هل بالإمكان أن يعيش الانسانُ قروناً طويلة ؟!
مركز الرسالة
منذ ساعةإن أهم ما يثيرونه في هذا المجال ، ويروّجون له باستمرار قديماً وحديثاً ، هو قولهم : إذا كان المهدي يُعبّرُ عن إنسان حيّ عاصرَ الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من أحدَ عشرَ قرناً فكيف تأتّى له هذا العمر الطويل ؟ وكيف نجا من القوانين الطبيعية التي تحتمّ مروره بمرحلة الشيخوخة (1) !!
ومن الجائز أن نطرح الشبهة بصورة سؤالٍ كأن يقال : هل بالإمكان أن يعيش الانسانُ قروناً طويلة ؟!
وللإجابة عن هذا السؤال لابدَّ من التمهيد ببحث مسألة الإمكان هنا. فهناك ثلاثة أنواع متصورة للإمكان :
الأول : ما يصطلح عليه بالإمكان العملي ، ويُراد به ما هو ممكن فعلاً وواقعاً. أي له تحقق ووجود ظاهر ومتعين.
والثاني : مايصطلح عليه بالامكان العلمي ، ويُراد به ما هو غير ممتنعٍ من الناحية العلمية الصِرفة ، أي أنَّ العلم لا يمنع وقوعه وتحققه ووجوده فعلاً.
والثالث : ما يصطلح عليه بالامكان المنطقي ، ويُراد به ما ليس مستحيلاً عقلاً ، أي أنَّ العقل لا يمنع وقوعه وتحققه.
واستناداً الى هذا نعرض المسألة كالآتي مبتدئين بالإمكان المنطقي فنقول :
هل إنَّ امتداد عمر الانسان مئات السنين ممكن منطقياً ، أي ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية ؟
والجواب : نعم بكل تأكيد ، فقضية امتداد العمر فوق الحدّ الطبيعي أضعافاً مضاعفةً ليست في دائرة المستحيل ، كما هو واضح بأدنى تأمل. نعم هو ليس مألوفاً ومشاهداً ، ولكن هناك حالات ، نقلها أهل التواريخ ، وتناقلتها بعض النشرات العلمية ، تجعل الانسان لا يستغرب ولا ينكر ، على أنَّ الغرابة ترتفع تماماً عندما يقرع سمعَ المسلم صوتُ الوحي ومنطوق القرآن في النبي نوح عليهالسلام : ﴿ وَلَقَدْ أرْسَلْنَا نوُحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ﴾ (2) ولتقريب مسألة الامكان بهذا المعنى نضربُ مثالاً كالآتي : لو أنَّ أحداً قال لجماعةٍ إني أستطيع أن أعبرَ النهر ماشياً ، أو أجتاز النارَ دون أن أُصابَ بسوء ، فلا بدَّ أن يستغربوا وينكروا ، لكنه لو حقّق ما قاله بالفعل فعبر النهر ماشياً أو اجتاز النار بسلام ؛ فإنَّ انكارهم واستغرابهم سيزول عند ذلك. فلو جاء آخر وقال مثلَ مقالة الأول ، فإنَّ درجة الاستغراب ستقلُّ ، وهكذا لو جاء ثالث ورابع وخامس ، فإنَّ ما وقع منهم من الاستغراب أوّل مرّة سوف لا يبقى على حالته وقوّته في المرة الخامسة ، بل يضعف جداً الى أنْ يزول.
وهكذا نقول في مسألتنا ، فإنَّ القرآن قد أخبر : أن نوحاً عليهالسلام لبثَ في قومه ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً ، وهذا غير عمره قبل النبوّة ! وأن عيسى عليهالسلام لم يمت وإنما رفعه الله إليه كما في قوله تعالى : ﴿ وَقَوْلِهِمْ إنّا قَتَلْنَا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وما صَلَبُوه وَلَكِنْ شُبِّه لَهُمْ وإِنّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فيهِ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مَالَهُم بِهِ من عِلْمٍ إلاّ اتباع الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ، بَل رَفَعَهُ اللهُ إليهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكيماً ﴾ (3).
وأيضاً فقد جاء في روايات الصحيحين ( البخاري ومسلم ) أنّه سينزل إلى الأرض ، وكذلك جاء فيهما أن الدجال موجود حي (4).
