أقوال العلماء السنيين في سبب نزول آية الأمر بالتبليغ وتفسيرها
مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
منذ سنتينأقوال العلماء السنيين
اختلف المفسرون والفقهاء السنيون في سبب نزول الآية وفي تفسيرها ، على أقوال عديدة ، أهمها سبعة أقوال ، أحدها موافقٌ لتفسير أهل البيت عليهم السلام ، وستة مخالفة .. ونورد فيما يلي الأقوال المخالفة مع مناقشاتها :
القول الأول
أنها نزلت في أول البعثة ، حيث خاف النبي صلّى الله عليه وآله على نفسه فامتنع عن تبليغ الاسلام ، أو تباطأ ! فهدده الله تعالى وطمأنه .. فقام النبي صلّى الله عليه وآله بالتبليغ !
وهذا يعني أن الآية نزلت قبل 23 سنة من نزول سورة المائدة !
وقد ذكر الشافعي هذا التفسير بصيغة ( يقال ) مما يدل على أنه غير مطمئن اليه قال في كتاب الأم : 4 / 168 :
قال الشافعي رحمه الله : ويقال والله تعالى أعلم : إن أول ما أنزل الله عليه : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين ، فمرت لذلك مدة . ثم يقال : أتاه جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم الى الإيمان به فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يتناول ، فنزل عليه : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فقال يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حين تبلغ ما أنزل إليك ما أمر به ، فاستهزأ به قوم فنزل عليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . انتهى .
ويكفي للرد على هذا القول :
أولاً ، أن الآية في سورة المائدة ، وقد عرفت أنها آخر ما نزل من القرآن أو على الأقل من آخر ما نزل ، بينما يدعي هذا القول أن الآية من أوائل ما نزل !!
وثانياً ، أن الشافعي قد ضعف هذا الوجه ، لأنه نقله بصيغة يقال ويقال ، ولم ينسبه الى النبي صلّى الله عليه وآله ، بل لم يتبناه .
وثالثاً ، أنه لا يمكن قبول هذه التهمة السيئة للنبي صلّى الله عليه وآله بأنه تلكأ أو امتنع عن تبليغ رسالات ربه ، بسبب خوفه من التكذيب والأذى والقتل ، حتى جاءه التهديد الإلۤهي بالعذاب ، والتأمين من الأذى ، فتحرك وبلغ !!
فهذا التصور لا يناسب شخصية المسلم العادي ، فضلاً عن النبي المعصوم صلّى الله عليه وآله الذي هو أعظم الناس إيماناً وشجاعةً .
كما تعارضه الآيات التي تصف حرصه صلّى الله عليه وآله على تبليغ الرسالة ، وهداية الناس أكثر مما فرض الله تعالى عليه .
روايات ( يقال ) التي ذكرها الشافعي
ـ قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 298
أخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً ، وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني ، فأنزل : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ . ( وكذا في أسباب النزول : 1 / 438 )
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشاً فأنزل الله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فاستلقى ثم قال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثاً .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : لما نزلت : بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ، قال : يا رب إنما أنا واحدٌ كيف أصنع يجتمع علي الناس ؟! فنزلت : وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ! . انتهى .
ـ ورواه الواحدي في أسباب النزول : 1 / 139 ، والطبري في تفسيره : 6 / 198
ـ وقال النيسابوري في الوسيط : 2 / 208 : وقال الأنباري : كان النبي صلّى الله عليه وآله يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة ، ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من شر المشركين اليه والى أصحابه ... انتهى .
ويكفي لرد هذه الروايات مضافاً الى أن الآية جزء من سورة المائدة التي نزلت قبيل وفاته صلّى الله عليه وآله ، أنها روايات غير مسندة ، بل هي قولٌ للحسن البصري ومجاهد وابن جريح وأمثالهم ، لا أكثر . وستعرف أن الحسن البصري يقصد رسالةً معينة ، وأنه أخذ هذا التعبير من خطبة النبي صلّى الله عليه وآله في يوم الغدير ، وخاف أن يرويها على حقيقتها !
روايات ( يقال ) تتحول الى رأي يتبناه العلماء !
