دلالة رواية حكيمة بنت الإمام الجواد على ولادة الإمام المهدي عليه السلام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 4 ساعاتمعجزة ولادة الإمام الحجة عليه السلام
إنّ مسألة ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ليست حدثاً تاريخياً عابراً، بل هي امتداد لسلسلة النور الإلهي الذي لم ينقطع عن الأرض منذ خلق الله آدم، إذ لا تخلو الأرض من حجة لله، ناطقة كانت أو صامتة، ظاهرة أو خفية، قائمة بالعدل أو غائبة عن الأنظار انتظاراً للأمر الإلهي. فوجود الحجة ضرورة في نظام الخلق، وبدونها تختلّ سنّة الله في عباده، كما ورد في قول الأئمة عليهم السلام: « لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ رُفِعَ مِنَ الْأَرْضِ سَاعَةً لَسَاخَتْ بِأَهْلِهِ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ بِأَهْلِهِ » (1).
ومن الخصائص التي ميز الله بها خط الإمامة بعد الإمام الحسن والحسين عليهما السلام أنّ الإمامة لا تجتمع في أخوين بعدهما، وهذا أصل راسخ في العقيدة الإمامية. فبعد السبطين صارت الإمامة في ذرية الإمام الحسين عليه السلام خاصة، كما أراد الله سبحانه، لحكمةٍ بالغةٍ وتدبيرٍ إلهيّ عميق. فكل إمام بعد الإمام الحسين عليه السلام هو من ذريته المباشرة، ولا يصحّ أن تنتقل الإمامة إلى أخٍ لأخيه كما حاول بعض أن يدّعي لجعفر بعد الإمام الحسن العسكري عليه السلام. وقد أكّدت روايات أهل البيت هذا المبدأ لتقطع طريق الادعاء والالتباس في أزمنة الحيرة.
ثم إنّ الله تعالى قد فضّل ذرية الإمام الحسين على ذرية الإمام الحسن عليهما السلام تفضيلاً خاصاً، لا من باب الانتقاص، بل من باب الاصطفاء الإلهي للذرية التي حملت الإمامة الإلهية، تماماً كما خصّ الله ذرية هارون بالفضل في النبوة دون ذرية موسى عليه السلام، رغم أن موسى كان النبيّ الأكبر والحجة على هارون. فهذا التخصيص تشريف وامتداد لوعد الله في بقاء الحجة من نسل الحسين إلى يوم القيامة.
أما النقطة الرابعة فهي الأساس الذي يقوم عليه الإيمان بولادة الإمام المهدي عليه السلام، وهي أن الإمام الحسن العسكري عليه السلام كان له عقبٌ طاهرٌ، وهو ابنه ووارثه الإمام م ح م د بن الحسن المهدي عليه السلام، الذي ولد في ظروف غاية في الخفاء لحكمةٍ إلهيةٍ أرادت أن تحفظ الحجة من أعين الطغاة. ولادة الإمام كانت آيةً من آيات الله، إذ اجتمع فيها الإعجاز والسرّ الإلهي، حتى شهدتها عمّته الجليلة السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام، وروت تفاصيلها في حديثها المشهور الذي نقله شيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة، فكان هذا الحديث من أوضح وأثبت الشهادات على تحقق الولادة المباركة.
