المراسم الدينية عند الشيعة في بغداد
الشيخ علي الكوراني
منذ سنتينالمراسم الدينية عند الشيعة في بغداد
تكاثر الوجود الشيعي في بغداد مع سرعة عمرانها ، فسكن فيها كثير من شيعة الكوفة والمدينة وبلاد الشام وإيران ، ولم يمض قرن من الزمان حتى صاروا مع الشيعة السابقين جمهوراً واسعاً ، وبرزت منهم شخصيات علمية وسياسية .
وكانت أهم مواسمهم الدينية زيارة الإمام موسى الكاظم والجواد عليهما السلام في بغداد وزيارة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء . وكانوا يقيمون مراسم عاشوراء في محلاتهم فيعطلون أسواقهم ويرفعون أعلام السواد ، ويعقدون مجالس التعزية ، ينشدون فيها الشعر ويقرؤون فيها سيرة الحسين عليه السلام ومقتله .
وكان ذلك يثير المتعصبين فيعملون لمنع إقامة المآتم والزيارة ، ويحركون الحكومة ضدهم لتمنعهم ، فكانت تمنع إقامة مراسم عاشوراء في بعض السنوات فتحدث مصادمات بين الشرطة والشيعة . وكانت أحياناً لا تستجيب للحنابلة فيتصدون هم لمنعها بالقوة ، فتحدث مصادمات بينهم وبين الشيعة !
وكان مجسمة الحنابلة يكايدون الشيعة ، فيعلنون الفرح في محلاتهم ببغداد يوم عاشوراء ! تقليداً لبني أمية الذين جعلوه عيداً واحتفلوا فيه ، وأفتوا باستحباب توزيع الحلوى والتوسعة على العيال ، وأفتوا بصيامه شكراً لله على انتصار يزيد على الحسين عليه السلام ووضعوا أحاديث باستحباب الفرح يوم عاشوراء !
قال العجلوني في كشف الخفاء : 2 / 234 : « من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم ترمد عيناه ، رواه الحاكم والبيهقي في شعبه والديلمي عن ابن عباس ، رفعه . وقال الحاكم : منكر ، وقال في المقاصد : بل موضوع . وقال في اللآلئ بعد أن رواه عن ابن عباس من طريق الحاكم : حديث منكر ! والإكتحال لا يصح فيه أثر فهو بدعة ، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ، وقال الحاكم أيضاً : الإكتحال يوم عاشوراء لم يرو عن النبي (ص) فيه أثر ، وهو بدعة ابتدعها قتلة الحسين رضي الله عنه وقبحهم . نعم رواه في الجامع الصغير بلفظ : من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً .. وقال ابن رجب في لطائف المعارف : كل ما روى في فضل الإكتحال والإختضاب والإغتسال فيه موضوع لم يصح » .
ونص أحد فقهاء السنة على أن الفرح بعاشوراء بدعةٌ من يزيد وابن زياد !
قال البكري الدمياطي في إعانة الطالبين : 2 / 301 : « قال العلامة الأجهوري : أما حديث الكحل فقال الحاكم إنه منكر ، وقال ابن حجر إنه موضوع ، بل قال بعض الحنفية إن الإكتحال يوم عاشوراء لما صار علامةً لبغض آل البيت وجب تركه .
قال : وقال العلامة صاحب جمع التعاليق : يكره الكحل يوم عاشوراء ، لأن يزيداً وابن زياد اكتحلا بدم الحسين هذا اليوم ، وقيل بالإثمد ، لتقر عينهما بفعله » !
فكان حنابلة بغداد المتعصبون ومعهم بعض المسؤولين العباسيين يقلدون بني أمية في الفرح يوم عاشوراء !
ثم رأى أتباع بني أمية أن عملهم شماتة مفضوحة بآل النبي صلّى الله عليه وآله فاخترعوا صوم يوم عاشوراء شكراً لله على نجاة بني إسرائيل ليغطوا به على عيد يزيد !
ودونوه في صحيح بخاري ومسلم : « كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم ! فقال رسول الله (ص) : فصوموه أنتم » ( مسلم : 3 / 150 ، ونحوه بخاري : 2 / 251 ) .
