ما هو الملاك للحكم بحسن الأفعال وقبحها ؟
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةما هو المِلاك للحكم بحسن الأَفعال وقبحها ؟
إِذا كان محلّ النزاع ما ذكرنا من إدراك العقل حُسن الفعل أو قُبحه بالنظر إلى ذاته مع غضّ النظر عمّا يترتب عليه من التوالي ، فيقع الكلام في أنَّ العقل كيف يقضي بالحسن والقُبح ، وما هو المِلاك في قضائه ؟
إِنَّ المِلاك لقضاء العقل هو أنّه يجد بعض الأَفعال موافقاً للجانب الأَعلى من الإِنسان والوجه المثالي في الوجود البشري ، وعدم موافقة بعضها الآخر لذلك.
وإِنْ شئت قلت : إِنَّه يدرك أَنَّ بعض الأَفعال كمال للموجود الحيّ المختار ، وبعضها الآخر نقص له ، فيحكم بحُسن الأَوّل ولزوم الإِتّصاف به ، وقبح الثاني ولزوم تركه. ولو عمّم الطبع ـ فيما ذكرنا من المِلاكات ـ لهذا المعنى أيّ الطبع الأعلى في الإِنسان ، لكان هذا المعنى داخلاً في الملاك الأَوّل.
توضيح ذلك : إِنَّ الحكماء قسموا العقل إلى عقل نظري وعقل عملي ، فقد قال المعلّم الثاني : « إِنَّ النظريّة هي التي بها يَحُوز الإِنسان علم ما ليس من شأنه أن يعمله إنسان ، والعمليّة هي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله الإِنسان بإِرادته ».
وقال الحكيم السبزواري في توضيحه : « إِنَّ العقل النظري والعقل العملي من شأنهما التعقّل ، لكن النظري شأنه العلوم الصِرفة غير المتعلّقة بالعمل مثل : الله موجود واحد ، وأنَّ صفاته عين ذاته ، ونحو ذلك.
والعملي شأنه العلوم المتعلّقة بالعمل مثل : « التوكّل حسن » و « الرضا والتسليم والصبر محمودة ». وهذا العقل هو المستعمل في علم الأَخلاق ، فليس العقلان كقوتين متباينتين أو كضميمتين ، بل هما كجهتين لشيء واحد وهو الناطقة » (1).
ثمّ ، كما أنّ في الحِكمة النظريّة قضايا نظريّة تنتهي إلى قضايا بديهيّة ، ولولا ذلك لعقمت القياسات وصارت غير منتجة ، فهكذا في الحكمة العمليّة ، قضايا غير معلومة لا تعرف إلّا بالإنتهاء إلى قضايا ضروريّة ، وإِلّا لما عَرِف الإِنسان شيئاً من قضايا الحكمة العمليّة. فكما أنَّ العقل يدرك القضايا في الحكمة النظريّة من صميم ذاته فهكذا يدرك بديهيّات القضايا في الحكمة العمليّة من صميم ذاته بلا حاجة إلى تصوّر شيء آخر.
مثلاً : إِنَّ تصديق كلّ القضايا النظرية يجب أَنْ ينتهي إلى قضيّة امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التصديق بها لَمَا أَمكن التصديق بشيء من القضايا ، ولذا تسمّى بـ « أمّ القضايا » وذلك كاليقين بأَنَّ زوايا المثلّث تساوي زاويتين قائمتين ، فإِنَّه لا يحصل إلَّا إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضيّة ، أيّ عدم مساواتها لهما. وإلَّا فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالنسبة. ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أن إقامة البرهان على المسائل النظريّة إنّما تتمّ إذا انتهى البرهان إلى أمّ القضايا التي قد عرفت.
وعلى ضوء هذا البيان نقول : كما أَنَّ للقضايا النظريّة في العقل النظري قضايا بديهيّة أو قضايا أوليّة تنتهي إليها ، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي ، يجب أَنْ تنتهي إلى قضايا أوليّة وواضحة عنده بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العمليّة لما صحّ التصديق بقضيّة من القضايا فيها.
