أسماء الله سبحانه وصفاته وأفعاله
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةأسماؤه وصفاته وأفعاله سبحانه
قد كان متوقّعاً أن يشكّل الإلهيّون صفّاً واحداً في كلّ ما يرجع إلى المبدأ وأسمائه وصفاته وأفعاله ، إلّا أنّهم اختلفوا فيما بينهم من أبسط المسائل إلى أعمقها. ويرجع أكثر ما يختلفون فيه إلى معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله. والإختلاف في هذه المسائل هو الحجر الأساس لظهور الديانات والمذاهب في المجتمع الإنساني العالمي.
فالثنويّة ، رغم إقرارهم بوجود الإله الخالق للعالم ، يتشعبون إلى عشرات الفرق والطوائف ، ويكفي في ذلك أن نلاحظ الديار الهنديّة والصينيّة التي تتواجد فيها الثنويّة أكثر من أيّ مكان آخر.
ولا تقصر عنهم المسيحيّة ، فقد انقسمت هذه الديانة إلى يعقوبيّة ونسطوريّة وملكانيّة وغيرها من الطوائف.
وأمّا المسلمون ، الذين يشكلون أُمّة كبيرة من الإلهيّين في العالم فقد افترقوا إلى طوائف مختلفة أيضاً. وجلّ اختلافهم ناش من اختلافهم في صفات المبدأ وأفعاله.
فها هم أصحاب الحديث من الحشويّة والحنابلة لهم آراء خاصّة في صفات البارئ وأفعاله يقف عليها كلّ من نظر في كتب أهل الحديث ، لا سيّما كتاب « التوحيد » لابن خزيمة ، و « السنّة » لأحمد بن حنبل وغير ذلك.
ولا يقصر عنهم اختلاف المعتزلة ، وهم أَصحاب العدل والتوحيد ، فقد تشتّتوا إلى مذاهب متعدّدة. فمن واصلية إلى هزيليّة ، ومن نظاميّة إلى خابطيّة. إلى غير ذلك من الفرق.
وأمّا الجبريّة من المسلمين ، فقد تشعّبوا إلى جهميّة ونجّارية وضراريّة حتّى ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري ، فجاء بمنهج معدّل بين أهل الحديث والمعتزلة والجبريّة ، فعكف العلماء على دراسة عقائده وأفكاره ، إلى أن صار مذهباً رسميّاً لأهل السنّة.
فهذه الطوائف لم تختلف غالباً إلّا في أسمائه وأفعاله وصفاته. وهذا الأَمر يعطي لهذا الفصل من العقائد أهميّة قصوىٰ ، فلا يمكن التهاون فيه والعبور عنه بسهولة ويسر.
الصفات الجماليّة والجلاليّة الذاتيّة
إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى قسمين : ثبوتيّة وسلبيّة ، أو جماليّة وجلاليّة.
فإذا كانت الصفة مثبتة لجمال في الموصوف ومشيرة إلى واقعيّة في ذاته سمّيت « ثبوتيّة ذاتيّة » أو « جماليّة ». وإذا كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص وحاجة عنه سبحانه سمّيت « سلبيّة » أو « جلاليّة ».
فالعلم والقدرة والحياة من الصفات الثبوتية المشيرة إلى وجود كمال وواقعيّة في الذات الإلهيّة. ولكن نفي الجسمانيّة والتحيز والحركة والتغيّر من الصفات السلبيّة الهادفة إلى سلب ما هو نقص عن ساحته سبحانه.
وقد أشار صدر المتألهين إلى أنّ هذين الإصطلاحين « الجماليّة » و « الجلاليّة » قريبان ممّا ورد في الكتاب العزيز. قال سبحانه : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) (1) فصفة الجلال ما جلّت ذاته عن مشابهة الغير ، وصفة الإكرام ما تكرمت ذاته بها وتجملت (2). فيوصف بالكمال وينزّه بالجلال.
إنّ علماء العقائد حصروا الصفات الجماليّة في ثمانية وهي : العلم ، القدرة ، الحياة ، السمع ، البصر ، الإرادة ، التكلّم ، والغنى. كما حصروا الصفات السلبيّة في سبع وهي أنّه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض وأنّه غير مرئي ولا متحيز ولا حال في غيره ولا يتّحد بشيء.
غير أنّ النظر الدقيق يقتضي عدم حصر الصفات في عدد معيّن ، فإنّ الحق أنْ يقال إنّ الملاك في الصفات الجماليّة والجلاليّة هو أنّ كلّ وصف يعد كمالاً ، فالله متّصف به. وكلّ أمر يعتبر نقصاً وعجزاً فهو منزّه عنه ، وليس علينا أنْ نحصر الكماليّة والجلاليّة في عدد معيّن.
وعلى ذلك يمكن إرجاع جميع الصفات الثبوتيّة إلى وصف واحد والصفات السلبيّة إلى أمر واحد. ويؤيّد ما ذكرناه أنّ الأسماء والصفات التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرّات العدد الذي ذكره المتكلّمون.
وقد وقع الإختلاف في بعض ما عُدّ من الصفات الثّبوتية بأنّها هل هي من الصفات الثبوتيّة الذاتيّة أو الثبوتيّة الفعليّة. كالتكلّم والإرادة ، حتّى أنّ بعض ما عدّ من الصفات الذاتيّة في بعض المناهج ، ليس من صفات الذات قطعاً ككونه صادقاً بل من صفات الفعل. وسيوافيك الفرق بينهما.
صفات الذات وصفات الفعل
قسم المتكلّمون صفاته سبحانه إلى صفة الذات وصفة الفعل ، والأوّل ما يكفي في وصف الذات به ، فرض نفس الذات فحسب ، كالقدرة والحياة والعلم.
