معاجز الإمام الهادي عليه السلام ودلالاتها على الإمامة الإلهية
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 6 ساعاتتُعدّ معاجز الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام من أهمّ الشواهد العقديّة التي أكّد بها الله تعالى حجّيتهـم، وجعلها دلائل حيّة على اتصالهم بعالم الغيب وتسديدهم الإلهي. وقد تجلّت هذه المعاجز في سيرة الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام بوضوح لافت، رغم الظروف السياسيّة الخانقة التي أحاطت به، ولا سيّما في زمن المتوكّل العبّاسي، حيث سعى الحكم إلى محاصرته وتشويه مقامه.
ومع ذلك، فإنّ الإمام الهادي عليه السلام مارس دوره الإلهي بهدوء وثبات، فظهرت على يديه كرامات ومعاجز متنوّعة، شملت العلم بما في النفوس، والإخبار بالمغيّبات، واستجابة الدعاء، ومعرفة اللغات، والتصرّف في الكون بإذن الله تعالى، لتكون هذه الوقائع حججًا دامغة على إمامته، وبراهين ساطعة على أنّ الإمامة ليست منصبًا سياسيًا، بل مقام إلهي ربّاني.
ويهدف هذا العرض إلى تسليط الضوء على نماذج من معاجز الإمام الهادي عليه السلام، مرتّبة في عناوين مستقلّة، تبرز تنوّع هذه المعاجز وعمق دلالتها العقديّة.
علم الإمام الهادي عليه السلام بما في النفوس واستجابة دعائه
حدّث جماعة من أهل أصفهان، منهم أبو العبّاس أحمد بن النصر، و أبو جعفر محمّد بن علويّة، قالوا: كان باصفهان رجل يقال له: عبد الرحمن، و كان شيعيّا.
قيل له: ما السبب الذي أوجب عليك به القول بإمامة عليّ النقيّ عليه السلام دون غيره من أهل الزمان؟
قال: شاهدت ما أوجب ذلك عليّ، و ذلك إنّي كنت رجلا فقيرا، و كان لي لسان و جرأة، فأخرجني أهل أصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين إلى باب المتوكّل متظلّمين.
فكنّا بباب المتوكّل يوما إذ خرج الأمر بإحضار عليّ بن محمّد بن الرضا عليهم السلام.
فقلت لبعض من حضر: من هذا الرجل الذي قد أمر بإحضاره؟
فقيل: هذا رجل علويّ تقول الرافضة بإمامته.
ثمّ قيل: و يقدّر أنّ المتوكّل يحضره للقتل.
فقلت: لا أبرح من هاهنا حتّى أنظر إلى هذا الرجل أيّ رجل هو؟
قال: فأقبل راكبا على فرس، و قد قام الناس يمنة الطريق و يسرته صفّين ينظرون إليه، فلمّا رأيته وقع حبّه في قلبي، فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع اللّه عنه شرّ المتوكّل، فأقبل يسير بين الناس و هو ينظر إلى عرف (1) دابّته، لا ينظر يمنة و لا يسرة، و أنا دائم الدعاء له، فلمّا صار بإزائي أقبل إليّ بوجهه، و قال: استجاب اللّه دعاءك، و طوّل عمرك، و كثّر مالك و ولدك.
قال: فارتعدت من هيبته و وقعت بين أصحابي، فسألوني و هم يقولون: ما شأنك؟ فقلت: خير، و لم أخبرهم بذلك.
فانصرفنا بعد ذلك إلى أصفهان، ففتح اللّه عليّ الخبر بدعائه، و وجوها من المال، حتّى أنا اليوم أغلق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم، سوى مالي خارج داري، و رزقت عشرة من الأولاد، و قد بلغت الآن من عمري نيّفا و سبعين سنة، و أنا أقول بإمامة هذا الذي علم ما في قلبي، و استجاب اللّه دعاءه فيّ ولي (2).
