إلى دخوله الكوفة ، فلم أعثر على نصّ يثبت ذلك ، وهكذا الحال بالنسبة إلى ما سرده من حديث عن رحلاته.
نعم ، لقد بات يرسم التراث رجال من أمثال علي فكري وأضرابه الذين هم في خدمة السلطان ومن يهمّه تحريف الحقائق أكثر من تدوين الوقائع ونقل الوثائق !
هذا ويحتمل كون بعض الطعون الواردة على الشافعي ، كعدم نقل البخاري ومسلم حديثاً عنه في صحاحهم ، وما نقله أحمد بن حنبل عن الشافعي وقوله :
أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منّا ، وقول أبي ثور : ما كان الشافعي يعرف الحديث ، وإنّما كنا نوقفه عليه ونكتبه (35) ، وغيرها .. طعونا عصبيّة ، فإن ترك البخاري ومسلم التحديث عن الشافعي لم يكن دليلاً على الجرح فيه ، إذ لم يكن ذلك دائراً مدار الواقع ، فإن الصحيح هو ما صحّ عندهما وإن كان مخالفاً للواقع ، فنراهما كثيراً ما يرويان عن أشخاص ضعاف أو عرفوا بالكذب ، واعتبرت تلك الروايات بمنزلة الصحاح ، وإن المؤاخذات على البخاري لم تنحصر بهذا فقط.
وعلى هذا يحتمل أن يكون عدم تحديث البخاري ومسلم ، وغيرها من الطعون المذكورة فيه ، إنّما جاءت لقوله : إن علي بن أبي طالب هو الإمام الحقّ في عصره ، وأن معاوية وأصحابه كانوا الفئة الباغية. وقد اتّخذ الشافعي في كتاب السير من فقهه سنة علي (ع) في معاملة البغاة ، وإظهاره حبّ آل محمّد رغم وقوف الحكام في طريق ذلك ، وقد اشتهر عنه قوله :
إن كان رفضاً حبّ آل محمّد |
فليشهد الثقلان إنّي رافضي |
فهذه المواقف كانت لا ترضي الحكّام ، وهي التي أوجدت نسبة تلك الطعون وأمثالها فيه.
مذهب الإمام أحمد بن حنبل
ولد الإمام أحمد بن حنبل في عهد المهدي سنة 164 هـ ، ونشأ ببغداد وتربى بها ، واتّجه إلى طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة ، ورحل إلى الأقطار ، وكتب عن الشيوخ ، وأخذ عن الشافعي واتّصل به اتّصالاً وثيقاً ، ولازمه مدّة إقامته في بغداد. وكان أوّل تلقيه العلم على القاضي أبي يوسف المتوفى سنة 182 ، وصرح أحمد بأنّه كان أوّل من كتب عنه الحديث ، إلّا أنّه لم يبق طويلاً معه ، وانصرف إلى فقه الأثر الذي كان يمثله هشيم بن بشير الواسطي ، ولازمه إلى أن توفّي هشيم سنة 183.
وقد أخذ عن كثير من المحدّثين ، وأخذ على نفسه أن يلتزم مدرسة الأثر ويخالف مدرسة الرأي والقياس ، فقرأ على محدّث البصرة عبد الرحمن بن مهدي الموطأ لمالك أربع مرّات ، وكان معجباً بالشافعي ، وتصدر للتحديث في مسجد الخيف سنة 198 ، وقيل : إنّه ما أفتى ولا درس حتّى بلغ سن الأربعين في سنة 204 هـ !!
وقد أيّد العباسيين منذ صباه ، فروى فيهم حديثين انفرد بهما ، يبشر فيهما بظهور أبي العبّاس السفاح والدولة العباسيّة وشعارها السواد (36) ، وكان يقول : « إن العبّاس أبو الخلفاء » (37).
وثبت على ولائه رغم ما أصابه من محنة خلق القرآن وضربه بالسياط. وقد استفتاه جماعة في الخروج على الواثق فرفض ذلك وأقر خلافته بقوله : « إن الخارج عليه شاق لعصا المسلمين ومخالف للآثار عن رسول الله ».
ويعزى تحرجه عن أخذ أموال بني العبّاس لكونها مغصوبة لا خدشة في مشروعيّة خلافتهم !
وكان يرى عليّاً رابع الخلفاء الراشدين ، في الوقت نفسه لم يلتزم أن يكون معاوية باغياً على الإمام علي ـ كما ذهب إليه الشافعي.
والجدير ذكره أن الإمام أحمد لم يشتهر كباقي أصحاب المذاهب ، ويرجع البعض سبب ذلك إلى أنّه كان محدّثا ولم يكن فقيهاً ، حتّى قيل أن ما شهرته كانت بسبب عدم قوله بخلق القرآن وقد قال بها بعدما ضرب ثمانية وثلاثين سوطاً أيّام المعتصم. ولما تولّى الواثق أعاد امتحان أحمد ، لكنّه لم يصبه بأذى ، واكتفى بمنعه من الاجتماع بالناس ، فأقام أحمد مختفياً لا يخرج إلى الصلاة ولا إلى غيرها حتّى مات الواثق.