وعليه فعندما تتحدث الروايات الصحيحة ويشهد الشهود ، وتتوالى الاعترافات بوجود ( المهدي ) من عترة الرسول الأكرم ، من ولد فاطمة ، نجل الحسن العسكري الذي ولد سنة ( ٢٥٥ ه ) ، فسوف لا يبقى عند ذلك وجه للاستغراب والانكار إلا عناداً واستكباراً.
وقد جاء في تفسير الرازي : « قال بعض الأطباء : العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة ، والآية تدلّ على خلاف قولهم ، والعقل يوافقها ، فإنَّ البقاء على التركيب الذي في الإنسان ممكن لذاته وإلاّ لما بقى ، ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن ؛ لأن المؤثر فيه إنْ كان واجب الوجود فظاهر الدوام ، وإن كان غيره فله مؤثر ، وينتهي الى الواجب وهو دائم ، فتأثيره يجوز أن يكون دائماً. فإذن البقاء ممكن في ذاته ، فإن لم يكن فلعارض ، لكن العارض ممكن العدم ، وإلاّ لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع. فظهر أنَّ كلامهم على خلاف العقل والنقل » (5).
هكذا برهن الرازي على جواز طول عمر الانسان بخلاف المعتاد كما هو الثابت في طول عمر عيسى عليهالسلام ، والبرهان نفسه يصح الاستدلال به على طول عمر المهدي عليهالسلام ، ويقرّب هذا الاستدلال اتفاق الصحاح وغيرها على نزول عيسى في آخر الزمان لمساعدة المهدي على قتل الدجال وقد عرفت الجواب عن سؤال : من هو الإمام المهدي ؟ مفصلاً.
وننقل الكلام الى الامكان العملي :
ونتساءل :
هل إنَّ الامكان العملي بالنسبة الى نوع الانسان متاحٌ الآن ، وتساعد عليه التجربة أم لا ؟
والجواب : إنَّ التجارب المعاصرة في ضوء الامكانات المتاحة والظروف الموجودة لم تنجح لحد الآن في تحقيق مثل هذه الحالة ، أي اطالة عمر الانسان إلى حدٍّ أكثر من ضعفٍ أو ضعفي العمر الطبيعي ، وهذا أمرٌ مشهود لا يحتاج إلى برهان.
وهذا لا يدل على عدم طول عمر الانسان ، لان الامكان العملي ينحصر بمحاولات اطالة العمر الطبيعي للانسان بيد الانسان نفسه ، إلاّ أن الاعمار بيد الله عزّ وجل ، اذن تدخل الانسان في إطالة العمر على خلاف التقدير غير ممكن.
نعم انه سبحانه يوفر الأسباب الكفيلة بادامة حياة المعمرين إلى حين أجلهم ، ودور العلم هنا اكتشاف تلك الأسباب لا أكثر إذ ليس بمقدوره إبداع الأسباب لا نحصارها بيده عزوجل بلا خلاف ، وعلى هذا يُفسر الامكان العلمي الآتي الذي ننقل الكلام اليه ، فنتساءَل :
هل إنَّ زيادة عمر إنسان أكثر من الحدّ الطبيعي المعتاد ممكن علمياً أم لا ؟!
والجواب : أولاً : نعم هي في دائرة الامكان العلمي ، ولدينا شواهد وأرقام كثيرة تؤكد إمكانها علمياً ، منها :
١ ـ إنَّ التجارب العلمية آخذةٌ بالازدياد لإطالة عمر الانسان أكثر من المعتاد ، وهذه التجارب حثيثة وجادة لتعطيل قانون الشيخوخة ، فقد جاء في مجلة المقتطف المصرية ، الجزء الثاني من المجلد ٥٩ ، الصادرة في آب ( اغسطس ) ١٩٢١ م ، الموافق ٢٦ ذي القعدة سنة ١٣٣٩ ه ص ٢٠٦ تحت عنوان ( خلود الانسان على الارض ) ما هذا لفظه :
قال الاستاذ ( ريمند بول ) أحد أساتذة جامعة جونس هبكنس بأمريكا : « إنه يظهر من بعض التجارب العلمية أنَّ أجزاء جسم الانسان يمكن أن تحيا الى أيّ وقتٍ أُريد ، وعليه فمن المحتمل أن تطول حياة الانسان الى مائة سنة ، وقد لا يوجد مانع يمنع من إطالتها الى ألف سنة ».