مع أن المفسرين يعرفون أن الآية نزلت في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وآله ، ويعرفون أن تفسيرها بحدث في أوائل البعثة إنما هو قول مفسرين من متفقهة التابعين في العصر الأموي ، أو روايات ضعيفة السند . لكن مع ذلك .. تراهم يفسرونها بهذا الوجه ويقدمون نزول الآية جهاراً نهاراً 23 سنة ! ويزداد تعجبك عندما ترى منهم مفسرين محترمين مثل الزمخشري والفخر الرازي !
والسبب في ذلك أنهم يريدون الفرار من تفسيرها ببيعة الغدير ، ولا يجدون مفراً إلا بأحد أمرين :
إما تفسيرها بأول البعثة والقول بأن النبي صلّى الله عليه وآله خاف وتباطأ في تبليغ الرسالة فهدده الله تعالى وطمأنه بالعصمة من الناس ! وإما تفسيرها بروايات رفع الحراسة المزعومة التي لا يؤيدها التاريخ ، ولا يساعد عليها نص الآية ، كما سترى .
ـ قال الزمخشري في الكشاف : 1 / 659
والله يعصمك : عِدَةٌ من الله بالحفظ والكلاءة ، والمعنى : والله يضمن لك العصمة من أعدائك ...
فإن قلت : أين ضمان العصمة ، وقد شُجَّ في وجهه يوم أحد ؟! ... قلت المراد : أنه يعصمه من القتل ! .
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله : بعثني الله برسالته فضقت ذرعاً ، فأوحى الله الي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك ، وضمن لي العصمة فقويت . انتهى . ونحوه في الوسيط : 2 / 208
ـ وقال الرازي في تفسيره : 6 جزء 12 / 48 ـ 50
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ... روي عن الحسن عن النبي صلّى الله عليه وآله قال : إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني ، واليهود والنصارى ، وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية ، زال الخوف بالكلية ....
في قوله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ سؤال : وهو كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه شج وجهه ، وكسرت رباعيته .
والجواب من وجهين : أحدهما أن المراد يعصمه من القتل ... وثانيها : أنها نزلت بعد يوم أحد . انتهى .
ومما يلاحظ على الرازي أنه قد لم يراعِ الأمانة في النقل ، فقد حشر في نقله عن الحسن البصري اليهود والنصارى ، لأنه يريد تفسير الآية بالعصمة من اليهود والنصارى ، ويبعدها عن قريش !! ولا نلومه على حبه لقريش ولجده أبي بكر بن أبي قحافة ، ولكن نطالبه بالأمانة العلمية ! فقد تتبعت المصادر التي نقلته عن البصري فلم أجد ذكراً لليهود والنصارى ! وستعرف أن البصري أخذ روايته من حديث الغدير !!
وقد شت ابن كثير كثيراً ، فزاد على الرازي وغيره ، قال في البداية : 3 / 53 :
روى ابن أبي حاتم في تفسيره ، عن أبيه ، عن الحسن بن عيسى بن ميسرة الحارثي ، عن عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي : لما نزلت هذه الآية : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبناً ، وادع لي بني هاشم ، فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل ، أو أربعون ورجل ، فذكر القصة نحو ما تقدم ، الى أن قال : وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال : أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ؟ قال فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله ، قال : وسكتُّ أنا لسن العباس .
ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس ، فلما رأيت ذلك ، قلت : أنا يا رسول الله ! قال : أنت ...
ومعنى قوله في هذا الحديث : من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ، يعني إذا مت ، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة الى مشركي العرب أن يقتلوه ، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله ، ويقضي عنه ، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . الآية .
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو الى الله تعالى ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ، لا يصرفه عن ذلك صارف ، ولا يرده عن ذلك راد ، ولا يصده عنه ذلك صاد ، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج ... انتهى . وذكره بلفظه تقريباً في السيرة : 1 / 460
ويلاحظ أنه خلط في كلامه كثيراً ، وتعصب أكثر ..
قد بتر حديث ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) وحذف منه اختيار النبي صلى الله عليه وآله خليفته من عشيرته الأقربين بأمر ربه تعالى ، وأورد بدله حديثاً محرفاً ، وفسر الحديث المحرف بأن النبي صلى الله عليه وآله كان يخاف أن يقتله القرشيون ، فطلب من بني هاشم شخصاً يكون خليفته في أهله ويقضي دينه ، فقبل ذلك علي عليه السلام ، ثم انتفت الحاجة الى ذلك بنزول الآية !!