وتولّى المتوكّل الخلافة سنة 232 هـ واشتدّت وطأته على العلويين ، وعرف ببغضه لأهل البيت ، وطرد المعتزلة من حاشيته ، ونكل بابن أبي داود ومحمّد بن عبد الملك الزيات وصادر أموالهم ، وأخذ يقرب أصحاب الحديث ويأمر المحدّثين أن يجلسوا للناس ويتحدّثوا إليهم ، وأعطاهم الأموال والمكانة ، حتّى أن ابن كثير نقل إنّ تولية يحيى بن أكثم كانت بمشورة الإمام أحمد بن حنبل (38) ، وفي نصّ آخر إن المتوكّل قال له : يا أحمد ، إنّي أريد أن أجعلك بيني وبين الله حجّة فأظهرني على السنّة والجماعة ، وما كتبته عن أصحابك عمّا كتبوه عن التابعين ممّا كتبوه عن أصحاب رسول الله (39).
وقد وشى البعض بأحمد عند المتوكّل بأنّه يشتم آباءه ويرميهم بالزندقة ، فأمر المتوكّل بضرب ذلك الرجل الواشي ، وعندما سئل عن ذلك قال :
« لأنّه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل » (40).
نعم ، لقد استمع المتوكّل إلى أقوال الجواسيس بأن أحمد يؤوي أحد العلويين الهاربين من المتوكّل ، فأمر بكبس داره وتفتيشها ، فلمّا تحقّقوا من كذب ذلك عفا عنه المتوكّل (41).
وكان المتوكّل يصله بصلات سنية ، ويعطف عليه ، وعين له في كلّ شهر أربعة آلاف درهم ، وطلبه إلى سامراء ليتبرّك برؤياه ، وينتفع بعلمه ، فامتنع أحمد ، ثمّ قبل ذلك (42).
وروي عنه أنه قال : « ما أرى الرافضة على الإسلام » (43).
فقد كسب عطف المتوكّل حتّى قيل : إنّ بعض أمراء المتوكّل قالوا له : إن أحمد لا يأكل لك طعاماً ولا يشرب لك شراباً ولا يجلس على فراشك ويحرم ما تشربه.
فقال المتوكّل لهم : والله لو نشر المعتصم وكلّمني في أحمد ما قبلت منه (44) !
في مثل تلك الظروف التي قمع فيها الشيعة والمعتزلة وقرب المحدّثين .. سطع نجم أحمد بن حنبل ، وألّف كتابه « المسند ». وكان إذا سئل عن حديث ، قال : « انظروا ، فإن كان في المسند فنعم ، وإلّا فليس بحجّة ».
وكان أحمد قد جمع المسند في أوراق منفردة ، وفرقه في أجزاء متفرّقة ، فمات قبل تنقيحه وتهذيبه ، فبقي على حاله ، ثمّ إن ابنه عبد الله ألحق به ما يشاكله وضمّ إليه من مسموعاته ما يشابهه ويماثله.
فإذا علمنا أنّ أحمد توفّي في خلافة المتوكّل ، وأنّه مات ولم ينقح مسنده ـ كما يقولون ـ علمنا أنّه ألّفه وجمعه في ظلّ العطف المتوكّلي ، وأنّه كما قدمنا استقى كثيراً من أحاديث الموطأ وسار على نهج مالك ، وقد اتّحد نتاجهما في كونهما كتبا أيّام العباسيين ، فمالك ـ كما عرفت ـ كتبها للمنصور ، وأحمد كتبها أيّام المتوكّل.
ولم يعرف عن أحمد كتاب في الفقه إلّا بعض الكراسات ، وقيل أنّه كان ينهى عن تدوين آرائه الفقهيّة ، لكن أصحابه كتبوا ذلك في أكثر من ثلاثين سفراً.
وقد نسبت إليه رسالة في الصلاة ، كتبها إلى إمام صلّى وراءه فأساء في صلاته ، والمناسك الكبير والمناسك الصغير.
وليس فيما كتب استنباط وإعمال فكر ، بل يغلب فيه الأثر.
بعد عرضنا السريع لنشوء المذاهب الأربعة ، نستطيع أن نفهم وبكلّ وضوح أن روايات الوضوء المرويّة في هذه الكتب هي نسخ متكرّرة من الوضوء العثماني والفقه المخالف لمدرسة التعبّد وما ذهب إليه علي بن أبي طالب وابن عبّاس.