فمن تلك القضايا البديهيّة في العقل العملي ، مسألة التحسين والتقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا بوضوح ، مثل قولنا « العدل حسن » و « الظلم قبيح » و « جزاء الإِحسان بالإِحسان حسن » و « جزاؤه بالإِساءة قبيح ».
فهذه القضايا قضايا أوليّة في الحكمة العمليّة والعقل العملي يدركها من صميم ذاته ومن ملاحظة القضايا بنفسها. وفي ضوء التصديق بها يسهل عليه التصديق بما يبنى عليها في مجال العقل العملي من الأحكام غير البديهيّة ، سواء أكانت مربوطة بالأخلاق أولاً ، أم تدبير المنزل ثانياً ، أَم سياسة المدن ثالثاً ، التي يبحث عنها في الحكمة العمليّة.
و لنمثل على ذلك : إِنَّ العالِمِ الأَخلاقي يحكم بلزوم تكريم الوالدين والمعلِمين وأولي النعمة ، وذلك لأَنَّ التكريم من شؤون جزاء الإحسان بالإحسان ، وهو حسن بالذات ، والإهانة لهم من شؤون جزاء الإِحسان بالإِساءة وهو قبيح بالذات.
والباحث عن أَحكام تدبير المنزل يحكم بلزوم القيام بالوظائف الزوجيّة من الطرفين وقبح التخلف عنها ، ذلك لأن القيام بها قيام بالعمل بالميثاق ، والتخلّف عنها تخلّف عنه ، والأوّل حسن بالذات والثاني قبيح بالذات. والعالِم الإِجتماعي الذي يبحث عن حقوق الحاكم والحكومة على المجتمع يحكم بأنَّه يجب أَنْ تكون الضرائب معادلة لدخل الأفراد ، وذلك لأن الخروج عن تلك الضابطة ظلم على الرعيَّة وهو قبيح بالذات.
والعالِم الإِجتماعى الذي يبحث عن حقوق الحاكم والحكومة على المجتمع يحكم بأَنَّه يجب أَنْ تكون الضرائب معادلة لدخل الأفراد ، وذلك لأَن الخروج عن تلك الضابطة ظلم على الرعيَّة وهو قبيح بالذات.
وقس على ذلك كلّ ما يرد عليك من الأَبحاث في الحكمة العمليّة ، سواء أكانت راجعة إلى الفرد ـ الإخلاق ـ ، أو إلى المجتمع الصغير ـ البيت ـ ، أَو إلى المجتمع الكبير ـ السياسة ـ. فكلّ ما يرد فيها و يبحث عنه الباحثون ، بما أَنَّه من شؤون العقل العملي ، يجب أَنْ ينتهي الحكم فيه إيجاباً وسلباً ، صحّة وبطلاناً إلى القضايا الواضحة البديهيّة في مجال ذلك العقل.
إلى هنا انتهينا إلى أَنَّه يجب انتهاء الأَحكام غير الواضحة ابتداءً في مجال العقلين « النظري والعملي » إلى أَحكام بديهيّة مدركة بلا مؤونة شيء منهما. وذلك دفعاً للدور والتسلسل الذي استند إليه علماء المنطق والحكمة في القسم الأوّل ، أَيّ الحكمة النظريّة. والدليل واحد سار في الجميع.
إذا عرفت ما ذكرنا ، يقع الكلام في أمر آخر وهو تعيين المِلاك لدرك العقل صحّة القضايا البديهيّة أو بطلانها في مجال العقلين ، فنقول :
إِنَّ المِلاك في مجال العقل النظري عبارة عن انطباق القضيّة مع التكوين وعدم انطباقها ، فالعقل ، يدرك من صميم ذاته أَن اجتماع النقيضين شيء غير متحقّق في الخارج ، وأنَّه لا يمكن الحكم بكون شيء موجوداً وفي الوقت نفسه الحكم بكونه معدوماً ، يدرك ذلك بلا حاجة إلى تجربة واستقراء.