لقد تجاهل ابن كثير أن النبي صلّى الله عليه وآله كان مأموراً في تلك المرحلة بدعوة عشيرته الأقربين فقط ، ولم يكن مأموراً بعدُ بدعوة قريش وبقية الناس ! فلا محل لما حبكته الرواية من خوفه من القتل والأذى !
ثم إن ابن كثير تفرد بربط آية العصمة بآية الأقربين ، ولم أجد أحداً سبقه اليه ، ولا ذكر من أين أخذه ؟!
وكأن المهم عنده أن يحرِّف كلام النبي صلّى الله عليه وآله في حديث الدار ونصه على أن علياً أخوه ووزيره وخليفته من بعده ! ويبعد الآية عن سورة المائدة ويوم الغدير !!
وهذا قليلٌ من كثير من عمل ابن كثير ، وإليك الحديث الذي بتره :
ـ قال الأميني في الغدير : 1 / 207 :
وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي :
قال في تاريخه : 2 / 217 من الطبعة الأولى :
إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟
قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت ـ وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً ـ : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه .
فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع .
ـ وقال الأميني : 2 / 279 :
وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الاسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي المتوفى 240 في كتابه نقض العثمانية ، وقال : إنه روي في الخبر الصحيح .
ورواه الفقيه برهان الدين في أنباء نجباء الأبناء / 46 ـ 48
وابن الأثير في الكامل 2 / 24
وأبو الفدا عماد الدين الدمشقي في تاريخه 1 / 116
وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض 3 / 37 ( وبتر آخره ) وقال : ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح .
والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره / 390
والحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6 / 392 نقلاً عن الطبري
وفي / 397 ، عن الحفاظ الستة : ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي .
وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3 / 254 . انتهى .
ثم شكا صاحب الغدير من تحريف الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش ، ومنهم الطبري ، الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه ، لكنه أبهم كلام النبي صلّى الله عليه وآله في حق علي عليه السلام ، فقال : ثم قال : إن هذا أخي وكذا وكذا . وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 40 ، وفي تفسيره : 3 / 351 . انتهى .
القول الثاني
أنها نزلت في مكة قبل الهجرة بدون تحديد ، فاستغنى بها النبي صلّى الله عليه وآله عن حراسة عمه أبي طالب ، أو عمه العباس !
وهذا القول هو المشهور في مصادر السنيين ، ورواياته نوعان : نوعٌ نص على تاريخ نزولها تصريحاً أو تلويحاً ، وأنه في مكة .
ونوعٌ لم يصرح بذلك ولم يربط نزولها بحراسة أبي طالب أو العباس ، ولكنه ربطه بإلغاء النبي صلّى الله عليه وآله لحراسته فحملناه عليه ، لأن أصله رواية الترمذي عن عائشة ، وقد فهم منها البيهقي وغيره أنها تقصد مكة ، كما ستعرف .
فالنوع الأول : كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور : 2 / 298 ـ 299 ، قال :
أخرج ابن مردويه والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي آية أنزلت من السماء أشد عليك ؟
فقال : كنت بمنى أيام الموسم ، واجتمع مشركوا العرب وأفناء الناس في الموسم فنزل علي جبريل فقال : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . قال فقمت عند العقبة فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ؟ .
أيها الناس قولوا لا إلۤه إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجوا ، ولكم الجنة . قال فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهى ، ويقولون كذاب صابىٔ ، فعرض علي عارضٌ فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم ، كما دعا نوح على قومه بالهلاك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني الى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه .
قال الأعمش : فبذلك تفتخر بنو العباس ....
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت والله يعصمك من الناس ، فذهب ليبعث معه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي الى من تبعث !!
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه ، فقال : يا عم إن الله عصمني لا حاجة الى من تبعث ! انتهى . والرواية في معجم الطبراني الكبير : 11 / 205
ـ وفي مجمع الزوائد : 7 / 17 :
قوله تعالى : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس . رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه عطية العوفي وهو ضعيف .
وعن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم ، حتى نزلت هذه الآية : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني من الجن والإنس .
رواه الطبراني وفيه النضر بن عبد الرحمن وهو ضعيف .
والنوع الثاني : أصله ما رواه الترمذي في سننه : 4 / 317 : عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس ، حتى نزلت هذه الآية : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا ، فقد عصمني الله . هذا حديث غريب .
وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، ولم يذكروا فيه عن عائشة . انتهى .