لأنّ الفقه والرواية ـ كما قلنا ـ نشئا وترعرعا في أحضان الحكومتين الأمويّة والعباسيّة ، وقد وقفت على دورهم التخريبي في الشريعة واحتمائهم بالفقهاء وبعض التابعين ، لأبعاد الناس عن الأخذ بفقه علي ، إذ أنّهم كانوا يتصوّرون أن الأخذ بفقه علي هو مقدّمة لإبعادهم عن الحكم وتقرّب الناس إلى أهل بيت النبوّة ، وهذا ما كان يزعج الحكّام ولا يرضيهم ، فتراهم يؤكّدون على الأخذ بكلام ابن عمر وإن خالف عليّاً وابن عبّاس. وإليك نصّاً آخر :
دخل مالك بن أنس على المنصور فقال له : يا مالك ما لي أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول الله ؟
فقال مالك : يا أمير المؤمنين إنّه آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول الله (ص) فاحتاج الناس إليه ، فسألوه وتمسّكوا بقوله.
فقال : يا مالك عليك بما تعرف أنّه الحقّ عندك ، ولا تقلدن عليّاً وابن عبّاس (45).
بعد هذا لا يمكننا الاطمئنان إلى مرويّات هذه الكتب بلا تحقيق وتمحيص سنداً ودلالة وزيادة ونقيصة ، وبدون معرفة الملابسات التاريخيّة لصدور الأحكام ، لأن ما تحتوي عليه ممّا طالته السياسة. وقد عرفت أنّها تريد تدوين ما ترتضيه وترك ما لا ترتضيه.
الوضوء الثلاثي الغسلي في العصر العبّاسي
بعد أن أخذنا صورة عن تأسيس المذاهب الأربعة ، ووقفنا على أهداف الحكّام من احتواء الفقهاء ، وتدوين الفقه وحصره بهذه المذاهب ، لا بدّ من ملاحظة السير التاريخي لمسألة الوضوء في هذا العصر ، ولا بدّ من نقل آراء علماء المذاهب فيه رواية وفتوى ، ثمّ مقابلتها بآراء أئمّة مذهب التعبد المحض « مذهب أهل البيت » ، وتشخيص امتداد موارد الخلاف التي حدثت في عهد عثمان ، وما أضيف إليها من جزئيّات وفروع في العصور اللاحقة.
إن التثليث في غسل الأعضاء وغسل الأرجل كان المدار الأوّل للاختلاف بين المسلمين في عهد عثمان ، لكنا نراه يتطوّر ، فنرى ابن عمر يغسل رجليه سبع مرّات ويعتبر الوضوء هو الإنقاء.
ويروى عن معاوية أنّه توضّأ للناس ، فلمّا بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقّاها بشماله حتّى وضعها على وسط رأسه حتّى قطر الماء أو كاد يقطر ، ثمّ مسح من مقدّمه إلى مؤخّره ومن مؤخّره إلى مقدّمه (46).
أمّا مدرسة التعبّد المحض فلم ترتض هذا التغيير في الوضوء ، لأنّها تعتبر الوضوء من الأمور التوقيفيّة التعبديّة التي يجب فيها الرجوع إلى الشرع ، وأن الوضوء لم يكن عندهم هو الأنقاء حسب قول ابن عمر ، بل هو إتيان ما أمر به الله ، ونزل به القرآن ، وأكّد عليه الرسول. وقد وقفت سابقاً على كلام أنس بن مالك مع الحجاج وقوله : « نزل القرآن بالمسح » ، وكلام ابن عبّاس مع الربيع « أبى الناس إلّا الغسل ولا أجد في القرآن إلّا المسح » وغيرهم.
وتأكيد الجميع على لزوم اتباع ما نزل به الوحي وأتى به رسول الله على نحو السنّة.
أمّا ما رواه ابن عمر عن رسول الله أنّه (ص) قال لما أتى بالغسل الثالث « هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي » فليس فيه دلالة على كون الفعل قد جيء به على نحو السنّة ، بل هو أدلّ على عدم مشروعيّة هذا الفعل للناس واختصاصه به (ص) ، لإتيانه به بعد الثاني الذي هو فضل وقوله (ص) عنه : « يعطى عليه كفلين » أو « يؤجر عليه مرّتين » ، وهو معنى آخر للسنّة ، وتصريحه (ص) في الغسل الثالث : بقوله « هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي » لتدلّ على أنّها من مختصاته ، إذ لا معنى لفضل بعد فضل !! وعليه فإن هذا الحديث لنفي التثليث أدلّ من كونه دليلاً له.