وذكرت هذه المجلة في العدد الثالث من المجلد ٥٩ الصادر في أيلول من نفس العام ص ٢٣٩ ، « إنه في الإمكان أن يبقى الانسان حيّاً أُلوفاً من السنين إذا لم تعرض عليه عوارض تصرم حبلَ حياته ، وقولهم هذا ليس مجرد ظن ، بل نتيجة عملية مؤيدة بالامتحان ».
ونكتفي بهذا القدر في تأييد ما ذكرناه من الامكان العلمي ، الذي يسعى العلماء جاهدين لتحويله الى إمكان عملي واقعي فعلي.
ـ وفي كتاب صدر حديثاً بعنوان حقائق أغرب من الخيال الجزء الأول ص : ٢٤ نشر مؤسسة الايمان ـ بيروت ، ودار الرشيد / دمشق.
جاء فيه : توفي ( بيريرا ) في عام ١٩٥٥ م في وطنه الاَُم مونتريا في سن ١٦٦ عاماً ، وقد شهد على عمره أصدقاؤه ، وسجلاّت مجلس البلدية ، وبيريرا نفسه الذي استطاع أن يتذكر بوضوح كبير معركة كاراجينا ( حدثت في عام ١٨١٥ م ) ! وفي نهاية حياته أُحضر الى نيويورك حيث فحصه جمع من الأطباء المختصين ، ومع أنهم وجدوه محتفظاً بضغط دم رجل شاب ، ونبض شرياني صحيح وقلب جيد ، وعقل شاب ، فقد قرروا أنه رجل عجوز جداً أكثر من ١٥٠ عاماً.
وجاء في ص ٢٣ ، أن توماس بار عاش ١٦٢ عاماً.
على أنّ السجستاني صاحب السنن قد ألّف كتاباً باسم ( المعمّرون ) ذكر فيه الكثير من المعمرين ، وفيهم من تجاوزت أعمارهم خمسمائة سنة.
٣ ـ إنَّ مجرد إجراء التجارب من قبل الاَطباء للتعرف على مرض الشيخوخة ، وأسباب الموت ، والمحاولات الدائبة من قِبَلهم ونجاحها ولو بقدر محدود لإطالة عمر الانسان ، لهو دليل على الإمكان ، وإلاّ لكان تصرفهم عبثاً ، خلاف العقل.
« وفي ضوء ذلك كله لا يبقى مبرر منطقي للاستغراب والانكار بخصوص ( قضية المهدي ) اللهمّ إلا أن يسبق ( المهدي ) العلمَ نفسه ، فيتحول الامكان النظري ( العلمي ) الى امكان عملي في شخصه ، قبل أن يصلَ العلمُ في تطوره الى مستوى القدرة الفعلية. وهذا أيضاً لا يوجد مبررٌ عقليٌّ لاستبعاده وإنكاره ؛ إذ هو نظير من يسبق العلمَ في اكتشاف دواءٍ للسرطان مثلاً. ومثل هذا السِبق في الفكر الاسلامي قد حصل في أكثر من مفردةٍ وعنوانٍ ، فقد سجّلَ القرآن الكريم نظائر ذلك حين أوردَ وأشارَ الى حقائق علمية تتعلق بالكونِ وبالطبيعةِ وبالانسانِ ، ثم جاءت التجارب العلمية الحديثة لتزيحَ عنها الستار أخيراً. ثم لماذا نذهب بعيداً وأمامنا القرآن الكريم يصرّح ( بالامكان العملي ) فيما يتعلق بعمر نوحٍ عليهالسلام » (6) ؟
وكذلك صرّحت الآثار النبوية بوجود أشخاص أحياء منذ قرون متطاولةٍ ؛ كالخضرِ ، والنبي عيسى عليه السلام ، والدجّال على ما نقله مسلمٌ في صحيحه من حديث الجساسة. فلماذا نؤمن بمثل هذه الوجودات المشخصة ، مع انّهم ليس لهم من دورٍ أو أهميةٍ فيما يتعلق بمستقبل الإسلام إلاّ المسيح الذي سيكون وزيراً ومساعداً للمهدي وقائداً لجيوشه كما في الكثير من روايات الظهور.
ولماذا ينكر البعض حياة المهدي الذي سيكون له ذلك الدور الأعظم ، « يمللأ الأرض قسطاً وعدلاً .. » وينزل عيسى ليصلي خلفه (7) ؟!!
