خمس مفاتيح للسعادة من منظورالنبي الأكرم: قراءة في اليوم العالمي للرجل
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 5 ساعاتمنذ سنوات قليلة، بدأ العالم يولي اهتماماً خاصاً بصحة الرجل النفسية والاجتماعية، وذلك بعد ملاحظة ارتفاع مستويات الضغط النفسي والاكتئاب والانتحار لدى الرجال مقارنة بالنساء في العديد من الدول. وقد أعلنت عدة منظمات دولية في العام 1999 يوماً عالمياً للاحتفاء بالرجل، والاعتراف بأهمية دوره في بناء الأسرة والمجتمع، فأصبح اليوم التاسع عشر من نوفمبر مناسبة تُطرح فيها قضايا الرجل، حقوقه، واجباته، تحدياته، وآماله.
يشدد منظمو اليوم العالمي للرجل على أن هذا اليوم ليس منافسا لليوم العالمي للمرأة، بل مكملا له. الهدف الأساسي هو تحقيق التوازن بين الجنسين من خلال التركيز على القضايا التي تخص كل طرف والعمل على معالجتها.
هذا اليوم جاء ليذكّر المجتمع بأن الرجل ليس مجرد قدرة جسدية أو آلة عمل، بل هو إنسان ذو احتياجات عاطفية وروحية ونفسية، يحمل مسؤوليات كبيرة أحيانًا دون أن يجد من يلتفت إليه أو يدعمه أو يشجّعه. فبين قلق تأمين المستقبل، وتحديات بناء الأسرة، وضغوط المجتمع، يعيش الرجل المعاصر في دوّامة من الأدوار دون أن يُتاح له التوقف ليتساءل:
هل أنا سعيد حقًا ؟ وهل ما أطلبه من الحياة هو ما يمنحني الاستقرار أم مجرد سباق لا نهاية له؟
من هنا، يصبح سؤال السعادة سؤالًا مصيريًا لا رفاهية فيه. وإذا كان الغرب اليوم يحاول رسم ملامح السعادة للرجل بمعايير مادية أو نفسية بحتة، فإن الإسلام ـ بمنهجيته الشمولية ـ قدّم قبل قرون جواباً دقيقاً وواقعياً وعميقاً.
فقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حديثٌ جامعٌ يحدد فيه معايير السعادة الحقيقية للإنسان، حيث قال : « خَمْسَةٌ مِنَ السَّعَادَةِ : الزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ ، وَالْبَنُونَ الْأَبْرَارُ ، وَالْخُلَطَاءُ الصَّالِحُونَ ، وَرِزْقُ الْمَرْءِ فِي بَلَدِهِ ، وَالْحُبُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله » (1).
هذه الكلمات الخمس ليست توصيفاً نظرياً، بل خريطة طريق عملية تُرشد الإنسان إلى مصادر الاستقرار النفسي والروحي والاجتماعي. وفيما يلي قراءة معمقة لكل فقرة، بلغة واقعية ومعاصرة.
أولًا: الزوجة الصالحة — شريكة الحياة وصنّاعة الاستقرار
الأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع، والزوجة الصالحة ليست مجرد وجود جميل في حياة الرجل، بل هي كما وصفها القرآن سَكَن : ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (2)، والسكن في اللغة يعني الاستقرار والطمأنينة وراحة النفس بعد اضطراب.
الزوجة الصالحة هي امرأة تعرف معنى الشراكة، تشارك الرجل أحلامه لا عبء اليوم وحده، تحتوي ضعفه قبل قوته، وتدعم مسيرته لا تُشكّك بها. وهي أيضاً رفيقة في المرض قبل الصحة، وفي العسر قبل اليسر، وفي تربية الأبناء قبل الاحتفالات.
وفي عالم اليوم، حيث تسود الفردانية كقيمة اجتماعية، وحيث تروّج بعض الثقافات لفكرة الاستقلال عن الأسرة كمعيار قوة، بدأت المجتمعات تدرك أن نجاح الرجل الحقيقي لا يُقاس بما يملك، بل بمن يقف بجانبه.