ـ ورواه الحاكم في المستدرك : 2 / 313 عن عائشة أيضاً وقال عنه : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . انتهى .
والظاهر أن حديث عائشة يقصد أن الآية نزلت في مكة أيضاً ومعنى ( فأخرج رأسه من القبة ) أي من الخيمة التي كان فيها ، وقال لحراسه انصرفوا .
ويؤيد ذلك أن البيهقي رواه في سننه : 9 / 8 وعقب عليه بقول الشافعي المتقدم فقال : قال الشافعي : يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حتى تبلغهم ما أنزل اليك فبلغ ما أمر به فاستهزأ به قوم فنزل : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين . انتهى .
ويؤيده أيضاً أن المراغي نقل في تفسيره : 2 جزء 4 / 160 رواية السيوطي الأولى عن ابن مردويه عن ابن عباس ، ورواية الطبراني أيضاً ثم قال : روى الترمذي وأبو الشيخ .... أن النبي صلّى الله عليه وآله كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية ...
وكذلك ذكر غيره ، مع أنه لا يوجد في رواية عائشة في الترمذي ما يدل على أنها تقصد مكة ، فلعل كلمة في مكة حذفت من نسخة الترمذي الفعلية !
ـ وقال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 291 عن حديث عائشة :
وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل ، وابن مردويه ، عن عائشة ...
وروى السيوطي عدة روايات بنفس مضمونه عن غير عائشة ، وبعضها قد يفهم منه أن نزول الآية في المدينة ، فجعلناه في القول الثالث .
قال في الدر المنثور : 2 / 298 ـ 299 : وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس .
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي ذر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام إلا ونحن حوله من مخافة الغوائل ، حتى نزلت آية العصمة : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . انتهى .
وقد أخذ بهذا القول كثير من المفسرين والمؤلفين في السيرة فقد ذكره الزمخشري في الكشاف : 1 / 659 ، وكأنه قبله ، وكذلك فعل الرازي في تفسيره : 6 جزء 12 / 50 ! مع أنهما قالا كما رأيت بنزول الآية في مكة ! وبذلك يكونا حملا حديث عائشة على أول البعثة ، كما حملا قول الحسن البصري وأمثاله !
ـ وقد أخذ بهذا القول أيضاً السهيلي في الروض الأنف : 2 / 290 ، والقسطلاني في إرشاد الساري : 5 / 86 ، وابن العربي في شرح الترمذي : 6 جزء 11 / 174 ، والعيني في عمدة القاري 7 جزء 14 / 95 ، وابن جزي في التسهيل : 1 / 244 ، والنويري في نهاية الإرب : 8 جزء 16 / 196 ، و 19 جزء 18 / 342 ، والنيسابوري في الوسيط : 2 / 209 ، والدميري في حياة الحيوان : 1 / 79 .. وغيرهم ، وغيرهم .
ـ وممن أخذ بهذا القول صاحب السيرة الحلبية : 3 / 327 وقد اغتنم فرصة الآية وارتباطها بحراسة النبي صلى الله عليه وآله لإثبات فضيلة لأبي بكر بن أبي قحافة فقال : حراسه صلى الله عليه وآله قبل أن ينزل عليه قوله تعالى : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .... سعد بن معاذ حرسه ليلة يوم بدر ، وفي ذلك اليوم لم يحرسه إلا أبو بكر شاهراً سيفه حين نام بالعريش . انتهى .
وبذلك ناقض صاحب الحلبية نفسه وجاء بدليل على ضد مراده ، لأن إلغاء الحراسة إذا كان قبل الهجرة ، فلم تبق حاجة لحراسة أبي بكر وغيره في بدر !
على أن الظاهر أنه لم يكن للمسلمين عريشٌ في بدر ! وقد روى الحاكم رواية وصححها على شرط مسلم ، تذكر أن ثلث المسلمين حرسوا النبي صلّى الله عليه وآله في بدر ، وهو أمر معقول ، لأن المسلمين نزلوا بالعدوة القصوى وهي منطقة مكشوفة . قال الحاكم : 2 / 326 : عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال سألته عن الأنفال ، قال : فينا يوم بدر نزلت ، كان الناس على ثلاث منازل ، ثلثٌ يقاتل العدو ، وثلث يجمع المتاع ويأخذ الأسارى وثلث عند الخيمة يحرس رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلما جمع المتاع اختلفوا فيه .... فجعله الى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقسمه على السواء . انتهى .