أمّا موضوع أخذ معاوية غرفة ماء جديد في الوضوء « ووضعها على وسط رأسه حتّى قطر الماء أو كاد يقطر ، ثمّ مسح من مقدّمه إلى مؤخّره ومن مؤخّره إلى مقدّمه » فلم يشاهد في الوضوءات البيانيّة الأخرى ـ إلّا المحكي عن عبد الله ابن زيد ابن عاصم ، والربيع بنت معوذ ، وحتّى أن صحاح مرويّات الخليفة عثمان ليس فيها ذلك ـ وإنّا سنشير إلى كيفيّة نسبة هذا الخبر إلى عبد الله بن زيد والسير الفقهي لهذه المسألة وغيرها من التعريفات في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب ، لكن الذي يجب الإشارة إليه هنا هو : إن موضوع مسح الرأس قد تغيّر من أيّام معاوية وأخذ يفقد حكمه ، حتّى ترى فقهاء المذاهب اليوم يجوّزون غسل الرأس بدلا من مسحه ، وإن ذهب البعض منهم إلى القول بالكراهة !
بعد ذلك لا نرى للمسح حكماً الزاميّاً في وضوء مسلمي المذهب الأربعة اليوم (47) !
كانت هذه إشارة عابرة إلى هذا الأمر نترك تفصيلها إلى الأجزاء الأخرى من الكتاب.
ولنعد إلى أصل البحث وبيان الوضوء الثلاثي الغسلي عند أئمّة المذاهب :
1 ـ الفقه الحنفي
اتّفقت الحنفيّة على هذا الوضوء الثلاثي الغسلي والمراجع لكتبهم المهمّة كأحكام القرآن للجصاص « م 370 » ، وشرح معاني الآثار للطحاوي « م 321 » ، وبدائع الصنائع للكاساني « م 587 » ، وعمدة القارئ للعيني « م 855 » ، وشرح فتح القدير لابن همام « م 681 » ، والمبسوط للسرخسي « م 483 » ، والفتاوي الهنديّة وغيرها ، يقف على ما قلناه.
وإليك نصّاً أخذناه من كتاب المبسوط للسرخسي ، إذ مرّ عليك أن محمّد بن الحسن الشيباني صنف ما فرعه أبو حنيفة وأسمى كتابه « المبسوط » ، ثمّ اختصر محمّد بن أحمد المروزي ذلك الكتاب فسمّاه « بالمختصر » ، ثمّ جاء شمس الدين السرخسي فشرح المختصر وسمّاه « المبسوط ». ونحن نأخذ آراء أبي حنيفة من هذا الكتاب لما عرفت ، ونقتصر على نقل متن المختصر للمروزي إن لم نحتج إلى شرح السرخسي ، فقد جاء في الوضوء عنه :
« ثمّ يغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ يغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ يمسح برأسه وأذنيه مرّة واحدة ».
والمسنون في المسح مرّة واحدة بماء واحد عندنا ، وفي المجرّد عن أبي حنيفة ثلاث مرّات بماء واحد « ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ثلاثاً » (48).
2 ـ الفقه المالكي
نهجت المالكيّة نهج الخليفة عثمان بن عفان في الوضوء ، ومن يقرأ في كتبهم المهمّة يقف على هذه الحقيقة ، كأحكام القرآن للقرطبي « م 340 » ، وأحكام القرآن لابن العربي « م 543 » ، وبداية المجتهد لابن رشد « م 595 » ، وغيرها من كتبهم حتّى المدوّنة الكبرى والموطأ لمالك. وإليك نصّاً أخذناه من الموطأ « كتاب الطهارة ، الحديث الأوّل في باب العمل في الوضوء » :
« حدّثني يحيى بن مالك ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، أنّه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم ، وهو جد عمرو بن يحيى المازني ، وكان من أصحاب رسول الله : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ ؟.
فقال عبد الله بن زيد : نعم ، فدعا بوضوء ، فأفرغ على يده ، فغسل يديه مرّتين ، ثمّ تمضمض ، واستنثر ثلاثاً ، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ غسل يديه مرّتين إلى المرفقين ، ثمّ مسح رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدّم رأسه ثمّ ذهب بهما إلى قفاه ، ثمّ ردهما ، حتّى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ثمّ غسل رجليه » (49).
لم يوقت مالك في الموطأ غسلات الوضوء بمرّة ولا مرّتين ، ولا ثلاث مرّات ، ولم يبوب باباً في الافراد والتثنية والتثليث ، وإنّما اقتصر على هذه الرواية التي لم يرد فيها إلّا تثليث غسل الوجه وغسل الرجلين ، لكن ابن رشد والقرطبي المالكي قال : « اتّفق العلماء على الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرّة مرّة إذا أسبغ وأن الاثنين والثلاث مندوب إليها » (50).
فالمالكيّة استنتجوا من قول مالك وسائر المرويّات أن التثليث أيضاً مندوب إليه ، وأنّه وضوء مجز وإن كان يتحقّق فعله بواحدة على نحو الإسباغ.
