أحداث قبل شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 10 ساعاتعندما نتأمل في سيرة الأئمة الأطهار عليهم السلام، ندرك أن حياتهم لم تكن حياةً عادية كسائر الناس، بل كانت حياة قيادة إلهية شاملة، تمثل الامتداد الحقيقي للنبوة. فقد اجتمعت فيهم مراتب العلم والعصمة والهداية، وكانوا مشاعل نور تهدي الأمة، ومواقف عزّ تتحدى الظلم، ورسالة سماوية متكاملة لا تنحصر في جانب واحد من جوانب العبادة أو الزهد، بل تمتد إلى بناء الأمة وحماية العقيدة وصيانة الدين من الانحراف. ومن بين تلك الصفحات المضيئة، تبرز حياة الإمام الحسن العسكري عليه السلام، الإمام الحادي عشر، الذي عاش في قلب واحدة من أعقد المراحل التاريخية. فقد اجتمع على الإمام حصار سياسي خانق، ومراقبة عسكرية مشددة، وشكوك متصاعدة من الدولة العباسية التي كانت تدرك من الروايات النبوية أن الموعود المنتظر سيولد في بيت الإمام الحسن العسكري عليه السلام. ولهذا أحاطوا بيته بالجواسيس، يترقبون لحظة الولادة، ويحاولون أن يضعوا حداً لامتداد الإمامة الإلهية.
وسط هذه الأجواء الملتهبة، لم يكن همّ الإمام الحسن العسكري هو نفسه ولا حياته الشخصية، بل كان همه الأكبر كيف يحفظ الحجة الإلهية من بعده، وكيف يعرّف شيعته على الإمام الذي سيخلفه، رغم شدة الخوف والرقابة. لقد كان يعرف أن لحظة رحيله ستفتح الباب على مرحلة تاريخية جديدة، هي مرحلة الغيبة، وأن الأمة بحاجة إلى إعداد فكري وروحي ونفسي كي تتحمل هذا الامتحان العسير. لذلك نجد أن كل خطوة من خطواته الأخيرة كانت مدروسة، وكل كلمة قالها كانت تؤسس لمرحلة ممتدة حتى يومنا هذا.
ومن أبرز ما وصلنا من تلك المرحلة الحساسة، نصوص وروايات صريحة، يرويها الثقات من أصحاب الإمام، وفيها إعلان مباشر بأن ولده محمد بن الحسن هو الإمام والخليفة من بعده، وأنه سيكون غائباً عن الأنظار، وعلى الشيعة أن يتمسكوا به ويطيعوه عبر وكلائه المخلصين. هذه النصوص تكشف لنا عمق الأزمة التي عاشها الإمام، وفي الوقت نفسه تظهر عظمته وحكمته في كيفية إدارة المرحلة الانتقالية من حضور الإمام إلى غيبته.
النص الأول
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ الْبَزَّازُ ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ بِلَالٍ ، وَ أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ ، وَ مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَكِيمٍ ، وَ الْحَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ مَشْهُور ،ٍ قَالُوا جَمِيعاً : اجْتَمَعْنَا إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام نَسْأَلُهُ عَنِ الْحُجَّةِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَ فِي مَجْلِسِهِ عليه السلام أَرْبَعُونَ رَجُلًا ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْعَمْرِيُّ فَقَالَ لَهُ : « يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ أَمْرٍ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ : اجْلِسْ يَا عُثْمَانُ ، فَقَامَ مُغْضَباً (1) لِيَخْرُجَ فَقَالَ : لَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ. فَلَمْ يَخْرُجْ مِنَّا أَحَدٌ إِلَى أَنْ كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ ، فَصَاحَ عليه السلام بِعُثْمَانَ فَقَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ. فَقَالَ : أُخْبِرُكُمْ بِمَا جِئْتُمْ. قَالُوا : نَعَمْ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ : جِئْتُمْ تَسْأَلُونِّي عَنِ الْحُجَّةِ مِنْ بَعْدِي. قَالُوا : نَعَمْ. فَإِذَا غُلَامٌ كَأَنَّهُ قِطَعُ قَمَرٍ أَشْبَهُ النَّاسِ بِأَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام، فَقَالَ : هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي ، وَ خَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ أَطِيعُوهُ ، وَ لَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فَتَهْلِكُوا فِي أَدْيَانِكُمْ . أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهُ مِنْ بَعْدِ يَوْمِكُمْ هَذَا حَتَّى يَتِمَّ لَهُ عُمُرٌ، فَاقْبَلُوا مِنْ عُثْمَانَ مَا يَقُولُهُ وَ انْتَهُوا إِلَى أَمْرِهِ ، وَ اقْبَلُوا قَوْلَهُ فَهُوَ خَلِيفَةُ إِمَامِكُمْ وَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ » (2).
النص الثاني
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ حُكَيْمٍ وَ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ وَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَمْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالُوا عَرَضَ عَلَيْنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام وَ نَحْنُ فِي مَنْزِلِهِ ، وَ كُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا. فَقَالَ : « هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي ، وَ خَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ ، أَطِيعُوهُ وَ لَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فِي أَدْيَانِكُمْ فَتَهْلِكُوا ، أَمَا إِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهُ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا (3). قَالُوا : فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَمَا مَضَتْ إِلَّا أَيَّامٌ قَلَائِلُ حَتَّى مَضَى أَبُو مُحَمَّدٍ عليه السلام » (4).