ويدل على بطلان هذا القول : أولاً ، ما تقدم في القول الأول .
ثانياً : نفس روايات القول الثالث وغيره ، التي تنص على أن إلغاء الحراسة المزعوم حصل في المدينة ، وليس في مكة .
ثالثاً ، أن عمدة رواياته رواية القبة عن عائشة ، ورواية حراسة العباس .. أما الروايات الأخرى فكلها غير مسندة ، وغرض بعضها تقليل دور أبي طالب في نصرة النبي صلّى الله عليه وآله كما هو واضحٌ ، وأنه صلّى الله عليه وآله كان مستغنياً في مكة عن حراسة أبي طالب .
كما يلاحظ في الرواية الأولى أنها تريد إثبات فضيلة للعباس بأنه كان حارس النبي صلّى الله عليه وآله في مكة بدل أبي طالب ، وأنه هو الذي عصم الله به رسوله من الناس !
وقد كان دور العباس قبل الهجرة دوراً عادياً مثل بقية بني هاشم الذين تضامنوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وتحملوا معه حصار الشعب ، ولم يعرف عنهم أنهم أسلموا ، ولم يهاجروا معه الى المدينة مثل علي وحمزة .
ومن المعروف أن العباس قد أسر في بدر وأسلم عند فكاك الأسرى .
هذا مضافاً الى تضعيف الهيثمي وغيره لهذه الرواية ، وما تشاهده من ضعف متنها وركته .
ثالثاً : ما سيأتي في إثبات استمرار حراسته صلّى الله عليه وآله ونفي كل ما يدل على إلغائها ومن ذلك رواية القبة ، وسيأتي قول الألباني بعدم صحة نسبتها الى عائشة .
القول الثالث
أنها نزلت في المدينة بدون تاريخ ! فقد روى السيوطي عدة روايات تربط نزول الآية بإلغاء النبي صلّى الله عليه وآله للحراسة ، وليس فيها أن ذلك كان في مكة أو في المدينة ، ولكن يفهم من نص بعضها أو رواة بعضها ، أن نزولها كان في المدينة .
ـ قال في الدر المنثور : 2 / 298 ـ 299 :
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عصمة بن مالك الخطمي قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، حتى نزلت : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فترك الحرس .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ الى قوله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحرسوني ، إن ربي قد عصمني .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن شقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه ، فلما نزلت : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فخرج فقال : يا أيها الناس إلحقوا بملاحقكم ، فإن الله قد عصمني من الناس .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحارسه أصحابه ، حتى أنزل الله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فترك الحرس حين أخبره أنه سيعصمه من الناس .
وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه ، حتى نزلت هذه الآية : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ الآية ... انتهى .
ـ ورواه ابن شبة في تاريخ المدينة : 1 / 301 ، عن عبد الله بن شقيق وعن محمد بن كعب القرظي . ورواه الطبري في تفسيره : 6 / 199 ، عن عبد الله بن شقيق . وابن سعد في الطبقات : 1 جزء 1 / 113 . والبيهقي في دلائل النبوة : 2 / 180 .
ويدل على بطلان هذا القول وغيره من الأقوال التي ربطت نزول الآية بالحراسة :
أن من المجمع عليه في أحاديث سيرته صلّى الله عليه وآله أنه كان يطلب من قبائل العرب أن تحميه وتمنعه مما يراد به من القتل ، لكي يبلغ رسالة الله عز وجل ، وقد بايعه الأنصار بيعة العقبة على أن يحموه ويحموا أهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم .. فلو أن آية العصمة نزلت في مكة ، لما احتاج الى شئ من ذلك !
وسنذكر في آخر البحث أحاديث طلب النبي صلّى الله عليه وآله من الأنصار أن يحموه ويحرسوه ، وبيعتهم على ذلك !
ثم .. إن مصادر الحديث والتفسير والتاريخ مليئة بالروايات التي ذكرت حراسة النبي صلّى الله عليه وآله وأنها كانت في مكة والمدينة ، خاصة في الحروب ، الى آخر حياته صلّى الله عليه وآله !
ولذا يجب رفض كل الروايات التي زعمت أنه ألغى الحراسة قبل هذا التاريخ ، لأنها تدعي إلغاءها في السلم والحرب والسفر والحضر !