وفيما يلي نص الرواية كما روتها السيدة حكيمة عليها السلام:
ورد في كتاب كما الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق رحمه الله أنه قال : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطُّهَوِيُ قَالَ: قَصَدْتُ حَكِيمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ عليه السلام بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام أَسْأَلُهَا عَنِ الْحُجَّةِ وَ مَا قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْحَيْرَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا فَقَالَتْ لِي اجْلِسْ فَجَلَسْتُ ثُمَّ قَالَتْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لَا يُخْلِي الْأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ نَاطِقَةٍ أَوْ صَامِتَةٍ وَ لَمْ يَجْعَلْهَا فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ عليه السلام تَفْضِيلًا لِلْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ وَ تَنْزِيهاً لَهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ عَدِيلُهُمَا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى خَصَّ وُلْدَ الْحُسَيْنِ بِالْفَضْلِ عَلَى وُلْدِ الْحَسَنِ عليه السلام كَمَا خَصَّ وُلْدَ هَارُونَ عَلَى وُلْدِ مُوسَى عليه السلام وَ إِنْ كَانَ مُوسَى حُجَّةً عَلَى هَارُونَ وَ الْفَضْلُ لِوُلْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ حَيْرَةٍ يَرْتَابُ فِيهَا الْمُبْطِلُونَ وَ يَخْلُصُ فِيهَا الْمُحِقُّونَ كَيْ لَا يَكُونَ لِلْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ وَ إِنَّ الْحَيْرَةَ لَا بُدَّ وَاقِعَةٌ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ عليه السلام فَقُلْتُ يَا مَوْلَاتِي هَلْ كَانَ لِلْحَسَنِ عليه السلاموَلَدٌ فَتَبَسَّمَتْ ثُمَّ قَالَتْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَسَنِ عليه السلام عَقِبٌ فَمَنِ الْحُجَّةُ مِنْ بَعْدِهِ وَ قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ لَا إِمَامَةَ لِأَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ عليه السلام فَقُلْتُ يَا سَيِّدَتِي حَدِّثِينِي بِوِلَادَةِ مَوْلَايَ وَ غَيْبَتِهِ عليه السلام قَالَتْ نَعَمْ كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَرْجِسُ فَزَارَنِي ابْنُ أَخِي فَأَقْبَلَ يَحْدِقُ النَّظَرَ إِلَيْهَا فَقُلْتُ لَهُ يَا سَيِّدِي لَعَلَّكَ هَوِيتَهَا فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ فَقَالَ لَهَا لَا يَا عَمَّةِ وَ لَكِنِّي أَتَعَجَّبُ مِنْهَا فَقُلْتُ وَ مَا أَعْجَبَكَ مِنْهَا فَقَالَ عليه السلام سَيَخْرُجُ مِنْهَا وَلَدٌ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ الَّذِي يَمْلَأُ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ عَدْلًا وَ قِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَ ظُلْماً فَقُلْتُ فَأُرْسِلُهَا إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي فَقَالَ اسْتَأْذِنِي فِي ذَلِكَ أَبِي عليه السلام قَالَتْ فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَ أَتَيْتُ مَنْزِلَ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام فَسَلَّمْتُ وَ جَلَسْتُ فَبَدَأَنِي عليه السلام وَ قَالَ يَا حَكِيمَةُ ابْعَثِي نَرْجِسَ إِلَى ابْنِي أَبِي مُحَمَّدٍ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي عَلَى هَذَا قَصَدْتُكَ عَلَى أَنْ أَسْتَأْذِنَكَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لِي يَا مُبَارَكَةُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى أَحَبَّ أَنْ يُشْرِكَكِ فِي الْأَجْرِ وَ يَجْعَلَ لَكِ فِي الْخَيْرِ نَصِيباً قَالَتْ حَكِيمَةُ فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ رَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَ زَيَّنْتُهَا وَ وَهَبْتُهَا لِأَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام وَ جَمَعْتُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَهَا فِي مَنْزِلِي فَأَقَامَ عِنْدِي أَيَّاماً ثُمَّ مَضَى إِلَى وَالِدِهِ عليه السلام وَ وَجَّهْتُ بِهَا مَعَهُ قَالَتْ حَكِيمَةُ فَمَضَى أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام وَ جَلَسَ أَبُو مُحَمَّدٍ عليه السلام مَكَانَ وَالِدِهِ وَ كُنْتُ أَزُورُهُ كَمَا كُنْتُ أَزُورُ وَالِدَهُ فَجَاءَتْنِي نَرْجِسُ يَوْماً تَخْلَعُ خُفِّي فَقَالَتْ يَا