بعض ما ورد في أمر جعفر الكذّاب
الشيخ الصدوق
منذ 13 سنةحدَّثنا أبو العبّاس بن الحسين بن عبد الله بن محمّد بن مهران الآبي العروضيُّ رضي الله عنه بمرو قال : حدَّثنا [ أبو ] الحسين [ بن ] زيد بن عبد الله البغداديُّ قال : حدَّثنا أبو الحسن عليُّ بن سنان الموصليُّ قال : حدَّثني أبي قال : لمّا قبض سيّدنا أبو محمّد الحسن بن عليٍّ العسكريُّ صلوات الله عليهما وفد من قمّ والجبال وفودٌ بالأموال الّتي كانت تحمل على الرَّسم والعادة ، ولم يكن عندهم خبر وفاة الحسن عليه السلام ، فلمّا أن وصلوا إلى سرَّ من رأى سألوا عن سيّدنا الحسن بن عليٍّ عليهما السلام ، فقيل لهم : إنّه قد فقد ، فقالوا : ومن وارثه ؟ قالوا : أخوه جعفر بن عليٍّ فسألوا عنه فقيل لهم إنّه قد خرج متنزِّهاً وركب زورقاً في الدِّجلة يشرب ومعه المغنّون ، قال : فتشاور القوم فقالوا : هذه ليست من صفة الإِمام ، وقال بعضهم لبعض : امضوا بنا حتّى نردَّ هذه الأموال على أصحابها.
فقال أبو العبّاس محمّد بن جعفر الحميريُّ القمّيُّ : قفوا بنا حتّى ينصرف هذا الرَّجل ونختبر أمره بالصحّة.
قال : فلما انصرف دخلوا عليه فسلّموا عليه وقالوا : يا سيّدنا نحن من أهل قمّ ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها وكنّا نحمل إلى سيّدنا أبي محمّد الحسن بن عليٍّ الأموال فقال : وأين هي ؟ قالوا : معنا ، قال : احملوها إليَّ ، قالوا : لا ، إنَّ لهذه الأموال خبراً طريفاً ، فقال : وما هو ؟ قالوا : إنَّ هذه الأموال تجمع ويكون فيها من عامّة الشيعة الدِّينار والدِّيناران ، ثمَّ يجعلونها في كيس ويختمون عليه وكنّا إذا وردنا بالمال على سيّدنا أبي محمّد عليه السلام يقول : جملة المال كذا وكذا ديناراً ، من عند فلان كذا ومن عند فلان كذا حتّى يأتي على أسماء النّاس كلّهم ويقول ما على الخواتيم من نقش ، فقال جعفر : كذبتم تقولون على أخي ما لا يفعله ، هذا علم الغيب ولا يعلمه إلّا الله.
قال : فلمّا سمع القوم كلام جعفر جعل بعضهم ينظر إلى بعض فقال لهم : احملوا هذا المال إليَّ ، قالوا : إنّا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب المال ولا نسلّم المال إلّا بالعلامات الّتي كنّا نعرفها من سيّدنا الحسن بن عليٍّ عليهما السلام فإن كنت الإِمام فبرهن لنا وإلّا رددناها إلى أصحابها ، يرون فيها رأيهم.
قال : فدخل جعفر على الخليفة ـ وكان بسرَّ من رأى ـ فاستعدى عليهم ، فلمّا أحضروا قال الخليفة : احملوا هذا المال إلى جعفر ، قالوا : أصلح الله أمير المؤمنين إنا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب هذه الأموال وهي وداعة لجماعة وأمرونا بأن لا نسلّمها إلّا بعلامة ودلالة ، وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمّد الحسن بن عليٍّ عليهما السلام.
فقال الخليفة : فما كانت العلامة الّتي كانت مع أبي محمّد. قال القوم : كان يصف لنا الدَّنانير وأصحابها والأموال وكم هي ؟ فإذا فعل ذلك سلَّمناها إليه ، وقد وفدنا إليه مراراً فكانت هذه علامتنا معه ودلالتنا ، وقد مات ، فإن يكن هذا الرَّجل صاحب هذا الأمر فليقم لنا ما كان يقيمه لنا أخوه ، وإلّا رددناها إلى أصحابها.
