جواب شبهه طول عمر الامام عجّل الله تعالى فرجه من كتاب اعلام الورى
مسألة سادسة :
قالوا : لا يمكن أن يكون في العالم بشر له من السنّ ما تصفونه لإمامكم ، وهو مع ذلك كامل العقل ، صحيح الحسّ؟ وأكثروا التعجّب من ذلك ، وشنّعوا به علينا.
والجواب :
أنّ من لزم طريق النظر ، وفرّق بين المقدور والمحال ، لم ينكر ذلك ، إلاّ أن يعدل عن الإنصاف إلى العناد والخلاف.
وطول العمر وخروجه عن المعتاد لا اعتراض به لأمرين : أحدهما : إنا لا نسلّم أنّ ذلك خارق للعادة ، لأنّ تطاول الزمان لا ينافي وجود الحياة ، وإنّ مرور الأوقات لا تأثير له في العلوم والقدر ، ومن قرأ الأخبار ونظر فيما سطّر في الكتب من ذكر المعمّرين علم أنّ ذلك ممّا جرت العادة به ، وقد نطق القرآن بذكر نوح وأنّه لبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاما. وقد صنّفت الكتب في أخبار المعمّرين من العرب والعجم ، وقد تظاهرت الأخبار بأنّ أطول بني آدم عمرا الخضر عليهالسلام ، وأجمعت الشيعة وأصحاب الحديث بل الامّة بأسرها ـ ما خلا المعتزلة والخوارج ـ على أنّه موجود في هذا الزمان ، حيّ كامل العقل ، ووافقهم على ذلك أكثر أهل الكتاب. ولا خلاف في أنّ سلمان الفارسيّ أدرك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد قارب من عمره أربعمائة عام.
وهب أنّ المعتزلة والخوارج يحملون أنفسهم على دفع الأخبار ، فكيف يمكنهم دفع القرآن وقد نطق بدوام أهل الجنّة والنار ، وجاءت الأخبار بلا خلاف بين الامّة فيها بأنّ أهل الجنّة لا يهرمون ولا يضعفون ، ولا يحدث بهم نقصان في الأنفس ولو كان ذلك منكرا من جهة العقول لما جاء به القرآن ، ولا حصل عليه الإجماع ، ومن اعترف بالخضر عليهالسلام لم يصح منه هذا الاستبعاد ، ومن أنكره حجّته الأخبار ، وجاءت الرواية عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لمّا بعث الله نوحا إلى قومه بعثه وهو ابن خمسين ومائتي سنة ، ولبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاما ، وبقي بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة ، فلمّا أتاه ملك الموت عليهالسلام قال له :يا نوح ، يا أكبر الأنبياء ، ويا طويل العمر ، ويا مجاب الدعوة ، كيف رأيت الدنيا؟قال : مثل رجل بني له بيت له بابان فدخل من واحد وخرج من الآخر » (2).
وكان لقمان بن عاد الكبير أطول الناس عمرا بعد الخضر ، وذلك أنّه عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. ويقال : إنّه عاش عمر سبعة أنسر ، وكان يأخذ فرخ النسر الذكر فيجعله في الجبل فيعيش النسر منها ما عاش ، فإذا مات أخذ آخر فربّاه ، حتّى كان آخرها لبد وكان أطولها عمرا فقيل : أتى أبد على لبد (3).
وعاش الربيع بن ضبع الفزاري ثلاثمائة سنة وأربعين سنة ، وأدرك النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو الذي يقول :
ها أنا ذا آمل الخلود وقد أدرك عمري ومولدي حجرا
أمّا امرئ القيس قد سمعت به هيهات هيهات طال ذا عمرا
وهو القائل :
إذا عاش الفتى مائتين عاما فقد أودى المسرّة والغناء
وله حديث طويل مع عبد الملك بن مروان.
وعاش المستوعر بن ربيعة ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين سنة ، وهو الذي يقول :
ولقد سئمت من الحياة وطولها وعمّرت من بعد السنين سنينا
وعاش أكثم بن صيفي الأسدي ثلاثمائة وستّا وثلاثين سنة ، وهو الذي يقول :
وإن امرأ قد عاش تسعين حجّة إلى مائة لم يسأم العيش جاهل
خلت مائتان غير ستّ وأربع وذلك من عدّ الليالي قلائل
وكان ممّن أدرك النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وآمن به ، ومات قبل أن يلقاه.
وعاش دريد بن زيد أربعمائة سنة وستّا وخمسين سنة ، فلمّا حضره الموت قال :
ألقى عليّ الدهر رجلا ويدا والدهر ما أصلح يوما أفسدا
يفسد ما أصلحه اليوم غدا وعاش دريد بن الصمة مائتي سنة ، وقتل يوم حنين.
وعاش صيف (4) بن رياح بن أكثم مائتي سنة وسبعين سنة ، لا ينكر من عقله شيئا وهو ذو الحلم ، زعموا فيه ما قال المتلمّس :
لذي الحلم قبل اليوم ما يقرع العصا وما علّم الإنسان إلاّ ليعلما
وعاش نصر بن دهمان بن سليم بن أشجع مائة وتسعين سنة حتّى سقطت أسنانه ، وابيضّ رأسه ، فاحتاج قومه إلى رأيه ، فدعوا الله أن يردّ إليه عقله ، فعاد إليه شبابه واسودّ شعره ، فقال في ذلك سلمة بن الخرشب
لنصر بن دهمان الهنيدة عاشها وتسعين حولا ثمّ قوّم فانصاتا
وعاد سواد الرأس بعد بياضه وراجعه شرخ الشباب الذي فاتا
وعاش ممليا في رخاء وغبطة ولكنه من بعد ذا كله ماتا
وعاش ضبيرة بن سعيد السهمي مائتين وعشرين سنة ، وكان أسود الرأس ، صحيح الأسنان.