ثانياً : لو افترضنا قانون الشيخوخة قانوناً صارماً ، وإطالة عمر الانسان أكثر من الحد الطبيعي والمعتاد هو خلاف القوانين الطبيعية التي دلّنا عليها الاستقراء ؛ فالأمرُ بالنسبةِ للمهدي عليهالسلام يكون حينئذٍ من قبيل المعجزة ، وهي ليست حالة فريدة في التاريخ.
ثم إنَّ الأمر بالنسبة للمسلم الذي يستمد عقيدتَه من القرآن الكريم والسُّنة المشرفة ليس منكراً أو مستغرباً ، إذ هو يجدُ أن القانون الطبيعي الذي هو أكثر صرامةً قد عُطّلَ ، كالذي حَدَثَ بالنسبةِ للنبي إبراهيم عليهالسلام عندما أُلقي في النار العظيمة فأنجاه الله تعالى بالمعجزة ، كما صرَّح القرآن قائلاً : ﴿ قلنا يا نارُ كوني بَرْدَاً وسلاماً على إبراهيم ﴾ (8).
وهذه المعجزة وأمثالها من معاجز الانبياء ، والكرامات التي أختصَّ الله بها أولياءه ، قد أصبحت بمفهومها الديني أقرب إلى الفهم بدرجةٍ أكبر بكثير في ضوء المعطيات العلمية الحديثة والانجازات الكبيرة التي حققها العلماء بوسائلهم المادية. فلقد بدأنا نشهدُ من الاختراعات والاكتشافات التي لو حُدّثنا عنها سابقاً لاَنكرناها غايةَ الاِنكار ثم ها هي بأيدينا الآن نستخدمها ونلهو بها أحياناً ، فمثلاً ( التلفزيون ) ، فلقد كنّا نقرأ في الروايات في أبواب الملاحم ( أنه سيكون في آخر الزمان يَرى ويسمع من في المشرق من هو في المغْرِب .. ). وربما عَدَّ بعضُهم ذلك ضرباً من اللامعقول ، ثم ها نحن نشهده ونشاهده. واستناداً إلى ذلك نقول : إنَّ استبعاد أمرٍ وإنكاره لمجرد عدم وجودِ حالةٍ مماثلة أو مقاربة نشاهدها ، ليس مقبولاً منطقياً وليس مبرِّراً علمياً ، إذا كان الأمر يقع في دائرة الامكان العلمي والمنطقي ، وقامت عليه الشواهد والأدلة.
ونظير تلك الاخبار المنبئة في تراثنا عن بعض الاكتشافات العلمية الباهرة ، الاخبار الاَُخرى المُنبئة باعجاز عن ظهور الإمام المهدي بما ينطبق تمام الانطباق مع معطيات الحضارة المعاصرة.
فقد ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام انه قال : « إنَّ قائمنا اذا قام مدَّ الله عزوجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد ، يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه في مكانه » (9).
الهوامش
1. هذه الشبهة مطروحة في كتب العقائد منذ القرون البعيدة ، وقد ذكرها وتصدى للاجابة عنها كبار علماء الإمامية ، بوجوهٍ جديدة ومن أبعاد مختلفة ، ونحن نتعرّض لبعضها فقط.
2. العنكبوت : ٢٩ / ١٤.
3. النساء : ٤ / ١٥٧ ـ ١٥٨.
4. فصلنا الحديث عن أحاديث نزول عيسى وأحاديث خروج الدجال في الصحيحين ( البخاري ومسلم ) وذكرنا من اعتبرها عقيدة ثابتة لأهل السنة مع تصريحهم ببقاء الدجال حياً إلى آخر الزمان وان عيسى عليهالسلام سينزل في آخر الزمان ليساعد الإمام المهدي عليهالسلام على قتله ، راجع الفصل الثالث ( التذرع بخلو الصحيحين من أحاديث المهدي ).
5. التفسير الكبير / الرازي ٢٥ : ٤٢.
6. راجع بحث حول المهدي / الشهيد محمد باقر الصدر.
7. اعترف بهذا خمسة من شارحي صحيح البخاري كما مرّ مفصلاً في أول الفصل الثالث ، فراجع.
8. سورة الانبياء : ٢١ / ٦٩.
9. روضة الكافي ٨ : ٢٠١ / ٣٢٩.
مقتبس من كتاب المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي / مركز الرسالة / المجلّد : 1 / الصفحة : 167 ـ 174.
التعلیقات