الحياء في القرآن: آداب الاستئذان وحماية الخصوصية الأسرية
المرأة والاسلام
منذ 6 ساعاتالحياء في الإسلام ليست خُلُقاً فردياً فحسب، بل منظومة متكاملة تبدأ من داخل البيت وتمتدّ إلى المجتمع كلّه. ومن أهمّ الأسس التي وضعها القرآن لحماية الحياء والعفّة: تهذيب العلاقات، وصيانة الخصوصية، وتعليم آداب الاستئذان منذ الطفولة. فحين تُحترم حدود البيوت وتُربّى الأجيال على الحياء، يُبنى مجتمعٌ آمنٌ، طاهر، ومتوازن.
تقديم التربية الصحيحة
لإيجاد مجتمعٍ طاهرٍ وسليمٍ والحفاظ عليه، لم يكتفِ الإسلام ببيان مجموعةٍ من التعاليم الفكرية والثقافية الممزوجة بالآداب الأخلاقية والعاطفية، وكذلك بتقديم أسس التربية الإسلامية الصحيحة فحسب، بل نبّه أيضاً إلى العوامل التي تُعرّض سلامة المجتمع وطهارته للخطر.
ومن جملة هذه العوامل: غياب المعيار الصحيح في أسلوب التعامل والتواصل مع الآخرين، أو اعتماد معايير غير مناسبة في هذا المجال.
ومن مصاديق التواصل الاجتماعي: دخول الناس بيوت بعضهم بعضاً. وقد وضع الله تعالى للمسلمين أحكاماً وآداباً خاصة عند دخول بيوت الآخرين، فقال سبحانه:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (1)
لا شكّ أنّ الإنسان في بيته، وهو محيطه الخاص، لا يكون مقيَّداً بالقيود والحدود التي تفرضها الحياة الاجتماعية، بل إنّ إغلاق الأبواب ـ ولو مؤقتاً ـ يحرّره من تلك القيود. فإذا دخل شخصٌ هذا الفضاء الخاص من دون إذن، فقد اعتدى على حريم الأسرة، ولم يُخلّ فقط براحة أهل البيت وطمأنينتهم، بل هيّأ أيضاً ـ من خلال مشاهدة حالات أو مشاهد غير لائقة ـ أرضية الانحرافات الجنسية، ووقوع الفساد، وضياع العفّة والطهارة.
والتأمّل في شأن نزول هذه الآية يوضّح أنّ الناس في ذلك الزمان كانوا يدخلون بيوت بعضهم بعضاً من دون استئذان، وكانوا يرون ذلك جائزاً، لا سيّما مع الأقارب والمقرّبين. وقد ذكر بعض المفسّرين في شأن نزول الآية أنّ:
«امرأةً من الأنصار جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله، إنّ لي حالات لا أُحبّ أن يراني فيها أحد، لا أبي ولا ولدي، وإنّهم يدخلون عليّ في تلك الأوقات، وأنا أتأذّى من ذلك. فأنزل الله هذه الآية» (2).
الاستئذان وأثره في حفظ العفّة العامة
يبيّن الله تعالى في هذه الآية أحد أهمّ الآداب الاجتماعية التي لها دورٌ بالغ في حفظ العفّة العامة، والوقاية من انتشار الفحشاء والفساد في المجتمع.
وقد عبّر سبحانه عن الاستئذان بلفظ ﴿تستأنسوا﴾، لما يحمله هذا اللفظ من معنى الإذن المقرون بالمحبّة واللطف، بما يدلّ على أنّ طلب الإذن يجب أن يكون مؤدّباً، رقيقاً، وخالياً من أيّ لون من ألوان الخشونة.
ثمّ أكّد الله هذا الأدب في الآية التالية فقال:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (3).
ومن التأمّل في هذه الآية تتّضح عدّة أمور:
إذا لم يوجد أحدٌ يمنح الإذن، فلا يجوز دخول البيت.