وقد تقدمت في رواية الحاكم أن ثلث المسلمين كانوا يحرسونه صلّى الله عليه وآله في بدر !
وقد روى أحمد : 2 / 222 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه ، حتى إذا صلى وانصرف اليهم فقال لهم ... الخ .
ورواه في كنز العمال : 12 / 430 ، عن مسند عبد الله بن عمرو بن العاص . وقال عنه في مجمع الزوائد : 10 / 367 : رواه أحمد ورجاله ثقات . انتهى .
وغزوة تبوك كانت في آخر سنة من حياته صلّى الله عليه وآله .
وفي الفصول التي عقدها المحدثون ، وكتَّاب السيرة لحراسته صلّى الله عليه وآله وقصصها ، وحراسه وأسمائهم وقصصهم .. ما يكفي لرد هذه المقولة !
والعجيب أنك ترى بعضهم يذكر كل ذلك عن الحراسة ، ثم يقول إنه صلّى الله عليه وآله ألغى الحراسة بعد نزول الآية في مكة قبل الهجرة ، أو بعد الهجرة ! وكأنه حلف يميناً أن يبعد آية العصمة من الناس عن يوم الغدير !!
ـ قال صاحب عيون الأثر في : 2 / 402
حرسه يوم بدر حين نام في العريش : سعد بن معاذ ، ويوم أحد : محمد بن مسلمة ، ويوم الخندق : الزبير بن العوام . وحرسه ليلة بنى بصفية : أبو أيوب الأنصاري بخيبر ، أو ببعض طريقها ، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني . وحرسه بوادي القرى : بلال ، وسعد بن أبي وقاص ، وذكوان بن عبد قيس . وكان على حرسه عباد بن بشر ، فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك الحرس !! . انتهى .
وقد حاول أن يجيب على حراستهم للنبي صلى الله عليه وآله في تبوك ، ففسر نص الحراسة بأنه يعني انتظارهم انتهاء صلاته !
قال في : 1 / 119 : وفي حديث عمرو بن شعيب : فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى ... والمراد والله أعلم : ينتظرون فراغه من الصلاة ! وأما حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين ، فقد كان انقطع منذ نزلت : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، وذلك قبل تبوك . والله أعلم . انتهى .
ولكنه تفسير مخالفٌ لنص الرواية في الحراسة !
وعلى كل حال ، فإن هذا القول بنزول الآية في المدينة يرد القول الأول الذي جعل تاريخ نزول الآية في مكة !
والنتيجة أن دعوى إلغائه صلى الله عليه وآله للحراسة لا دليل عليها من سيرته صلى الله عليه وآله ، بل الدليل على خلافها ، وأن بني هاشم كانوا يحرسونه في مكة حتى هجرته ، ثم كانوا هم وبقية أصحابه يحرسونه في المدينة ، الى آخر عمره الشريف .
وفي اعتقادي أن نفس محاولة تفسير الآية بإلغاء الحراسة دليلٌ على صحة تفسير أهل البيت عليهم السلام بأن الآية تقصد العصمة من الإرتداد ، فترى مخالفيهم يصرون على تفسيرها بالعصمة الحسية ويقعون في التناقض مع الواقع !
القول الرابع
أنها نزلت في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد حرب أحد .
ـ قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 291 : وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ الى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله .
فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي : أبا حباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو لك دونه !
قال : إذن أقبل ، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، الى أن بلغ الى قوله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... انتهى .
ويكفي في الدلالة على بطلان هذا القول ما تقدم في الحراسة ، ويضاف اليه أن روايته من كلام عطية بن سعد ولم يسندها الى النبي صلّى الله عليه وآله ، والآيات المذكورة فيها هي الآيات 1 الى 67 من سورة المائدة ، ولم يقل أحدٌ إن هذا الآيات نزلت في قصة ولاء ابن سلول لليهود ، الذي توفي قبل نزول سورة المائدة !
القول الخامس
أنها نزلت على أثر محاولة شخص اغتيال النبي صلّى الله عليه وآله ، وقد تناقضت رواياتهم في ذلك ، فذكر بعضها أن الحادثة كانت في غزوة بني أنمار المعروفة بذات الرقاع ، وأن شخصاً جاء الى النبي صلّى الله عليه وآله بقصد اغتياله وطلب منه أن يعطيه سيفه ليراه ، فأعطاه النبي صلّى الله عليه وآله إياه بكل سهولة ..! أو كان علقه وغفل عنه ، أو دلى رجليه في البئر الخ .