معجزة الإمام الهادي عليه السلام مع المشعبذ في مجلس المتوكّل
عن زرّافة حاجب المتوكّل أنّه قال: وقع رجل مشعبذ من ناحية الهند إلى المتوكّل يلعب لعب الحقّة (3) لم ير مثله، و كان المتوكّل لعّابا، فأراد أن يخجل عليّ بن محمد بن الرضا عليهم السلام، فقال لذلك الرجل: إن أنت أخجلته أعطيتك الف دينار زكيّة، قال: تقدّم بأن يخبز رقاق خفاف، و اجعلها على المائدة و اقعدني إلى جنبه، ففعل و أحضر عليّ بن محمّدعليه السلام للطعام و جعلت له مسورة (4) عن يساره، و كان عليها صورة أسد و جلس اللاعب إلى جانب المسورة.
فمدّ عليّ بن محمّد عليهما السلام يده إلى رقاقة فطيّرها ذلك الرجل في الهواء، و مدّ يده إلى اخرى فطيّرها فتضاحك الجميع، فضرب عليّ بن محمّد عليهما السلام يده على تلك الصورة التي في المسورة و قال: خذ عدوّ اللّه، فوثبت تلك الصورة من المسورة فابتعلت الرجل، و عادت في المسورة كما كانت، فتحيّر الجميع، و نهض عليّ بن محمّد عليهما السلام يمضي.
فقال له المتوكّل: سألتك ألّا جلست و رددته، فقال: و اللّه لا يرى بعدها، أ تسلّط أعداء اللّه على أولياء اللّه؟! و خرج من عنده فلم ير الرّجل بعد ذلك (5).
علم الإمام الهادي عليه السلام بنزول المطر وكشفه ما في الضمير
قال عليّ بن مهزيار: وردت على أبي الحسن و أنا شاكّ في الإمامة، فرأيت السلطان قد خرج إلى الصيد في يوم من الربيع إلّا أنّه صائف، و الناس عليهم ثياب الصيف، و على أبي الحسن عليه السلام لبّادة و على فرسه تجفاف لبود، و قد عقد ذنب الفرس و الناس يتعجّبون منه و يقولون: أ لا ترون إلى هذا المدنيّ و ما قد فعله بنفسه؟ فقلت في نفسي: لو كان هذا إماما ما فعل هذا.
فلمّا خرج النّاس إلى الصحراء لم يلبثوا إلّا أن ارتفعت سحابة عظيمة هللت، فلم يبق أحد إلّا ابتلّ حتى غرق بالمطر، و عاد عليه السلام و هو سالم من جميعه، فقلت في نفسي: يوشك أن يكون هو الإمام، ثمّ قلت: اريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب، فقلت في نفسي: إن كشف وجهه فهو الإمام.
فلمّا قرب منّي كشف وجهه ثمّ قال: إن كان عرق الجنب في الثوب و جنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه، و إن كان جنابته من حلال فلا بأس، فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة (6).
معرفة الإمام الهادي عليه السلام باللغات غير العربيّة
عن عليّ بن مهزيار قال: أرسلت إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام غلامي و كان صقلبيّا فرجع الغلام إليّ متعجّبا، فقلت له: مالك يا بنيّة؟ فقال: و كيف لا أتعجّب ما زال يكلّمني بالصقلبيّة كأنّه واحد منّا! و إنّما أراد بهذا الكتمان عن القوم (7).
إخراج سبيكة الذهب من الأرض كرامةً وعنايةً إلهيّة
عن داود بن القاسم الجعفري قال: دخلت عليه بسرّ من رأى و أنا اريد الحجّ لاودّعه، فخرج معي، فلمّا انتهى إلى آخر الحاجز نزل و نزلت معه، فخطّ بيده الأرض خطّة شبيهة بالدائرة، ثمّ قال لي: « يا أبا هاشم خذ ما في هذه تكون في نفقتك و تستعين به على حجّك »، فضربت بيدي فإذا سبيكة ذهب فكان فيها مائتا مثقال (8).