وإذا كان صاحب البيت موجوداً، لكنّه غير مستعدّ لاستقبالكم ولم يأذن لكم بالدخول، فعليكم الرجوع من دون أيّ ضيق أو استياء؛ لأنّ هذا الرجوع ﴿أزكى﴾ لكم، أي أطهر وأنفع لكم في الدنيا والآخرة.
إنّ العلّة في تشريع هذا الحكم هو إيجاد الشعور بالأمن والطمأنينة لدى أفراد الأسرة داخل بيوتهم، إلى جانب الحفاظ على سلامة المجتمع وطهارته.
غير أنّ هذا الشعور بالأمان أصبح اليوم مهدّداً، بسبب انتشار العمارات السكنية، وتكشّف البيوت على بعضها، وإشراف الشقق العليا أو المجاورة على بيوت الآخرين.
ولعلّ حكم الآية يشمل أيضاً النظر إلى داخل بيوت الآخرين من خارجها؛ فلا يجوز للجيران ـ حتى من داخل بيوتهم ـ التطلّع إلى داخل البيوت المجاورة. ومن الضروريّ مراعاة ذلك في تصميم الأبنية، والسعي نحو إحياء العمارة الإسلامية، وكذلك الالتزام بحدود النظر؛ لأنّ نظرةً محرّمة واحدة إلى بيتٍ آخر قد تكون سبباً في ضياع العفّة، وانحراف الإنسان عن طريق السعادة.
وقد ذُكر في هذا السياق مثال المؤذّن المسلم الذي صعد يوماً إلى المنارة ليؤذّن، فوقعت عينه على فتاةٍ في أحد البيوت، فهام بها عشقاً. فلمّا تقدّم لخطبتها، علم أنّها غير مسلمة، وكان شرطها للزواج أن يترك الإسلام، فاستجاب لذلك تحت تأثير تلك النظرة.
الاستئذان داخل الأسرة وتربية الأبناء
لا يكتفي الإسلام بفرض الاستئذان عند دخول بيوت الآخرين لحفظ عفّة المجتمع وأفراده، بل يقرّر أيضاً أدب الاستئذان داخل البيت نفسه، وبين أفراد الأسرة الواحدة.
إنّ الغريزة الجنسية إحدى الغرائز المهمّة لدى الطفل، وهي تنمو وتسير في طريقها الطبيعي وفق نظامٍ دقيق من القوانين الفطرية، وتمرّ بمراحل متتابعة إلى أن يبلغ الطفل سنّ البلوغ.
ومن أجل الانسجام مع قانون الفطرة، وضرورة إبقاء الميول الجنسية للطفل في دائرة الستر والخفاء، راعى الإسلام التناسق بين التشريع والتكوين، فأمر الآباء والأمّهات بإبعاد أولادهم عن المشاهد غير المناسبة، وعدم إثارة ميولهم الجنسية، والسعي للحفاظ على خفائها.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (4).
يوجّه الله في هذه الآية الخطاب إلى المؤمنين، مبيّناً أنّ تعليم هذه الآداب الإسلامية للأبناء وأفراد الأسرة هو من مسؤولية الوالدين، وأنّ التربية الدينية يجب أن تبدأ قبل بلوغ الأطفال.
وقد قال محمد بن علي الحلبي للإمام الصادق عليه السلام: « الرَّجُلُ يَسْتَأْذِنُ عَلَى أَبِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَدْ كُنْتُ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَبِي وَلَيْسَتْ أُمِّي عِنْدَهُ إِنَّمَا هِيَ امْرَأَةُ أَبِي تُوُفِّيَتْ أُمِّي وَأَنَا غُلَامٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ خَلْوَتِهِمَا مَا لَا أُحِبُّ أَنْ أَفْجَأَهُمَا عَلَيْهِ وَلَا يُحِبَّانِ ذَلِكَ مِنِّي السَّلَامُ أَصْوَبُ وَأَحْسَنُ » (5).