مَوْلَاتِي نَاوِلِينِي خُفَّكِ فَقُلْتُ بَلْ أَنْتِ سَيِّدَتِي وَ مَوْلَاتِي وَ اللَّهِ لَا أَدْفَعُ إِلَيْكِ خُفِّي لِتَخْلَعِيهِ وَ لَا لِتَخْدُمِينِي بَلْ أَنَا أَخْدُمُكِ عَلَى بَصَرِي فَسَمِعَ أَبُو مُحَمَّدٍ عليه السلام ذَلِكَ فَقَالَ جَزَاكِ اللَّهُ يَا عَمَّةِ خَيْراً فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ إِلَى وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَصِحْتُ بِالْجَارِيَةِ وَ قُلْتُ نَاوِلِينِي ثِيَابِي لِأَنْصَرِفَ فَقَالَ عليه السلام لَا يَا عَمَّتَا بِيتِيَ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا فَإِنَّهُ سَيُولَدُ اللَّيْلَةَ الْمَوْلُودُ الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ الَّذِي يُحْيِي اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فَقُلْتُ مِمَّنْ يَا سَيِّدِي وَ لَسْتُ أَرَى بِنَرْجِسَ شَيْئاً مِنْ أَثَرِ الْحَبَلِ فَقَالَ مِنْ نَرْجِسَ لَا مِنْ غَيْرِهَا قَالَتْ فَوَثَبْتُ إِلَيْهَا فَقَلَبْتُهَا ظَهْراً لِبَطْنٍ فَلَمْ أَرَ بِهَا أَثَرَ حَبَلٍ فَعُدْتُ إِلَيْهِ عليه السلام فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فَعَلْتُ فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ لِي إِذَا كَانَ وَقْتُ الْفَجْرِ يَظْهَرُ لَكِ بِهَا الْحَبَلُ لِأَنَّ مَثَلَهَا مَثَلُ أُمِّ مُوسَى عليها السلام لَمْ يَظْهَرْ بِهَا الْحَبَلُ وَ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ إِلَى وَقْتِ وِلَادَتِهَا لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَشُقُّ بُطُونَ الْحُبَالَي فِي طَلَبِ مُوسَى عليه السلام وَ هَذَا نَظِيرُ مُوسَى عليه السلام قَالَتْ حَكِيمَةُ فَعُدْتُ إِلَيْهَا فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا قَالَ وَ سَأَلْتُهَا عَنْ حَالِهَا فَقَالَتْ يَا مَوْلَاتِي مَا أَرَى بِي شَيْئاً مِنْ هَذَا قَالَتْ حَكِيمَةُ فَلَمْ أَزَلْ أَرْقُبُهَا إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَ هِيَ نَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيَّ لَا تَقْلِبُ جَنْباً إِلَى جَنْبٍ حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَثَبَتْ فَزِعَةً فَضَمَمْتُهَا إِلَى صَدْرِي وَ سَمَّيْتُ عَلَيْهَا فَصَاحَ إِلَيَّ أَبُو مُحَمَّدٍ عليه السلام وَ قَالَ اقْرَئِي عَلَيْهَا إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَأَقْبَلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهَا وَ قُلْتُ لَهَا مَا حَالُكِ قَالَتْ ظَهَرَ بِيَ الْأَمْرُ الَّذِي أَخْبَرَكِ بِهِ مَوْلَايَ فَأَقْبَلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهَا كَمَا أَمَرَنِي فَأَجَابَنِي الْجَنِينُ مِنْ بَطْنِهَا يَقْرَأُ مِثْلَ مَا أَقْرَأُ وَ سَلَّمَ عَلَيَّ قَالَتْ حَكِيمَةُ فَفَزِعْتُ لِمَا سَمِعْتُ فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ عليه السلام لَا تَعْجَبِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى يُنْطِقُنَا بِالْحِكْمَةِ صِغَاراً وَ يَجْعَلُنَا حُجَّةً فِي أَرْضِهِ كِبَاراً فَلَمْ يَسْتَتِمَّ الْكَلَامَ حَتَّى غِيبَتْ عَنِّي نَرْجِسُ فَلَمْ أَرَهَا كَأَنَّهُ ضُرِبَ بَيْنِي وَ بَيْنَهَا حِجَابٌ فَعَدَوْتُ نَحْوَ أَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام وَ أَنَا صَارِخَةٌ فَقَالَ لِي ارْجِعِي يَا عَمَّةِ فَإِنَّكِ سَتَجِدِيهَا فِي مَكَانِهَا قَالَتْ فَرَجَعْتُ فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ كُشِفَ الْغِطَاءُ الَّذِي كَانَ بَيْنِي وَ بَيْنَهَا وَ إِذَا أَنَا بِهَا وَ عَلَيْهَا مِنْ أَثَرِ النُّورِ مَا غَشِيَ بَصَرِي وَ إِذَا أَنَا بِالصَّبِيِّ عليه السلام سَاجِداً لِوَجْهِهِ جَاثِياً عَلَى رُكْبَتَيْهِ رَافِعاً سَبَّابَتَيْهِ وَ هُوَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَ أَنَّ جَدِّي مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ وَ أَنَّ أَبِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ عَدَّ إِمَاماً إِمَاماً إِلَى أَنْ بَلَغَ إِلَى نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي وَ أَتْمِمْ لِي أَمْرِي وَ ثَبِّتْ وَطْأَتِي وَ امْلَإِ الْأَرْضَ بِي عَدْلًا وَ قِسْطاً فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ عليه السلام فَقَالَ يَا عَمَّةِ تَنَاوَلِيهِ وَ هَاتِيهِ فَتَنَاوَلْتُهُ وَ أَتَيْتُ بِهِ نَحْوَهُ فَلَمَّا مَثَلْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ وَ هُوَ عَلَى يَدَيَّ سَلَّمَ عَلَى أَبِيهِ فَتَنَاوَلَهُ الْحَسَنُ عليه السلام مِنِّي وَ الطَّيْرُ تُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ وَ نَاوَلَهُ لِسَانَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ امْضِي بِهِ إِلَى أُمِّهِ لِتُرْضِعَهُ وَ رُدِّيهِ إِلَيَّ قَالَتْ فَتَنَاوَلْتُهُ أُمَّهُ فَأَرْضَعَتْهُ فَرَدَدْتُهُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام وَ الطَّيْرُ تُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ فَصَاحَ بِطَيْرٍ مِنْهَا فَقَالَ لَهُ احْمِلْهُ وَ احْفَظْهُ وَ رُدَّهُ إِلَيْنَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً فَتَنَاوَلَهُ الطَّيْرُ وَ طَارَ بِهِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَ اتَّبَعَهُ سَائِرُ الطَّيْرِ فَسَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ عليه السلام يَقُولُ أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ الَّذِي أَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى مُوسَى فَبَكَتْ نَرْجِسُ فَقَالَ لَهَا اسْكُتِي فَإِنَّ الرَّضَاعَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ ثَدْيِكِ وَ سَيُعَادُ إِلَيْكِ كَمَا رُدَّ مُوسَى إِلَى أُمِّهِ وَ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَ ﴿ فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ ﴾ (2) قَالَتْ حَكِيمَةُ فَقُلْتُ وَ مَا هَذَا الطَّيْرُ قَالَ هَذَا رُوحُ الْقُدُسِ الْمُوَكَّلُ بِالْأَئِمَّةِ عليهم السلام يُوَفِّقُهُمْ وَ يُسَدِّدُهُمْ وَ يُرَبِّيهِمْ بِالْعِلْمِ قَالَتْ حَكِيمَةُ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً رُدَّ الْغُلَامُ وَ وُجِّهَ إِلَى ابْنِ أَخِي عليه السلام فَدَعَانِي فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا أَنَا بِالصَّبِيِّ مُتَحَرِّكٌ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي هَذَا ابْنُ سَنَتَيْنِ فَتَبَسَّمَ عليه السلام ثُمَّ قَالَ إِنَّ أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَ الْأَوْصِيَاءِ إِذَا كَانُوا أَئِمَّةً يَنْشَئُونَ بِخِلَافِ مَا يَنْشَأُ غَيْرُهُمْ وَ إِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا إِذَا كَانَ أَتَى عَلَيْهِ شَهْرٌ كَانَ كَمَنْ أَتَى عَلَيْهِ سَنَةٌ وَ إِنَّ الصَّبِيَّ مِنَّا لَيَتَكَلَّمُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَ يَعْبُدُ رَبَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَ عِنْدَ الرَّضَاعِ تُطِيعُهُ الْمَلَائِكَةُ وَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ صَبَاحاً وَ مَسَاءً قَالَتْ حَكِيمَةُ فَلَمْ أَزَلْ أَرَى ذَلِكَ الصَّبِيَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً إِلَى أَنْ رَأَيْتُهُ رَجُلًا قَبْلَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ فَلَمْ أَعْرِفْهُ فَقُلْتُ لِابْنِ أَخِي عليه السلام مَنْ هَذَا الَّذِي تَأْمُرُنِي أَنْ أَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي هَذَا ابْنُ نَرْجِسَ وَ هَذَا خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي وَ عَنْ قَلِيلٍ تَفْقِدُونِّي فَاسْمَعِي لَهُ وَ أَطِيعِي قَالَتْ حَكِيمَةُ فَمَضَى أَبُو مُحَمَّدٍ عليه السلام بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ وَ افْتَرَقَ النَّاسُ كَمَا تَرَى وَ وَ اللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ صَبَاحاً وَ مَسَاءً وَ إِنَّهُ لَيُنْبِئُنِي عَمَّا تَسْأَلُونَ عَنْهُ فَأُخْبِرُكُمْ وَ وَ اللَّهِ إِنِّي لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الشَّيْءِ فَيَبْدَأُنِي بِهِ وَ إِنَّهُ لَيَرُدُّ عَلَيَّ الْأَمْرَ فَيَخْرُجُ إِلَيَّ مِنْهُ جَوَابُهُ مِنْ سَاعَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَتِي وَ قَدْ أَخْبَرَنِي الْبَارِحَةَ بِمَجِيئِكَ إِلَيَّ وَ أَمَرَنِي أَنْ أُخْبِرَكَ بِالْحَقِّ- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَوَ اللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَتْنِي حَكِيمَةُ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ فَعَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ صِدْقٌ وَ عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ قَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ (3).