ولابن العربي في أحكام القرآن تحقيق انفرد به ، وهو : « أن قول الراوي إن النبي (ص) توضّأ مرّتين وثلاثاً ، إنّه أوعب بواحدة ، وجاء بالثانية والثالثة زائدة ، فإن هذا غيب لا يدركه بشر ، وإنّما رأى الراوي أن النبي (ص) قد غرف لكلّ عضو مرّة فقال : توضّأ مرّة ، وهذا صحيح صورة ومعنى ، ضرورة إنّا نعلم قطعاً أنّه لو لم يوعب العضو بمرّة لأعاد ، وأمّا إذا زاد على غرفة واحدة في العضو أو غرفتين فإنّنا لا نتحقّق أنّه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة وجاء ما بعدها فضلاً ، أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنين حتّى زاد عليها بحسب الماء وحال الأعضاء في النظافة ، وتأتي حصول التلطف في إدارة الماء القليل والكثير عليها ، فيشبه ـ والله أعلم ـ أنّ النبي (ص) أراد أن يوسع على أمّته بأن يكرّر لهم الفعل ، فإن أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة ، فجرى مع اللطف بهم والأخذ لهم بأدنى أحوالهم إلى التخلّص ، ولأجل هذا لم يوقت مالك في الوضوء مرّة ولا مرّتين ولا ثلاثاً إلّا ما أسبغ.
قال : وقد اختلفت الآثار في التوقيت ، يريد اختلافاً يبيّن أن المراد معنى الإسباغ لا صورة الأعداد. وقد توضّأ النبي (ص) كما تقدّم ، فغسل وجهه بثلاث غرفات ، ويده بغرفتين ، لأن الوجه ذو غضون ودحرجة واحد يداب ، فلا يسترسل الماء عليه في الأغلب من مرّة ، بخلاف الذراع فإنّه مسطح فيسهل تعميمه بالماء وإسالته عليها أكثر ممّا يكون ذلك في الوجه.
فإن قيل : فقد توضّأ النبي (ص) مرّة مرّة وقال : « هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به » ، وتوضّأ مرّتين مرّتين وقال : « من توضّأ مرّتين مرّتين آتاه الله أجره مرّتين » ، ثمّ توضّأ ثلاثاً ثلاثاً وقال : « هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ، ووضوء أبي إبراهيم » ، وهذا يدلّ على أنّها أعداد متفاوتة زائدة على الإسباغ ، يتعلّق الأجر بها مضاعفاً على حسب مراتبها.
قلنا : هذه الأحاديث لم تصحّ ، وقد ألقيت إليكم وصيّتي في كلّ وقت ومجلس ألا تشتغلوا من الأحاديث لما لا يصحّ سنده ، فكيف ينبني مثل هذا الأصل على أخبار ليس لها أصل ، على أنّ له تأويلاً صحيحاً ، وهو أنّه توضّأ مرّة مرة وقال : « هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به » ، فإنّه أقل ما يلزم ، وهو الإيعاب على ظاهر هذه الأحاديث بحالها ، ثمّ توضّأ بغرفتين وقال : « له أجره مرّتين في كلّ تكلّف غرفة ثواب » ، وتوضّأ ثلاثاً وقال : « هذا وضوئي » ، معناه الذي فعلته رفقاً بأمّتي وسنّة لهم ، ولذلك يكره أن يزاد على ثلاث ، لأن الغرفة الأولى تسن العضو للماء ، وتذهب عنه شعث التصرّف ، والثانية ترحض ـ أيّ تغسل ـ وضر ـ الوضر : سوخ الدسم واللبن ـ العضو ، وتدحض وهجه ، والثالثة تنظفه ، فإن قصرت دربة أحد عن هذا كان بدوياً جافياً ، فيعلم الرفق حتّى يتعلّم ، ويشرع له سبيل الطهارة حتّى ينهض إليها ، ويتقدّم ، ولهذا قال من قال : « فمن زاد على الثلاث فقد أساء وظلم » (51).
قلت : لنا تحقيق آخر قريب لما قاله ابن العربي سنذكره في الفصل الأوّل من هذه الدراسة ، فتابع معنا.
3 ـ الفقه الشافعي
كتب علماء الشافعيّة كثيراً في الأحكام ، وبمراجعتنا لكتبهم المهمّة يمكننا الوقوف على وضوئهم ، وأنّه لا يختلف متأثّراً بما حكاه الخليفة عثمان بن عفان عن رسول الله. وأهمّ كتب الشافعيّة هي :
اختلاف العلماء للمروزي « م 294 » ، والأم للشافعي « م 204 » ، والمختصر للمزني « م 264 » ، ومعالم السنن للخطابي « م 388 » ، والمهذب للفيروز آبادي « م 476 » ، والمجموع للنووي « م 676 » ، وفتح الباري للعسقلاني « م 852 » ، وغيرها.