ـ قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 298 ـ 299
وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ! فقال غورث بن الحرث : لأقتلن محمداً ، فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال أقول له أعطنى سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به !
فأتاه فقال : يا محمد أعطني سيفك أشِمْهُ ، فأعطاه إياه فرعدت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حال الله بينك وبين ما تريد ، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ، الآية .
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ قال : الله ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثرت دماغه فأنزل الله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ !
وأخرج ابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم دوحة وأظلها فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة ، وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يمنعني منك ، ضع عنك السيف فوضعه ، فنزلت : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . انتهى .
وقال بعضهم : إن شخصاً أراد اغتيال النبي صلى الله عليه وآله فقبضوا عليه : ففي الدر المنثور : 2 / 299 : أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقيل هذا أراد أن يقتلك ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم ترع ، ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي .. انتهى .
* *
ومما يدل على بطلان هذا القول وأن الآية لم تنزل في قصة غورث أو شبهها :
أولاً ، أن غزوة ذات الرقاع أو بني أنمار كانت في السنة الرابعة من الهجرة ( سيرة ابن هشام : 3 / 225 ) وهو تاريخٌ قبل نزول سورة المائدة بسنوات ، كما أن بعض رواياتها بلا تاريخ ، وبعضها غير معقول !
ثانياً ، أن المصادر الأساسية التي روت قصة غورث وغزوة ذات الرقاع ، لم تذكر نزول آية العصمة فيها ، بل ذكر أكثرها تشريع صلاة الخوف والحراسة المشددة على النبي صلّى الله عليه وآله حتى في الصلاة ، وهو كافٍ لرد رواية نزول الآية فيها !
أما ابن هشام فقد ذكر أن الآية التي نزلت في قصة غورث هي قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ... ( سيرة ابن هشام : 3 / 227 ، تحقيق السقا ) ولكن ذلك لا يصح ، لأن تلك الآية من سورة المائدة أيضاً !
وأما البخاري وغيره فقد رووا فيها تشريع صلاة الخوف وتشديد الحراسة !
ـ قال في صحيحه : 5 / 53 :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه ، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه ، قال جابر فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا ، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً ! فقال لي من يمنعك مني ؟ قلت له : الله ، فها هو ذا جالسٌ ، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن أبى سلمة عن جابر قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلقٌ بالشجرة ، فاخترطه فقال له : تخافني ؟ فقال لا . قال فمن يمنعك مني ؟ قال الله . فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقيمت الصلاة ، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الاخرى ركعتين . وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر : اسم الرجل غورث بن الحرث . انتهى .
ـ وروى الحاكم نحوه : 3 / 29 ، وذكر فيه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله صلى بعد الحادثة صلاة الخوف بالحراسة المشددة ! وقال عن الحديث : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . وكذلك روى أحمد قصة غورث في : 3 / 364 ، و 390 ، وذكر فيها صلاة الخوف ولم يذكر نزول الآية ! وراجع أيضاً : 4 / 59 ، ورواها الهيثمي في مجمع الزوائد : 9 من / 8 ، وفيها تفصيلاتٌ كثيرة وليس فيها ذكر نزول الآية !!
ـ وروى الكليني صيغة معقولة لقصة غورث ، قال في الكافي : 8 / 127 :
أبان عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد ، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه ، فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل ، فقال رجل من المشركين لقومه : أنا أقتل محمداً ، فجاء وشد على رسول الله صلّى الله عليه وآله بالسيف ثم قال : من ينجيك مني يا محمد ؟ فقال : ربي وربك ، فنسفه جبرئيل عن فرسه فسقط على ظهره ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذ السيف ، وجلس على صدره وقال : من ينجيك مني يا غورث ؟ فقال : جودك وكرمك يا محمد ! فتركه ، فقام وهو يقول : والله لأنت خير مني وأكرم . انتهى .
وهكذا لا تجد أثراً في هذه المصادر لنزول الآية في ذات الرقاع ، أو في قصة غورث ، بل تلاحظ أن النبي صلّى الله عليه وآله صلى بعد الحادثة بالحراسة المشددة !
فهل صار إلغاء الحراسة عند أصحاب هذا القول ، أن النبي صلّى الله عليه وآله لم يطمئن قلبه فأمر بتشديد الحراسة ؟!