شرح النقاط المستفادة من الرواية
1. أنّ الأرض لا تخلو من حجة
تبدأ السيدة حكيمة حديثها بهذه القاعدة الكبرى: « إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لَا يُخْلِي الْأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ نَاطِقَةٍ أَوْ صَامِتَةٍ ».
وهذه ليست مجرد عبارة، بل هي قانون إلهيّ في نظام الخلق. فالحجة هي واسطة الفيض بين السماء والأرض، بها يُحفظ الدين، ويستمرّ الوجود في خطّ الهداية. حتى في زمن الغيبة، تبقى الحجة حاضرة وإن خفيت شخصه، لأنّ انقطاع الحجة يعني انقطاع الرحمة الإلهية عن الأرض، وهو ما لا يكون أبداً.
2. أن الإمامة لا تجتمع في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام
توضح الرواية أنّ الله تعالى جعل الإمامة بعد الحسنين في ولد الحسين خاصة، « تَنْزِيهاً لَهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ عَدِيلُهُمَا ». فالإمامة منصب إلهي لا يُنال بالوراثة العادية أو بالادعاء، وإنما بالنصّ الإلهي. لذا لم يكن لجعفر أن يكون إماماً بعد أخيه الحسن العسكري، لأن الإمامة لا تنتقل بين الإخوة بعد الحسين، بل تستمر في نسله وحده، مصداقاً للوعد الإلهي بامتداد نور الإمامة إلى قيام الساعة من ذرية الحسين.
3. تفضيل ذرية الحسين على ذرية الحسن
قالت السيدة حكيمة: « خَصَّ وُلْدَ الْحُسَيْنِ بِالْفَضْلِ عَلَى وُلْدِ الْحَسَنِ عليه السلام كَمَا خَصَّ وُلْدَ هَارُونَ عَلَى وُلْدِ مُوسَى عليه السلام وَ إِنْ كَانَ مُوسَى حُجَّةً عَلَى هَارُونَ ». هذا التفضيل لا يعني تمييزاً في المقام الإيماني الشخصي، بل في موقع الإمامة الإلهية. فالله يصطفي من عباده من يشاء لحمل رسالته، واختياره لذرية الحسين دون الحسن هو لحكمةٍ إلهيةٍ اقتضت استمرار خطّ الحجة فيهم، وليبقى دم الحسين وتضحيته هو الأصل الذي يفيض بالهداية في كل عصر.
4. أن للإمام العسكري عليه السلام ولداً هو الحجة
تؤكد السيدة حكيمة في الرواية ولادة الإمام المهدي عليه السلام بنفسها، وتصف العلامات والمعجزات التي رافقت تلك الليلة المباركة: من خفاء الحمل، إلى سماعها تلاوة الجنين للقرآن في بطن أمه، إلى سجوده عند الولادة ونطقه بالشهادة، ثم أخذه من قبل الطير الذي هو روح القدس الموكّل بالأئمة. كل هذه الكرامات دلائل قاطعة على أن الله أظهر آيته الكبرى في ذلك المولود الشريف، وجعل فيه استمرار الإمامة الإلهية، رغم محاولات الطغاة طمس آثارها.
فالإمام المهدي عليه السلام هو الابن الإمام العسكري، الحجة الذي قام مقام أبيه بعد وفاته، غاب بأمر الله لحفظه، وسينكشف أمره بالظهور حين يأذن الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
الخاتمة
إنّ رواية السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام تمثل شهادة صادقة من عترة النبي صلى الله عليه وآله على أعظم معجزة في سلسلة الإمامة: ولادة الحجة بن الحسن عليه السلام.
ففيها تأكيد متصل على أن الأرض لا تخلو من إمام، وأن خط الإمامة محدد بالوحي في ذرية الإمام الحسين عليه السلام، وأنّ الإمام العسكري عليه السلام خلّف ولداً هو وارثه، رغم أنف المنكرين.
لقد أراد الله أن تكون ولادة الإمام المهدي عليه السلام خفية في ظاهرها، جليّة في آثارها، لتبقى حجته محفوظة حتى يأذن لها بالظهور، فيملأ الأرض عدلاً ونوراً بعد أن غمرها الظلم والظلام.
فطوبى لمن ثبُت قلبه على الإيمان به في زمن الغيبة، وصدّق بوعد الله الذي لا يُخلف، إذ قال سبحانه : ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ (4).
1. بصائر الدرجات / محمد بن الحسن الصفار القمي / المجلّد : 1 / الصفحة : 488.
2. سورة القصص : الآية 13.
3. كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 2 / الصفحة : 426 ـ 430.
4. سورة القصص : الآية 5.








التعلیقات