ثانيًا: البنون الأبرار — الامتداد الأخلاقي والرسالة المستمرة
الأبناء هم انعكاس لمنظومة الأخلاق والقيم التي زرعها الآباء، ولذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وآله البنون، بل قال البنون الأبرار.
فالولد إن كان صالحاً، مطيعاً محباً، ذا أخلاق وقيم، صار سنداً لوالده في الدنيا وذخراً له في الآخرة. أما إن كان عاقاً، متفلّتاً، بعيدًا عن المسؤولية والانتماء، أصبح مصدر ألم ووجع متواصل.
ولذا ورد في القرآن الكريم : ﴿ ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّـٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابࣰا وَخَيۡرٌ أَمَلࣰا ﴾ (3) تشير هذه الآية إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيث ترتبط الأشياء الأخرى بهما، إنّها تشير إلى (القوّة الاقتصادية) و (القوّة الإنسانية) لأنّ وجودهما ضروري لتحقيق أي هدف مادي، خاصّة في الأزمنة السابقة إذ كان من يملك أبناء أكثر يعتبر نفسه أكثر قوة، لأنّ الأبناء هم ركن القوّة.
وفي العصر الحديث، ومع انتشار وسائل التواصل، وازدياد العزلة الأسرية، أصبح كثير من الآباء يشعرون بأن أبناءهم يعيشون في عالم افتراضي بعيد عنهم. لذلك تأتي هذه الفقرة لتعيد تعريف السعادة بمعناها الاجتماعي: السعادة ليست فقط أن يكون لديك أبناء، بل أن يكونوا صالحين، مُحبّين، على خُلق كريم.
ثالثًا: الخُلطاء الصالحون — الأصدقاء الذين يمنحون قيمة لا ضجيجًا
الإنسان كائن اجتماعي، والصداقات جزء من نسيج الحياة. لكن ليست كل صحبة مصدر راحة؛ فبعض العلاقات تستنزف الروح بدل أن تغذيها.
الصديق الصالح هو من: يذكّرك بالله إن نسيت، ويشد أزرك إن ضعفت، ويحفظ غيبتك قبل حضورك.
وللصديق الصالح منزلة عالية جداً حيث قال الإمام الصادق عليه السلام : « لَقَدْ عَظُمَتْ مَنْزِلَةُ الصَّدِيقِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَسْتَغِيثُونَ بِهِ وَ يَدْعُونَهُ قَبْلَ الْقَرِيبِ الْحَمِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِراً: ﴿ فَما لَنا مِنْ شافِعِين * وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ (4)» (5).
في عصر السرعة، كثرت العلاقات السطحية، وقلّت الصداقات الحقيقية. أضف إلى ذلك أن الضغوط اليومية تجعل الرجل بحاجة أكثر إلى من يشاطره الهمّ، ويجيد الإنصات لا إصدار الأحكام.
كم من رجل قوي خارجياً، لكنه محطم نفسياً لأنه لا يجد من يشاركه حزنه؟
وكم من آخر كان على وشك الانهيار، لولا كلمة صديق صادق أعادت إلى روحه معنى الحياة؟
لذلك كان وجود الصديق الصالح جزءًا من السعادة، لا شيئًا إضافيًا.
رابعًا: رزق المرء في بلده — نعمة الاستقرار والانتماء
الهجرة في بعض الأحيان ضرورة، ولكنها ليست خياراً سهلاً. من يعيش في وطنه يعيش قرب أهله وجذوره، وهذا بحد ذاته نعمة كبرى. ولذا كان مستحباً اختيار الإِنسان التجارة وطلب المعيشة في بلده إن أمكن.
الرزق في الوطن يمنح:
استقرارًا نفسيًا، هوية اجتماعية، راحة عائلية، وتقليلًا من مشاعر الوحدة والغربة.
في زمن العولمة، بات كثير من الرجال يعيشون بعيداً عن وطنهم لأجل لقمة العيش، وقد يعيش الواحد منهم الغربة سنين طويلة، يراوده الحنين ولا يستطيع العودة. وبعضهم يجلس أمام شاشة هاتف تراه عائلته أكثر مما تراه عينًا. هؤلاء يدركون تمامًا قيمة هذه الفقرة في الحديث.