خطورة التهاون في هذا الأدب
خلافاً لما يظنّه بعض الناس من أنّ الأطفال لا يدركون المسائل الزوجية، فإنّ الواقع يثبت أنّ الأطفال يلتفتون إلى هذه الأمور، وأنّ تساهل الآباء والأمّهات قد يعرّضهم لرؤية مشاهد لا ينبغي لهم رؤيتها، وهو ما يكون منشأً لانحرافات أخلاقية، بل وأمراض نفسية.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (والذي نفسي بيده لو أن رجلا غشي امرأته وفي البيت صبي مستيقظ يراهما ويسمع كلامهما ونفسهما ما أفلح أبدا إذا كان غلاما كان زانيا أو جارية كانت زانية) (6).
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: ( لَا يُجَامِعِ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَا جَارِيَتَهُ وَفِي الْبَيْتِ صَبِيٌّ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُورِثُ الزِّنَا) (7).
وكان الأئمّة عليهم السلام أوّل الملتزمين بهذه التوصيات، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: ( كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْشَى أَهْلَهُ أَغْلَقَ الْبَابَ وَأَرْخَى السُّتُورَ وَأَخْرَجَ الْخَدَمَ) (8).
الاستئذان بعد البلوغ
وقال تعالى: ﴿و وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (9).
فالذين بلغوا سنّ الرشد يجب عليهم الاستئذان في جميع الأوقات عند الدخول على الوالدين. وقد بيّن الله في هذه الآيات، بدقّة ووضوح، جانباً مهمّاً من مسؤولية الأبوين في تربية الأبناء وتعليمهم.
ضوابط العلاقات الأسرية
وضع الإسلام أحكاماً دقيقة لتنظيم العلاقات داخل الأسرة، وأمر العائلات ـ إلى جانب مراعاة آداب التعامل مع الآخرين ـ بأن يلتزموا بالانضباط داخل بيوتهم.
فلا يجوز للأمّهات اللواتي لديهنّ أطفال فوق سنّ السادسة أن يرتدين الملابس غير المناسبة أمامهم، كما يجب الفصل بين أماكن نوم الأولاد والبنات.
قال الإمام الصادق عليه السلام: «يُفَرَّقُ بَيْنَ الْغِلْمَانِ وَ النِّسَاءِ فِي الْمَضَاجِعِ إِذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ» (10).
ومع الأسف، فإنّ العمارة الحديثة ابتعدت عن النمط التقليدي والإسلامي الذي كان يوفّر الخصوصية من خلال تعدّد الغرف وتقسيم الداخل والخارج، واستُبدلت بفراغات مفتوحة موحّدة، الأمر الذي ألحق أضراراً كبيرة بالتربية الدينية للأسرة.
الختام
يؤكّد القرآن الكريم أنّ حفظ العفّة لا يتحقّق بالشعارات، بل بالتربية العملية والالتزام بالآداب الإلهية، وفي مقدّمتها الاستئذان، وغضّ البصر، وتنظيم العلاقات داخل الأسرة. فكلّ تساهل في هذه الأسس يفتح باب الانحراف، وكلّ التزام بها يُثمر طهارةً نفسية واجتماعية، تقود الإنسان إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
١. سورة النور / الآیه: ٢٧.
٢. تفاسير: روض الجنان / جامع البيان / كشف الأسرار.
٣. سورة النور / الآیه: ٢٨.
٤. سورة النور / الآیه: ٥٨.
٥. الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: ٥ / الصفحه: ٥٢٨ / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: ٤.
٦. الفروع من الكافي / الشيخ الكليني / المجلد: ٥ / الصفحه: ٥٠٠.
٧. الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: ٥ / الصفحه: ٤٩٩ / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: ٤.
٨. الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: ٥ / الصفحه: ٥٠٠ / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: ٤.
٩. سورة النور / الآیه: ٥٩.
١٠. الكافي / الشيخ الكليني / المجلد: ٦ / الصفحه: ٤٧.










التعلیقات