شرح وبيان الموارد في الروايتين
1. الظرف الأمني والسياسي
هذان النصان يكشفان أن الإمام العسكري عليه السلام كان يعيش تحت رقابة لا تُطاق. أربعون رجلاً يجتمعون في بيته ليس بالأمر العادي، بل حدث استثنائي تمّ بسرية، لأن مجرد الإعلان عن وجود ولد له كان كافياً لإثارة نقمة العباسيين، الذين كانوا يترقبون ظهور المهدي. ولذلك جاء إعلان الإما عليه السلام بحضور هذا العدد الكبير ليثبت القضية بالشهادة الجماعية ويقطع الطريق على أي تشكيك لاحق.
2. إظهار الإمام المهدي عليه السلام
في الرواية الأولى نرى الإمام العسكري يُخرج غلاماً كأنه "قطع قمر"، ويؤكد أنه الإمام والخليفة من بعده. هذا التصريح المباشر في ظرف الخوف يبين عظمة شجاعة الإمام عليه السلام. كان يعرف أنه يقترب من شهادته، وأن الفرصة ضيقة للتعريف بالحجة، ومع ذلك لم يترك الأمة في حيرة.
3. سرية الرؤية وبدء الغيبة
كلا النصين يشيران إلى أن هذا الغلام لن يُرى بعد ذلك اليوم. هذا هو التمهيد المباشر لفكرة الغيبة. لم يكن الأمر صدفة، بل إعلان مدروس: الإمام موجود، لكنكم لن تروه كما اعتدتم رؤية الأئمة عليهم السلام من قبل. هذا التحول كان صادماً وصعباً على النفوس، لذلك أكد الإمام أن الطاعة واجبة وأن الانقسام بعده سيكون هلاكاً في الدين.
4. دور السفراء
الرواية الأولى تذكر بوضوح أن على الشيعة قبول ما يقوله عثمان بن سعيد ، لأنه سيكون سفيراً للإمام الغائب. هذا أول تأسيس رسمي لمؤسسة النيابة الخاصة، التي استمرت طوال الغيبة الصغرى، وكانت صلة الوصل بين الأمة والإمام.
5. الحصار الفكري
الإمام لم يواجه فقط مراقبة عسكرية، بل أيضاً ضغوط فكرية. كانت هناك تيارات منحرفة تدعي الإمامة أو تحاول التشكيك فيها. لذلك كان لزاماً على الإمام عليه السلام أن يوضح هوية الحجة بجلاء، وأن يجمع عدداً كبيراً من الشهود لقطع الطريق على أي ادعاء.
6. الإحساس بالخطر الداهم
من الملفت أن الرواية الثانية تذكر أن الإمام توفي بعد أيام قليلة من هذا الإعلان. وكأن الإمام كان يستشعر قرب أجله، فسارع إلى أداء أمانته بتعريف الأمة بخليفته. وهكذا انتقل ثقل الإمامة إلى ولده وهو في عمر صغير، لكنه محاط بعناية الله وإرادته.
7. التمهيد للغيبة الكبرى
الروايات هنا ليست مجرد قصص تاريخية، بل تأسيس لمشروع طويل الأمد. فالإمام العسكري عليه السلام أراد أن يقول لأصحابه: هذه آخر مرة ترون فيها إمامكم مباشرة، ومن بعد ذلك سيكون الطريق عبر وسائط موثوقة. وبهذا مهّد لقرون من الغيبة الكبرى التي نعيشها اليوم.
الخاتمة
هكذا نرى أن الإمام الحسن العسكري عليه السلام عاش آخر أيامه مثقلاً بالهموم، محاصراً من قبل الطغاة، لكنه لم يتخلَّ عن مسؤوليته الكبرى. لقد نجح في إيصال الرسالة، وعرّف شيعته على الإمام من بعده، وأسس لمرحلة الغيبة بكل وعي ودقة. كان همه أن لا يضل الناس بعده، وأن يبقى نور الإمامة مشعلاً لا ينطفئ.
واليوم، وبعد مرور القرون، ما زلنا نعيش في زمن الغيبة، وما زالت وصايا الإمام العسكري عليه السلام ترنّ في الأسماع: الطاعة، الوحدة، التمسك بالحجة، وعدم الافتراق.
نسأل الله تعالى أن يعجّل في فرج إمامنا المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه، وأن يقرّ أعين المؤمنين بظهوره المبارك ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
الهوامش
1. من البعيد جداً أنّ مثل عثمان وهو صاحب المقام السامي والنائب الأوّل يغضب من سيّده ومولاه لأجل كلمة أو أمر صدر منه ، فالظاهر أنّ الراوي تصوَّر محاولة خروج عثمان إنّما هو لأجل غضبه وامتعاضه ، وهو تصوّر خاطئ من قِبَله.
2. الغيبة / الشيخ الطوسي / المجلّد : 1 / الصفحة : 357.
3. يعني أكثركم، أو عن قريب، فان الظاهر أن محمّد بن عثمان العمرى كان يراه في أيّام سفارته. و يحتمل ايصال الكتب إليه من وراء الحجاب أو بوسائط. لكن ينافيه الخبر الآتي و كذا ما سيأتي في الباب من أنّه شاهد القائم عليه السلام.
4. كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 2 / الصفحة : 435.
التعلیقات