فقال جعفر : يا أمير المؤمنين إنَّ هؤلاء قوم كذَّابون يكذبون على أخي وهذا علم الغيب فقال الخليفة : القوم رسل وما على الرَّسول إلَّا البلاغ المبين. قال : فبهت جعفر ولم يرد جواباً ، فقال القوم : يتطوَّل أمير المؤمنين بإخراج أمره إلى مَن يبدْرِقنا حتّى نخرج من هذه البلدة ، قال : فأمر لهم بنقيب فأخرجهم منها ، فلمّا أن خرجوا من البلد خرج إليهم غلامٌ أحسن النّاس وجهاً ، كأنّه خادم ، فنادي يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان أجيبوا مولاكم ، قال : فقالوا : أنت مولانا ، قال : معاذ الله ، أنا عبد مولاكم فسيروا إليه ، قالوا : فسرنا [ إليه ] معه حتّى دخلنا دار مولانا الحسن بن عليٍّ عليهما السلام ، فإذا ولده القائم سيّدنا عليه السلام قاعد على سرير كأنّه فلقة قمر ، عليه ثياب خضر ، فسلّمنا عليه ، فردَّ علينا السلام ، ثمَّ قال : جملة المال كذا وكذا ديناراً ، حمل فلان كذا ، [ وحمل ] فلان كذا ، ولم يزل يصف حتّى وصف الجميع.
ثمَّ وصف ثيابنا ورحالنا وما كان معنا من الدَّوابِّ ، فخررنا سجّداً لله عزَّ وجلَّ شكراً لما عرَّفنا ، وقبّلنا الأرض بين يديه ، وسألناه عمّا أردنا فأجاب ، فحملنا إليه الأموال ، وأمرنا القائم عليه السلام أن لا نحمل إلى سرَّ من رأى بعدها شيئاً من المال ، فإنّه ينصب لنا ببغداد رجلاً يحمل إليه الأموال ويخرج من عنده التوقيعات ، قالوا : فانصرفنا من عنده ، ودفع إلى أبي العبّاس محمّد بن جعفر القميِّ الحميريِّ شيئاً من الحنوط والكفن فقال له : أعظم الله أجرك في نفسك ، قال : فما بلغ أبو العبّاس عقبة همدان حتّى توفّي رحمه الله.
وكنا بعد ذلك نحمل الأموال إلى بغداد إلى النوَّاب المنصوبين بها ويخرج من عندهم التوقيعات.
قال مصنّف هذا الكتاب رضي الله عنه : هذا الخبر يدلُّ على أنَّ الخليفة كان يعرف هذا الأمر كيف هو [ وأين هو ] وأين موضعه ، فلهذا كفّ عن القوم عمّا معهم من الأموال ، ودفع جعفراً الكذَّاب عن مطالبتهم ولم يأمرهم بتسليمها إليه إلّا أنّه كان يحبُّ أن يخفى هذا الأمر ولا ينشر لئلّا يهتدي إليه النّاس فيعرفونه ، وقد كان جعفر الكذَّاب حمل إلى الخليفة عشرين ألف دينار لمّا توفّي الحسن بن عليٍّ عليهما السلام وقال : يا أمير المؤمنين تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته. فقال الخليفة : اعلم أنَّ منزلة أخيك لم تكن بنا إنّما كانت بالله عزَّ وجلَّ ونحن كنّا نجتهد في حطِّ منزلته والوضع منه ، وكان الله عزَّ وجلَّ يأبى إلّا أن يزيده كلَّ يوم رفعة لما كان فيه من الصيانة وحسن السّمت (1) والعلم والعبادة ، فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا ، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك لم نغن عنك في ذلك شيئاً.
الهوامش
1. السمت ـ بفتح المهملة ـ : هيئة أهل الخير.
مقتبس من كتاب : [ كمال الدين وتمام النعمة ] / الصفحة : 433 ـ 435
التعلیقات