إخبار الإمام الهادي عليه السلام عمّا في نفس أصحابه
محمد بن اللّيث المكّي قال: حدّثني أبو إسحاق ابن عبد اللّه العلويّ العريضي قال: وحك في صدري ما الأيّام التي تصام؟ فقصدت مولانا أبا الحسن عليّ بن محمّد عليهما السلام و هو بصريا، و لم ابد ذلك لأحد من خلق اللّه، فدخلت عليه فلمّا بصر بي عليه السلام قال: يا أبا إسحاق جئت تسألني عن الأيّام التي يصام فيهنّ؟ و هي أربعة: أوّلهنّ يوم السابع و العشرين من رجب، يوم بعث اللّه تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله إلى خلقه رحمة للعالمين، و يوم مولده صلّى اللّه عليه و آله و هو السابع عشر من شهر ربيع الأوّل، و يوم الخامس و العشرين من ذي القعدة فيه دحيت الكعبة، و يوم الغدير فيه أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- أخاه عليّا عليه السلام علما للناس و إماما من بعده، قلت: صدقت جعلت فداك، لذلك قصدت، أشهد أنّك حجّة اللّه على خلقه (9).
إخبار الإمام الهادي عليه السلام عن القائم وغيبته وصفته
قال أبو هاشم داود بن القاسم الجعفريّ: سمعت أبا الحسن صاحب العسكر عليه السلام يقول: « الخلف من بعدي ابني الحسن، فكيف لكم بالخلف بعد الخلف، قلت: و لم جعلت فداك؟ قال: لأنّكم لا ترون شخصه و لا يحلّ لكم تسميته و لا ذكره باسمه، قلت: كيف نذكره؟
قال: قولوا: الحجّة من آل محمد صلّى اللّه عليه وآله » (10).
الخاتمة
إنّ التأمّل في هذه المعاجز يكشف بوضوح أنّ الإمام الهادي عليه السلام لم يكن عالمًا عاديًا ولا زاهدًا منزويًا، بل كان حجّة الله على خلقه، مؤيَّدًا بعلم لدنّي وقدرة إلهيّة، تظهر عند الحاجة لإقامة الحجة وإزالة الشبهة. وقد تنوّعت معاجزه بين ما يرتبط بعالم الغيب، وما يتعلّق بالتصرف في الكون، وما يكشف عن علمه بما في الضمائر، وكلّها تصبّ في إثبات مقام الإمامة الإلهيّة.
كما أنّ هذه الكرامات لم تكن استعراضًا للقدرة، بل كانت مواقف هادفة، تهدف إلى هداية القلوب، وتثبيت المؤمنين، وفضح محاولات الطغاة في النيل من مقام أولياء الله. ومن هنا، فإنّ دراسة معاجز الإمام الهادي عليه السلام تمثّل بابًا مهمًا لفهم حقيقة الإمامة، وتعميق الارتباط الواعي بأئمّة أهل البيت عليهم السلام، بوصفهم الامتداد الشرعي والروحي لرسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا معرفة أوليائه، والثبات على ولايتهم، والاقتداء بسيرتهم في الدنيا، والشفاعة بهم في الآخرة.
1. العرف بضمّتين: شعر عنق الفرس. أقرب الموارد: 3/ 524، (عرف).
2. الخرائج و الجرائح / قطب الدين الراوندي / المجلّد : 1 / الصفحة : 392 ـ 393.
3. الحقّ و الحقّة- بالضمّ-: الوعاء من الخشب و غيره، و كان المشعبذين يلعبون بالحقّة نحوا من اللّعب.
4. متّكأ من جلد.
5. الخرائج و الجرائح / قطب الدين الراوندي / المجلّد : 1 / الصفحة : 401.
6. مدينة معاجز / السيد هاشم البحراني / المجلّد : 7 / الصفحة : 499.
7. مدينة معاجز / السيد هاشم البحراني / المجلّد : 7 / الصفحة : 504.
8. مدينة معاجز / السيد هاشم البحراني / المجلّد : 7 / الصفحة : 504.
9. مدينة معاجز / السيد هاشم البحراني / المجلّد : 7 / الصفحة : 508.
10. مدينة معاجز / السيد هاشم البحراني / المجلّد : 7 / الصفحة : 509.








التعلیقات