والى الآن ما زلنا نرى في السعودية صوم الشكر ومظاهر الفرح بإقامة الأعراس في يوم عاشوراء ! وكل ذلك إرثٌ من بني أمية ومجسمة حنابلة بغداد !
وقد سجل المؤرخون حدوث اضطرابات سنوية في بغداد بسبب اعتداء الحنابلة أو السلطة على الشيعة لمنعهم من إقامة مراسم عاشوراء ، أو منعهم من زيارة الإمامين الكاظم والجواد عليهما السلام في بغداد ، والحسين عليه السلام في كربلاء .
قال الذهبي في تاريخه : 26 / 17 : « أحداث سنة أربع وخمسين وثلاث مائة : فيها عمل يوم عاشوراء ببغداد مأتم الحسين كالعام الماضي » .
وقال في حوادث سنة 355 : « أقيم المأتم يوم عاشوراء ببغداد على العادة » .
وقال في حوادث 382 : « فمنع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح ( شعارات السواد ) ، كان كذلك يعمل من نحو ثلاثين سنة » .
« في عاشوراء أغلق أهل الكرخ أسواقهم ، وعلقوا عليها المسوح وناحوا ، وذلك لأن السلطان انحدر عنهم فوقع القتال بينهم وبين السنة ثم أنزل المسوح وقتل جماعة » . ( تاريخ الذهبي : 29 / 5 ) .
« تقدم إلى أهل الكرخ أن لا يعملوا مأتماً يوم عاشوراء فأخلفوا ، وجرى بين أهل السنة والشيعة ما زاد على الحد من القتل والجراحات » . ( تاريخ الذهبي : 30 / 5 ) .
« وفي يوم عاشوراء أغلق أهل الكرخ الدكاكين وعلقوا المسوح ، وأقاموا المأتم على الحسين ، وجددوا ما بطل من مدة . فقامت عليهم السنة ، وخرج مرسوم الخليفة بإبطال ذلك ، وحبس جماعة مدة أيام » . ( تاريخ الذهبي : 30 / 291 ) .
وقال في الكامل في حوادث سنة 358 : « وفيها عمل أهل باب البصرة يوم السادس والعشرين من ذي الحجة زينة عظيمة وفرحاً كثيراً ، وكذلك عملوا ثامن عشر المحرم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء ، وسبب ذلك أن الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب وتعلق الثياب للزينة اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وهو يوم الغدير ، وكانوا يعملون يوم عاشوراء من المأتم والنوح وإظهار الحزن ما هو مشهور ، فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك بعد يوم الغدير بثمانية أيام مثلهم ، وقالوا هو يوم دخل النبي (ص) وأبو بكر الغار ، وعملوا بعدة عاشورا بثمانية أيام مثل ما يعملون يوم عاشوراء ، وقالوا هو يوم قتل مصعب بن الزبير » .
وفي تاريخ الذهبي : 39 / 5 : « ظهر في أيام عاشوراء من الرفض ببغداد أمر عظيم حتى سبوا الصحابة ، وكانوا في الكرخ إذا رأوا مكحلاً ضربوه » .
ولم يذكر الذهبي أن المكحلين والمخضبين كانوا من مجسمة الحنابلة يأتون الى أحياء الشيعة للتحدي ، فقد روى الصفدي في الوافي ( 11 / 300 ) قول أبي الحسين الجزار :
« ويعود عاشوراء يذكرني |
رزء الحسين فليت لم يعدِ |
|
فليتَ عيناً فيه قد كُحلتْ |
بمسَرَّةٍ لم تَخْلُ من رمدِ |
|
ويداً به لشماتةٍ خُضِبَتْ |
مقطوعةً من زندها بيدي » |
ثم أخذت السلطة تستدعي علماء سنيين معتدلين للخطابة في بغداد ، ليجمعوا الشيعة والسنة على حب أهل البيت عليهم السلام والترضي على أبي بكر وعمر ، وقد سجل المؤرخون خبر مجالس ابن الجوزي الكبيرة ، الذي كان يروي فيها مناقب أهل البيت عليهم السلام ويترضى عن الشيخين وعن الإمام الحسين عليه السلام ويلعن يزيد ومن شاركه في قتل الحسين عليه السلام ، وقد ألف كتاباً في جواز لعن يزيد .