ومن تخبطهم في قصة غورث وآية التبليغ ، ما تراه من الرد والبدل بين ابن حجر والقرطبي ، فقد قال القرطبي إن كون النبي وحده في القصة يدل على عدم حراسته حينذاك ، وأن الآية نزلت قبلها !!
فأجابه ابن حجر : لا ، فالآية نزلت يومذاك فألغى الحرس ، أما قبلها فكان أحياناً يضغف إيمانه فيتخذ الحرس ، وأحياناً يقوى فيلغيه ، وفي قصة غورث كان بلا حراسة لقوة إيمانه يومذاك !!
ـ قال في فتح الباري : 8 / 2752
قوله باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والإستظلال بالشجر .
ذكر فيه حديث جابر الماضي قبل بابين من وجهين ، وهو ظاهر فيما ترجم له ، وقد تقدمت الإشارة الى مكان شرحه .
قال القرطبي : هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في هذا الوقت لا يحرسه أحدٌ من الناس ، بخلاف ما كان عليه في أول الأمر ، فإنه كان يحرس حتى نزل قوله تعالى : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .
قلت : قد تقدم ذلك قبل أبواب ، لكن قد قيل إن هذه القصة سبب نزول قوله تعالى : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، وذلك فيما أخرجه بن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كنا إذا نزلنا طلبنا للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم شجرة وأظلها فنزل تحت شجرة ، فجاء رجل فأخذ سيفه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ قال : الله ، فأنزل الله : وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، وهذا إسناد حسن . فيحتمل إن كان محفوظاً أن يقال : كان مخيراً في اتخاذ الحرس ، فتركه مرةً لقوة يقينه فلما وقعت هذه القصة ونزلت هذه الآية ، ترك ذلك . انتهى .
فاعجب لابن حجر الذي لم يلتفت الى أن الآية من سورة المائدة التي نزلت سنة عشر ، وأن غزوة ذات الرقاع سنة أربع ، وأن مجئ أبي هريرة الى المدينة سنة سبع ، وغفل عن تشديد الحراسة وصلاة الخوف في ذات الرقاع ، وهو مع ذلك يشرح رواية البخاري في صلاة الخوف !!
وما ذلك إلا لأن ذهنه مملوء بما زرَّقوه فيه من ربط آية العصمة بالحراسة ، لإبعادها عن الغدير !!
وأخيراً ، فقد تقدمت روايات حراسة النبي صلّى الله عليه وآله في تبوك ، وهي بعد غزوة ذات الرقاع بنحو ست سنوات ، ونضيف اليها هنا حراسته في فتح مكة الذي كان بعد هذه الحادثة ، بنحو أربع سنوات ، فقد روى البخاري أن المسلمين كانوا يحرسون النبي صلىاللهعليهوآله حينئذ ! قال في صحيحه : 5 / 91 : عن هشام عن أبيه قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً ، خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران ، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة ، فقال أبو سفيان ما هذه ، لكأنها نيران عرفة ؟! فقال بديل بن ورقاء : نيران بنى عمرو ! فقال أبو سفيان عمرو أقل من ذلك ! فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأدركوهم فأخذوهم ، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى .
ونضيف الى ذلك أسطوانة الحراسة التي ما زالت في المسجد النبوي الشريف ، والتي عرفت بهذا الاسم في عام الوفود ، وهو السنة التاسعة كما في سيرة ابن هشام : 4 / 214 ، تحقيق السقا .
القول السادس
لم يعين أصحابه تاريخ نزول الآية ، ولا ربطوها بالحراسة ، ولكنهم قالوا إنها عامة تؤكد على النبي صلّى الله عليه وآله وجوب تبليغ الرسالة ، وإلا فإنه لم يبلغها !
ـ ففي الدر المنثور : 2 / 299 : وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ ، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قيل له : لو احتجبت فقال : والله لا يدع الله عقبي للناس ما صاحبتهم . انتهى .
وهذا القول يشبه القول الأول ، ويرد عليه ما تقدم ، وأن رواياته غير مسندة ، وأنه لا ينطبق على معنى الآية ، ولا يكفي لتصحيح القضية الشرطية فيها ، كما ستعرف .
مقتبس من كتاب : آيات الغدير / الصفحة : 170 ـ 190
التعلیقات