الرزق في الوطن ليس مالًا فقط، بل راحة قلب وانتماء وهوية ودفء علاقات.
خامسًا: الحب لآل محمد عليهم السلام — البوصلة الروحية التي تحفظ الاتزان
آخر فقرة في الحديث ليست جمالية، بل هي الأساس الروحي الجامع. فالحب لأهل البيت عليهم السلام يمنح الإنسان: معنى لوجوده، قدوة لأخلاقه، توازنًا بين الدنيا والآخرة، وإحساساً بالانتماء العقائدي والروحي.
حبهم هدية من الله حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِسْلَامَ فَجَعَلَ لَهُ عَرْصَةً (6)، وَ جَعَلَ لَهُ نُوراً، وَ جَعَلَ لَهُ حِصْناً، وَ جَعَلَ لَهُ نَاصِراً، فَأَمَّا عَرْصَتُهُ فَالْقُرْآنُ، وَ أَمَّا نُورُهُ فَالْحِكْمَةُ، وَ أَمَّا حِصْنُهُ فَالْمَعْرُوفُ، وَ أَمَّا أَنْصَارُهُ فَأَنَا وَ أَهْلُ بَيْتِي وَ شِيعَتُنَا فَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي وَ شِيعَتَهُمْ وَ أَنْصَارَهُمْ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَنَسَبَنِي جَبْرَئِيلُ عليه السلام لِأَهْلِ السَّمَاءِ اسْتَوْدَعَ اللَّهُ حُبِّي وَ حُبَّ أَهْلِ بَيْتِي وَ شِيعَتِهِمْ فِي قُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ وَدِيعَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ هَبَطَ بِي إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَنَسَبَنِي إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَاسْتَوْدَعَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ حُبِّي وَ حُبَّ أَهْلِ بَيْتِي وَ شِيعَتِهِمْ فِي قُلُوبِ مُؤْمِنِي أُمَّتِي، فَمُؤْمِنُو أُمَّتِي يَحْفَظُونَ وَدِيعَتِي فِي أَهْلِ بَيْتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا فَلَوْ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أُمَّتِي عَبَدَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ عُمُرَهُ أَيَّامَ الدُّنْيَا ثُمَّ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ مُبْغِضاً لِأَهْلِ بَيْتِي وَ شِيعَتِي مَا فَرَّجَ اللَّهُ صَدْرَهُ إِلَّا عَنِ النِّفَاقِ» (7).
هذا الحب ليس مجرد مشاعر، بل منهج حياة يقوم على الرحمة، العدالة، الإيمان، والعطاء. من أحب أهل البيت أحب قيمهم، وابتعد عن الظلم، وسعى للخير، وواجه الحياة بثقة لا تهتز.
المحب لأهل البيت لا يشعر بالضياع؛ لأن روحه مرتبطة بالسماء مهما اشتدت ظروف الأرض.
الخاتمة
في هذا اليوم — اليوم العالمي للرجل 19 نوفمبر — نقف أمام هذا الحديث الشريف لنقول:
السعادة ليست حلمًا بعيدًا، بل هي خمسة أبواب مفتوحة:
أسرة صالحة، أبناء بررة، أصدقاء حقيقيون، استقرار في الوطن، وبوصلة روحية لا تخطئ الاتجاه.
بعضها يُعطى، وبعضها يُكتسب، لكن كلها يمكن السعي لتقويتها وتحسينها.
نسأل الله أن يمنّ على رجالنا ونساءنا بالسعادة في الدنيا والآخرة، وأن يجعل بيوتنا عامرة بالمودة والبركة، وأن يرزقنا حب أهل البيت عليهم السلام الذي يزهر به القلب وتستقيم به الحياة.
1. دعائم الإسلام / القاضي النعمان المغربي / المجلّد : 2 / الصفحة : 195.
2. سورة الروم : الآية 21.
3. سورة الكهف : الآية 46.
4. سورة الشعراء : الآية 100 ـ 101.
5. الأمالي / الشيخ الطوسي / المجلّد : 1 / الصفحة : 517 / ط دار الثقافة.
6. العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء.
7. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 2 / الصفحة : 46 / ط الاسلامية.







التعلیقات