قال ابن الجوزي عن سنة 568 : « جلست يوم عاشوراء بجامع المنصور ، فحضر من الجمع ما حزر بمائة ألف » ( تاريخ الذهبي : 39 / 43 ) . وقال : « تقدم إليَّ بالجلوس تحت المنظرة ، فتكلمت في ثالث المحرم والخليفة حاضر ، وكان يوماً مشهوداً . ثم تقدم إليَّ بالجلوس يوم عاشوراء فكان الزحام شديداً زائداً على الحد ، وحضر أمير المؤمنين » . ( تاريخ الذهبي : 40 / 5 ) .
ولم تعجب هذه المجالس الذهبي فقال في تاريخه ( 41 / 368 ) عن أحمد بن إسماعيل بن يوسف القزويني ، إمام الشافعية : « قال ابن النجار : كان رئيس أصحاب الشافعي وكان إماماً في المذهب والخلاف والأصول والتفسير والوعظ ... وكان يجلس بالنظامية وبجامع القصر ويحضر مجلسه أمم .. ولما ظهر التشيع في زمان ابن الصاحب التمس العامة منه يوم عاشوراء على المنبر أن يلعن يزيد فامتنع ، ووثبوا عليه بالقتل مرات فلم يُرَعْ ولا زلَّ له لسان ولا قدم وخلص سليماً . وفي أيام مجد الدين بن الصاحب صارت بغداد كالكرخ وجماعة من الحنابلة تشيعوا ، حتى أن ابن الجوزي صار يسجع ويلغز إلا رضي الدين القزويني فإنه تصلب في دينه وتشدد » يقصد الذهبي أن ابن الجوزي مال الى الشيعة ، ولا يصح قوله ، بل كان ابن الجوزي يعتقد بجواز لعن يزيد ، وألف كتاباً في ذلك .
وفي النهاية لابن كثير : 12 / 33 : « وفيها ( سنة 420 ) ورد كتاب من محمود بن سبكتكين أنه أحلَّ بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلاً ذريعاً وصلباً شنيعاً ، وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي ، فحصل منها ما يقارب ألف ألف دينار .. وفي هذا اليوم جمع القضاة والعلماء في دار الخلافة ، وقرئ عليهم كتاب جمعه القادر بالله ، فيه مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل البصرة ، وفيه الرد على أهل البدع ، وتفسيق من قال بخلق القرآن ...
وفي يوم الإثنين غرة ذي القعدة جمعوا أيضاً كلهم ، وقرئ عليهم كتاب آخر طويل يتضمن بيان السنة والرد على أهل البدع ... وذكر فضائل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، ولم يفرغوا منه إلا بعد العتمة ، وأخذت خطوطهم بموافقة ما سمعوه . وعزل خطباء الشيعة وولى خطباء السنة ، ولله الحمد والمنة على ذلك وغيره . وجرت فتنة بمسجد براثا وضربوا الخطيب السني بالآجر ، حتى كسروا أنفه وخلعوا كتفه ، فانتصر لهم الخليفة وأهان الشيعة وأذلهم » !
وقال ابن خلدون ( 4 / 477 ) : «كانت مدينة بغداد قد احتفلت في كثرة العمران بما لم تنته إليه مدينة في العالم منذ مبدأ الخليقة فيما علمناه ... وربما حدثت الفتن من أهل المذاهب ومن أهل السنة والشيعة ، من الخلاف في الإمامة ومذاهبها ، وبين الحنابلة والشافعية وغيرهم ، من تصريح الحنابلة بالتشبيه في الذات والصفات ونسبتهم ذلك إلى الإمام أحمد وحاشاه منه ، فيقع الجدال والنكير ، ثم يفضي إلى الفتنة بين العوام ، وتكرر ذلك منذ حُجِر الخلفاء .
ولم يقدر بنو بُويَهْ ولا السلجوقية على حسم ذلك منها ، لسكنى أولئك ( البويهيين ) بفارس وهؤلاء ( السلاجقة ) بأصبهان ، وبعدهم عن بغداد ، وإنما تكون ببغداد شحنة ( حامية عسكرية ) تحسم ما خف من العلل ، ما لم ينته إلى عموم الفتنة » .
مقتبس من كتاب : [ الإمام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد ] / الصفحة : 21 ـ 26
التعلیقات