وعاش عمرو بن حممة الدوسي أربعمائة سنة ، وهو الذي يقول :
كبرت وطال العمر حتّى كأنّني سليم يراعي ليله غير مودع
فلا الموت أفناني ولكن تتابعت عليّ سنون من مصيف ومرتع
ثلاث مئات قد مررن كواملا وها أنا ذا أرتجي مرّ أربع
وروى الهيثم بن عديّ ، عن مجاهد ، عن الشعبي قال : كنّا عند ابن عبّاس في قبّة زمزم وهو يفتي الناس ، فقام إليه أعرابيّ : فقال قد أفتيت أهل الفتوى فافت أهل الشعر.
فقال : قل.
قال : ما معنى قول الشاعر :
لذي الحلم قبل اليوم ما يقرع العصا وما علّم الإنسان إلاّ ليعلما
قال : ذلك عمرو بن حممة الدوسيّ ، قضى على العرب ثلاثمائة سنة ، فلمّا كبر ألزموه السادس أو السابع من ولد ولده ، فقال : إنّ فؤادي بضعة منّي ، فربّما تغيّر عليّ في اليوم مرارا ، وأمثل ما أكون فهما في صدر النهار ، فإذا رأيتني قد تغيّرت فاقرع العصا ، فكان إذا رأى منه تغيّر أقرع العصا فراجعه فهمه.
وعاش زهير بن حباب بن عبد الله بن كنانة بن عوف أربعمائة سنة وعشرين سنة ، وكان سيّدا مطاعا شريفا في قومه.
وعاش الحارث بن مضاض الجرهميّ أربعمائة سنة ، وهو القائل :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكّة سامر
بلى نحن كنّا أهلها فأبارنا صروف الليالي والجدود العواثر
وعاش عامر بن الظرب العدوانيّ مائتي سنة ، وكان من حكماء العرب ، وله يقول ذو الأصبع :
ومنّا حكم يقضي ولا ينقض ما يقضي (5)
فهذا طرف يسير ممّا ذكر من المعمّرين ، وفي إيراد أكثرهم إطالة في الكتاب ، وإذا ثبت أنّ الله سبحانه قد عمّر خلقا من البشر ما ذكرناه من الأعمار ، وبعضهم حجج الله تعالى وهم الأنبياء ، وبعضهم غير حجّة ، وبعضهم كفّار ، ولم يكن ذلك محالا في قدرته ، ولا منكرا في حكمته ، ولا خارقا للعادة ، بل مألوفا على الأعصار ، معروفا عند جميع أهل الأديان ، فما الذي ينكر من عمر صاحب الزمان أن يتطاول إلى غاية عمر بعض من سمّيناه ، وهو حجّة الله تعالى على خلقه ، وأمينه على سرّه ، وخليفته في أرضه ، وخاتم أوصياء نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد صحّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « كلّ ما كان في الامم السالفة فإنّه يكون في هذه الامّة مثله حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة » (6).
هذا وأكثر المسلمون يعترفون ببقاء المسيح عليهالسلام حيّا إلى هذه الغاية ، شابّا قويّا ، وليس في وجود الشباب مع طول الحياة ـ إن لم يثبت ما ذكرناه ـ أكثر من أنّه نقض للعادة في هذا الزمان ، وذلك غير منكر على ما نذكره.
والأمر الآخر أن نسلّم لمخالفينا أنّ طول العمر إلى هذا الحدّ مع وجود الشباب خارق للعادات ـ عادة زماننا هذا وغيره ـ وذلك جائز عندنا وعند أكثر المسلمين ، فإنّ إظهار المعجزات عندهم وعندنا يجوز على من ليس بنبيّ ، من إمام أو وليّ ، لا ينكر ذلك من جميع الامّة إلاّ المعتزلة والخوارج ، وإن سمّى بعض الامّة ذلك كرامات لا معجزات ، ولا اعتبار بالأسماء ، بل المراد خرق العادات ، ومن أنكر ذلك في باب الأئمّة فإنّا لا نجد فرقا بينه وبين البراهمة في إنكارهم إظهار المعجزات ونقض العادات لأحد من البشر ، وإلاّ فليأت القوم بالفصل ، وهيهات.
الهوامش
(1) في نسخة « م » : المعصية.
(2) راجع كتاب المقنع في الغيبة للسيّد المرتضى رحمهالله تعالى ، والمنشور محققا على صفحات مجلة تراثنا الفصلية ، العدد 27 ، الصفحة 155
(3) كمال الدين : 559.
(4) في نسخة « م » : صيفي.
(5) انظر : كمال الدين : 549 ، كشف الغمة 2 : 543
(6) كمال الدين : 576 ، عيون أخبار الرضا عليهالسلام 2 : 201 / 1.
ضمن كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى - ج 2 الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي
التعلیقات