وقد حكى الشافعي ذلك الوضوء عن ابن عبّاس وأنّه قال : « توضّأ رسول الله (ص) فأدخل يده في الإناء فاستنشق وتمضمض مرّة واحدة ثمّ أدخل يده فصبّ على وجهه مرّة وصبّ على يديه مرّة ومسح برأسه وأذنيه مرّة واحد » (52).
ثمّ نقل بعدها رواية عن حمران مولى عثمان عن عثمان أنّه توضّأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً (53).
ثمّ قال الشافعي : وليس هذا اختلافاً ، ولكن رسول الله (ص) إذا توضّأ ثلاثاً وتوضّأ مرّة ، فالكمال والاختيار ثلاث ، واحدة تجزئ ، فأحبّ للمرء أن يوضئ وجهه ويديه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً ويمسح برأسه ثلاثاً ، ويعمّ بالمسح رأسه ، فإن اقتصر في غسل الوجه واليدين والرجلين على واحدة تأتي على جميع ذلك أجزأه ، وإن اقتصر في الرأس على مسحة واحدة بما شاء من يديه أجزأه ذلك. وذلك أقلّ ما يلزمه ، وإن وضأ بعض أعضائه مرّة وبعضها اثنين وبعضها ثلاثاً أجزاه ، لأن واحدة إذا أجزأت في الكلّ أجزأت في البعض منه.
ثمّ نقل رواية عبد الله بن زيد بن عاصم ، ثمّ قال بعدها : « ولا أحبّ للمتوضّئ أن يزيد على ثلاث ، وإن زاد لم أكرهه إن شاء الله » (54).
4 ـ الفقه الحنبلي
لا يختلف الوضوء عند الحنابلة في الأصول مع المذاهب الأخرى ، والكلّ يستقي مصدره عن الأحاديث السابقة الذكر. وقد مرّ كلام عن أسباب إحداث عثمان هذا الوضوء وكيفيّة تبني الحكّام للوضوء بغضاً للطالبيين ، وسبباً في التعرّف عليهم. وللإمام أحمد مضافاً إلى مسنده كتابان يمكن الرجوع إليهما لأخذ الأحكام منهما ، أحدهما مسائل ابنه عبد الله بن أحمد ، والآخر مسائل أحمد التي جمعها أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني.
علماً أنّ أشهر كتاب عند الحنابلة في الفقه هو المغني لابن قدامة « م 620 » ، والمحرر في الفقه لابن تيميّة « م 652 » ، والأنصاف للمرداوي « م 885 » ، وقد أخذنا بعض الروايات عن المسند لنقف على حقيقة الحال.
أخرج أحمد بسنده عن بسر بن سعيد عن عثمان أنّه توضّأ بالمقاعد وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ثلاثاً ، ثم مسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً (55).
وأخرى عن بسر بن سعيد عن عثمان أنّه توضّأ ثلاثاً ثلاثاً (56).
وروى أيضاً رواية أخرى عن حمران عن عثمان ، وأنّه غسل وجهه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرّات ، ثمّ مسح برأسه ... ثمّ غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرّات.
وثالثة عن حمران عن عثمان أنّه توضّأ بالمقاعد : ... فغسل ثلاثاً ثلاثاً.
وقد تتبعنا روايات عثمان في مسند أحمد ، فرأيناه ينقل المرويات الثلاثيّة عنه (ص) وليس فيها حتّى رواية واحدة أنّه (ص) توضّأ المرّة أو المرّتين. أمّا الروايات الثلاثيّة فهي أكثر من اثنتي عشرة رواية ، وفي بعضها أنّه مسح برأسه ثلاثاً وثلث غسل الرجلين ، اللهم إلّا رواية واحدة جاء فيها « ومسح برأسه وظهر قدميه » (57).
وفي الحديث الأوّل : « ثمّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً » (58).
فنلاحظ أنّ أحمد نقل الوضوء العثماني الموافق لرأي المتوكّل وحكومة بني العبّاس ، الذي هو امتداد لنهج الأمويين وعثمان بن عفّان.
وينسب هذا الوضوء كذلك إلى علي بن أبي طالب (59) ! ولا نريد أن نتّهم الإمام أحمد بالكذب أو الوضع ، فقد نقل الكثير من فضائل علي ، لكنّه والفقهاء الثلاثة الآخرين تتلمذوا في العهدين الأموي والعبّاسي ، وكانوا على اتّصال بالحكّام ، وأخذوا العلم عن أساتذة أمويين وعباسيين ، فكان ما تلقّوه ـ قد تأثّر بالحكّام ، فلا تراهم ينقلون رأي علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأوس بن أبي أوس وعباد بن تميم وغيرهم في الوضوء إلّا نادراً ، وفي أغلب الأحيان محرفاً.
فنلخص ممّا سبق وكما سترى ، أنّ المذاهب الأربعة تتّحد في وضوئها وتشترك فيما بينها في النقاط التالية :
1 ـ محبوبيّة الغسل الثالث في الأعضاء الغسليّة ، والتأكيد على أنّه سنّة رسول الله.
