القول بوجوب الإمامة يناقض القول بوجوب الاختفاء

البريد الإلكتروني طباعة

الشبهة التاسعة: [إن القول بوجوب الإمامة لما فيها من المصلحة للأنام يتناقض مع ما يقوله الشيعة بأن مصلحة الإمام قبل الظهور الاستتار و الاختفاء] :
إن الشيعة الإمامية يناقضون أنفسهم من حيث اعتقادهم بوجوب الإمامة و قولهم بشمول المصلحة للأنام بوجود الإمام و ظهوره و أمره و نهيه و تدبيره، و استشهادهم على ذلك بحكم العادات في عموم المصالح بنظر السلطان العادل و تمكّنه من البلاد و العباد، و في نفس الوقت يقول الشيعة إن اللّه تعالى قد أباح للإمام الغيبة عن الخلق، و سوّغ له الاستتار عنهم، و أن ذلك هو المصلحة و صواب التدبير للعباد، و هل هذا إلا التناقض الواضح الذي لا يقرّه العقل و الدين؟ .
و الجواب:
إن الشبهة المذكورة انطلت على المخالف و استولت عليه لبعده عن سبيل الاعتبار و وجود الصلاح و أسباب الفساد، و ذلك أن المصالح تختلف باختلاف الأحوال، و لا تتفق مع تضادّها، بل يتغير تدبير الحكماء في حسن النظر 

و الاستصلاح بتغيّر آراء المستصلحين و أفعالهم و أغراضهم في الأعمال، ألا ترى أن الحكيم من البشر يدبّر ولده و أحبّته و أهله و عبيده و حشمه بما يكسبهم المعرفة و الآداب، و يبعثهم على الأعمال الصالحة ليستحقوا بذلك الذكر الجميل و حسن الثناء و المديح، فيكونوا بذلك موضع ثقتهم و اعتمادهم في الأمور كافّة إلى تجارة أو وكالة، فيمكنوهم من الأموال، فيحصل لهم السرور المتواصل، و ينالوا بما يحصل لهم من الأرباح الملذات، و ذلك هو الأصلح لهم، و متى واصلوا الجدّ في العمل و أخلصوا فيه بأقوالهم، بما يوجب استمرار نشاطهم، سهّلوا عليهم السبل الموصلة إليه، و كان ذلك هو الصلاح العام، و ما أخذوا بتدبيرهم إليه و أحبّوه منهم و أبرّوه لهم، و إن عدلوا عن ذلك إلى السفه و الظلم، و سوء الأدب و البطالة، و اللهو و اللعب، كانت المصلحة لهم قطع موارد السعة عنهم في الأموال و الاستخفاف بهم و الإهانة و العقاب، و ليس في ذلك تناقض بين أغراض العاقل، و لا تضادّ في صواب التدبير و الصلاح.
و على هذا الوجه الذي حقّقناه كان تدبير اللّه تعالى لخلقه، و إرادته عمومهم بالصلاح، ألا ترى أنه خلقهم فأكمل عقولهم و كلّفهم الأعمال الصالحات ليكسبهم بذلك حالا في العاجلة، و مدحا و ثناء حسنا و إكراما و إعظاما و ثوابا في الآجل، و يدوم نعيمهم في دار المقام، فإن تمسّكوا بأوامر اللّه و نواهيه وجب في الحكم إمدادهم بما يزدادون به منه، و سهّل عليهم سبيله، و يسّره لهم، و إن خالفوا ذلك و عصوه تعالى و ارتكبوا نواهيه، تغيّرت الحال فيما يكون فيه صلاحهم، و صواب التدبير لهم لوجب قطع موادّ التوفيق عنهم، و حسن منه ذمّهم و حربهم، و كان ذلك هو الأصلح لهم و الأصوب في تدبيرهم مما كان يجب في الحكمة لو أحسنوا و لزموا السداد، فليس ذلك تناقضا في العقل و لا تضادا في قول أهل العدل، بل هو ملتئم على المناسب و الاتفاق.
ألا ترى أنّ اللّه تعالى دعا الخلق إلى الإقرار به و إظهار التوحيد و الإيمان برسله عليهم السّلام لمصلحتهم، و أنه لا شيء أصوب في تدبيرهم من ذلك، فمتى 

اضطرّوا إلى إظهار كلمة الكفر للخوف على دمائهم كان الأصلح لهم و الأصوب في تدبيرهم ترك الإقرار باللّه و العدول عن إظهار التوحيد و المظاهرة بالكفر بالرسل، و إنما تعيّرت المصلحة بتغيّر الأحوال، و كان في تغيير التدبير الذي دبّرهم اللّه به فيما خلقهم له مصلحة للمتّقين، و إن كان ما اقتضاه من فعل الظالمين قبيحا منهم و مفسدة يستحقّون به العقاب الأليم.
و قد فرض اللّه تعالى الحجّ و الجهاد و جعلهما صلاحا للعباد، فإذا تمكّنوا منه عمّت به المصلحة، و إذا منعوا منه بإفساد المجرمين كانت المصلحة لهم تركه و الكفّ عنه، و كانوا في ذلك معذورين و كان المجرمون به ملومين.
فهذا نظير لمصلحة الخلق بظهور الأئمة عليهم السّلام و تدبيرهم إياهم متى أطاعوهم و انطووا على النصرة لهم و المعونة، و إن عصوهم و سعوا في سفك دمائهم تغيّرت الحال فيما يكون به تدبير مصالحهم، و صارت المصلحة له و لهم غيبته و تغييبه و استتاره، و لم يكن عليه في ذلك لوم، و كان الملوم هو المسبّب له بإفساده و سوء اعتقاده.
و لم يمنع كون الصلاح باستتاره وجوب وجوده و ظهوره، مع العلم ببقائه و سلامته و كون ذلك هو الأصلح و الأولى في التدبير، و أنه الأصل الذي أجرى بخلق العباد إليه و كلّفوا من أجله حسبما ذكرناه.

( ضمن كتاب: ابهی المداد فی شرح موتمر علماء بغداد. المجلد: ٢  المولف: مقاتل بن عطیه المحقق : العلامه الحجه الشيخ  محمد جميل حمود )