وأمّا المِلاك في العقل العملي فهو عبارة عن درك مطابقة القضيّة وملاءَمتها للجانب المثالي من الإِنسان غير الجانب الحيواني ، أو منافرتها له.
فالإِنسان بما هو ذو فطرة مثالية ، يتميّز بها عن الحيوانات ، يجد بعض القضايا ملائمة لذلك الجانب العالي أو منافية له. فيصف الملائم بالحُسن و لزوم العمل، و المنافي بالقُبح و لزوم الإِجتناب. ولا يدرك القضايا بهذين الوصفين لشخصه فقط أو لصنف خاصّ من الإِنسان أو لكلّ من يطلق عليه الإِنسان ، بل يدرك حسن صدورها أو قبحه لكلّ موجود عاقل مختار سواء وقع تحت مظلة الإِنسانيّة أو خارجها. وذلك لأن المقوم لقضائه بأَحد الوصفين نفس القضيّة بما هي هي من غير خصوصيّة للمدرك. فهو يدرك أَنَّ العدل حَسَن عند الجميع ومن الجميع ، والظلم قبيح كذلك ، ولا يختصّ حكمه بأحدهما بزمان دون زمان ولا جيل دون جيل.
إلى هنا تمّ تبيين الأَمرين اللذين لهما دور في الحكم بالتحسين والتقبيح العقليين و يجب أن لا يُخلط أَحدهما بالآخر لكون الأَوّل مقدّمة للثاني ، وهما :
أ ـ إنتهاء كلّ القضايا في مجال العقلين إلى قضايا بديهيّة دفعاً للمحذور.
ب ـ تبيين مِلاك دركِ العقلِ صحّةَ تلك القضايا البديهيّة في مجال العقلين.
وقد اتّضح بذلك أنَّ المدعي للتحسين والتقبيح العقليين الذاتيين في غنى عن البرهنة لما يتبَّناه ، كما أَنَّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما كذلك. والعجب أنَّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أَنَّه يجب انتهاء القضايا النظريّة في العقل النظري إلى قضايا بديهيّة ، وإِلّا عقُمت الأَقِيْسَة ولزم التسلسل في مقام الإِستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأَصل في جانب العقل العملي ولم يقسموا القضايا العمليّة إلى فكريّة وبديهيّة ، أَو نظريّة وضروريّة. كيف والإِستنتاج والجزم بالقضايا غير الواضحة الواردة في مجال العقل العملي لا يتمّ إِلّا إِذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال. وقد عرفت أَنَّ المسائل المطروحة في الأَخلاق ، ممّا يجب الإِتّصاف به أَو التنزّه عنه ، أو المطروحة في القضايا البيتيّة والعائليّة التي يعبّر عنها بتدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة وتدبير المدن ، ليست في وضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب. فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العمليّة إِلّا إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتني عليها القضايا المجهولة العمليّة حتّى يحصل الجزم بها ويرتفع الإِبهام عن وجهها. ولأَجل ذلك نحن في غنى عن التوسع في طرح أَدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح ولا نذكر إِلّا النَّزر اليسير منها.
فكما أَنّهم غفلوا عن تقسيم القضايا في الحكمة العمليّة إلى القسمين ، فهكذا غفلوا عن تبيين ما هو المِلاك لدرك العقل صحّة بعض القضايا أوْ بطلانها في ذلك المجال. ويوجد في كلمات المتكلّمين في بيان المِلاك والمعيار أمور غير تامّة يقف عليها من راجع الكتب الكلاميّة.
الهوامش
1. تعليقات الحكيم السبزواري على شرح المنظومة ، ص 310.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 239 ـ 244
التعلیقات