2 ـ لزوم غسل الأرجل وأنّ رسول الله قد فعله.
3 ـ غسل اليدين مع المرفقين.
4 ـ جواز غسل الرأس ، وإن ذهب البعض إلى كراهته !
أمّا أعضاء الوضوء وأركانه فهي عند المسلمين واحدة ـ اتباعاً للتنزيل ـ :
1 ـ غسل الوجه. 2 ـ غسل اليدين. 3 ـ مسح الرأس. 4 ـ الأرجل.
وإن اختلافهم في الأرجل هل تمسح أم تغسل ، وإنّ الرأس يمسح ببعضه أم كلّه و ..
تحصل ممّا سبق أنّ المذاهب الأربعة اتّفقت على تثليث الأعضاء الغسليّة ، وجواز غسل الرجلين ثلاثاً أيضاً.
وحتّى إنّنا نراهم يجوّزون غسل الرأس بدل المسح ، لكن البعض منهم ذهب إلى القول بالكراهة !
بذلك يمكننا أن نطلق على المدرسة الوضوئيّة في العهد العبّاسي الأوّل مدرسة « تثليث الغسلات وغسل الممسوحات ».
وقد تبيّن للمطالع أنّ علومهم أخذت تدوّن وتكثر تفريعاتها وتختلف طرق الاستدلال لها ، وتأصلت المذاهب فتوائيّاً بعد أن كانت روائيّاً ، وصيغت المسائل الشرعيّة بشكل فتاوى لا محيص عنها.
ففرائض الوضوء تكون عند الإمام أبي حنيفة أربعة :
1 ـ غسل الوجه.
2 ـ غسل اليدين مع المرفقين.
3 ـ مسح ربع الرأس ، ويقدر الربع بقدر الكفّ كلّها ، وإذا غسل رأسه مع وجهه أجزأه عن المسح ، ولكنّه يكره.
4 ـ غسل الرجلين مع الكعبين ، وقالوا : إن غسل العضو كلّه بالماء مرّة واحدة فرض والغسلة الثانية والثالثة سنّتان مؤكّدتان على الصحيح.
وأمّا فرائض الوضوء في مذهب المالكيّة ، فهي سبعة :
1 ـ النيّة.
2 ـ غسل الوجه.
3 ـ غسل اليدين مع المرفقين.
4 ـ مسح جميع الرأس ، وإذا غسل رأسه ، فإنّه يكفيه عن المسح إلّا أنّه مكروه.
5 ـ غسل الرجلين مع الكعبين.
6 ـ الموالاة.
7 ـ دلك الأعضاء الغسليّة ، وقالوا : إنّ الغسلة الثانية والثالثة في كلّ مغسول حتّى الرجلين يعد من الفضائل.
وهي في مذهب الشافعيّة ستّة :
1 ـ النيّة.
2 ـ غسل الوجه.
3 ـ غسل اليدين مع المرفقين.
4 ـ مسح بعض الرأس ولو قليلاً ، وإذا غسل رأسه بدل المسح أجزأه ، ولكنّه خلاف الأولى وليس بمكروه.
5 ـ غسل الرجلين مع الكعبين.
6 ـ الترتيب بين الأعضاء الأربعة المذكورة في القرآن.
وقالوا : إنّ الغسلة الثانية والثالثة سنّة مستحبة ، مندوب إليها ، وكلّها بمعنى واحد.
وهذه الفرائض في مذهب الحنابلة ستّة أيضاً :
1 ـ غسل الوجه.
2 ـ غسل اليدين مع المرفقين.
3 ـ مسح جميع الرأس ، وغسل الرأس يجزئ عن المسح وهو مكروه.
4 ـ غسل الرجلين مع الكعبين.
5 ـ الترتيب.
6 ـ الموالاة.
وقالوا : إنّ الغسلة الثانية والثالثة في المغسولات سنّة مستحبّة مندوب إليها ، وكلّها بمعنى واحد (60).
الهوامش
1. رجال كشي ص 312 رقم 564 ، التهذيب 1 : 82 / 214 ، الإستبصار 1 : 71 / 219. ، الوسائل 1 : 443.
2. وسائل الشيعة 1 : 405 ح 1052.
3. وسائل الشيعة 1 : 411 ح 1070 و 1072.
4. وسائل الشيعة 1 : 408 ح 1060 و 1061 و 1062.
5. وسائل الشيعة 1 : 412 ح 1071.
6. مستدرك الوسائل 1 : 327.
7. وسائل الشيعة 1 : 272 ح 712 عن التهذيب 1 : 22 / 56 و 45 / 127 ، الإستبصار 1 : 88 / 280 و 284.
8. تفسير العيّاشي 1 : 243 / 142.
9. مقاتل الطالبيين ، ص 192 و 194.
10. نقل الأستاذ ثامر العميدي آراء علماء أهل السنّة في التقيّة في كتابه « دفاع عن الكافي » 1 : 627 ـ 656.
11. آل عمران : 28.
12. أحكام القرآن ، للجصاص 2 : 9 ـ 10.
13. صحيح البخاري 8 : 20 ـ 21 كتاب الآداب ـ باب 40 ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب.
14. مقاتل الطالبيين : ص 415 ـ 416.
15. التهذيب 1 : 82 / 214 ، الإستبصار 1 : 71 / 219 ، وسائل الشيعة 1 : 443.
16. انظر : تاريخ الطبري 8 : 176 حوادث 169.
17. الإرشاد 2 : 227 ، المناقب ، لابن شهرآشوب 4 : 288 ، الخرائج والجرائح 1 : 335 / 26 ، أعلام الورى : ص 293 ، البحار 48 : 38 / 14 ، وسائل الشيعة 1 : 444 / 1173 ، جامع أحاديث الشيعة 2 : 291.
18. نقلنا النصّ عن نشوار المحاضرة 1 : 252 ، وانظر : وفيات الأعيان ذلك.
19. تاريخ بغداد 2 : 177.
20. الأعلام للزركلي 6 : 80.
21. شذرات الذهب 6 : 213 ـ 214.
22. انظر أخباره في كتب التراجم.
23. شذرات الذهب 5 : 267.
24. الإمامة والسياسة 2 : 150.
25. طبقات الفقهاء ، لأبي إسحاق الشيرازي : 148.
26. الأعيان وفيات 6 : 144.
27. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2 : 11 ، عن حجّة الله البالغة 1 : 151.
28. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2 : 166 ، عن حجّة الله البالغة 1 : 158.
29. الموافقات 4 : 98.
30. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، عن الإعتصام 3 : 268.
31. معجم الأدباء 17 : 287 ، مناقب الفخر الرازي : 10.
32. تاريخ بغداد 2 : 178.
33. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2 : 229 ، عن توالي التأسيس : 77.
34. معجم الأدباء 17 : 289.
35. البداية والنهاية 9 : 327 ، طبقات الحنابلة 1 : 282 ، آداب الشافعي : 95 .. اعتماداً على ما نقله أسد حيدر في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة عنها ، انظر 2 : 244.
36. البداية والنهاية 10 : 53 و 61.
37. إسلام بلا مذاهب ، للشكعة : 466.
38. البداية والنهاية 10 : 330.
39. التنبيه والرد ، لابن الحسين الملطي : 17.
40. البداية والنهاية 10 : 354.
41. مناقب أحمد ، لابن الجوزي : 36.
42. البداية والنهاية 10 : 350.
43. المناقب ، لابن الجوزي : 214.
44. البداية والنهاية 10 : 354.
45. انظر : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 504 ـ 505.
46. سنن أبي داود 1 : 31 / 124.
47. جاء في الفقه على المذاهب الأربعة ، للجزيري 1 : 57 عند بيانه وضوء الحنفية : « وإذا غسل رأسه مع وجهه ، أجزأه عن المسح ».
وعن وضوء المالكية 1 : 58 قال : « الفرض الرابع : مسح جميع الرأس من منابت شعر الرأس إلى نقرة القفا من الخلف » علماً بأنّهم يشترطون أخذ ماء جديد للرأس ، وبإمرار المكلّف يده من منابت الشعر إلى نقرة القفا يحصل الغسل !!
وقال عن وضوء الشافعيّة 1 : 61 « إذا غسل رأسه بدل مسحها ، فإنّه يجزئه ذلك ، ولكنّه خلاف الأولى. ».
أمّا عن وضوء الحنابلة 1 : 62 فقال : « وغسل الرأس يجزئ عن مسحها ، كما قال غيرهم ، بشرط إمرار اليد على الرأس ، وهو مكروه كما عرفت ».
48. المبسوط ، للسرخسي 1 : 6 ـ 8.
49. الموطأ لمالك 1 : 18 / 1.
50. بداية المجتهد 1 : 13.
51. أحكام القرآن ، لابن العربي 2 : 582 ـ 583.
52. الأم 1 : 31 ـ 32.
53. الأم 1 : 32.
54. الأم 1 : 32.
55. مسند أحمد 1 : 67.
56. مسند أحمد 1 : 67 ـ 68.
57. مسند أحمد 1 : 58.
58. مسند أحمد 1 : 67.
59. مسند أحمد 1 : 78 و 82 ، 103 ، 110 ، 114.
60. أخذنا فرائض الوضوء من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري : المجلّد الأوّل ـ باب الوضوء. فراجع.
مقتبس من كتاب : [ وضوء النبي (ص) ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 384 ـ 421
التعلیقات