والثاني ما يتوقّف توصيف الذات به على فرض الغير وراء الذات وهو فعله سبحانه.
فصفات الفعل هي المنتزعة من مقام الفعل ، بمعنى أنَّ الذات توصف بهذه الصفات عند ملاحظتها مع الفعل ، وذلك كالخلق والرزق ونظائرهما من الصفات الفعليّة الزائدة على الذات بحكم انتزاعها من مقام الفعل. ومعنى انتزاعها ، أنّا إذ نلاحظ النّعم التي يتنعّم بها الناس ، وننسبها إلى الله سبحانه ، نسمّيها رزقاً رزقه الله سبحانه ، فهو رزّاق. ومثل ذلك الرحمة والمغفرة فهما يطلقان عليه على الوجه الذي بيّناه.
وهناك تعريف آخر لتمييز صفات الذّات عن الفعل وهو أنّ كلّ ما يجري على الذات على نسق واحد « الإثبات دائماً » فهو من صفات الذات. وأمّا ما يجري على الذات على الوجهين ، بالسلب تارة وبالإيجاب أخرى ، فهو من صفات الأفعال.
وعلى ضوء هذا الفرق فالعلم والقدرة والحياة لا تحمل عليه سبحانه إلا على وجه واحد وهو الإيجاب. ولكن الخلق والرزق والمغفرة والرحمة تحمل عليه بالإيجاب تارة والسلب أخرى. فتقول خَلَقَ هذا ولم يخلق ذلك. غفر للمستغفر ولم يغفر للمصرّ على الذنب.
وباختصار ، إنّ صفات الذات لا يصحّ لصاحبها الإِتصاف بأضدادها ولا خلوه منها. ولكن صفات الفعل يصحّ الإتصاف بأضدادها.
ثمّ إنّ الصفات الفعليّة حيثيّات وجوديّة نابعة من وصف واحد وهي القيوميّة ، فإنّ الخلق والرزق والهداية كلّها حيثيّات وجوديّة قائمة به سبحانه مفاضة من عنده بما هو قيّوم.
تقسيم آخر
وللصفات تقسيم آخر وهو تقسيمها إلى النفسيّة والإضافيّة. والمراد من الأولى ما تتّصف به الذات من دون أن يلاحظ فيها الإنتساب إلى الخارج ولا الإضافة إليه ، كالحياة. ويقابلها الصفات الإضافيّة ، وهي ما كان لها إضافة إلى الخارج عن الذات ، كالعلم بالمعلوم والقدرة على المقدور.
وعلى هذا الملاك ، فكلّ من النفسيّة والإضافيّة تجريان على الذات وتحكيان عن واقعيّة فيه.
وربّما تُفسّر الإضافيّة بالخالقيّة والرازقيّة والعلّيّة (3). والأولى تسميتها بالإنتزاعيّة لا بالإضافيّة ، وتخصيص الإضافيّة بما يقابل النفسيّة.
الصفات الخبريّة
إنّ هناك اصطلاحاً آخر يختصّ بأهل الحديث في تقسيم صفاته سبحانه فهم يقسّمونها إلى ذاتيّة وخبريّة. والمراد من الأولى هو الصفات الكماليّة ومن الثانية ما وصف سبحانه به نفسه في الكتاب العزيز من العلوّ ، وكونه ذا وجه ، ويدين ، وأعين ، إلى غير ذلك من الألفاظ الواردة في القرآن التي لو أُجريتْ على الله سبحانه بمعانيها المتبادرة عند العرف لزم التجسيم والتشبيه.
هذه هي التقسيمات الرائجة في صفاته سبحانه.
الإبتعاد عن التشبيه والمقايسة أساس معرفة صفاته سبحانه
إعتاد الإنسان الساكن بين جدران الزمان والمكان أن يتعرف على الأشياء مقيّدة بالزمان والمكان ، موصوفة بالتحيز والتجسّم ، متسمة بالكيف والكم ، إلى غير ذلك من لوازم المادة ومواصفات الجسمانيّة.
إنّ مزاولة الإنسان للحسّ والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادة وإخلاده إلى الأرض ، عوّده على تمثيل كلّ ما يتعقله ، بصورة الأمر الحسّي حتّى فيما لا طريق للحسّ والخيال إلى حقيقته كالكليّات والحقائق المنزهة عن المادة. ويؤيّده في ذلك أنّ الإنسان إنّما يصل إلى المعقولات والكليّات من طريق الإحساس والتخيّل فهو أنيس الحسّ وأليف الخيال (4).
وكأنّ البشر جُبلوا على المعرفة على أساس المقايسة والتشبيه فلا يمكنهم أنْ يجرّدوا أنفسهم من ذلك إلّا بالرياضة والتمرين. فقد قضت العادة الملازمة للإنسان أعني أنسه بالمادة ، واعتياده على معرفة كلّ شيء في الإطار المادي ، أن يصوّر لربّه صوراً خياليّة على حسب ما يألفه من الأمور المادّية الحسيّة. وقلّ أن يتّفق لإنسان أن يتوجّه إلى ساحة العزّة والكبرياء ، ونفسه خالية عن هذه المحاكاة.
بين التشبيه والتعطيل
على ذلك الأساس افترق الإلهيّون إلى مشبهة تشبه ربّها بإنسان له لحم ، ودم ، وشعر ، وعظم ، وله جوارح وأعضاء حقيقيّة من يد ، ورجل ، ورأس ، وعينين ، مصمت ، له وفرة سوداء ، وشعر قطط. يجوز عليه الإنتقال والمصافحة (5).
فهؤلاء تورّطوا في مغبة التجسيم ومهلكة التشبيه. وإنكار بارئ بهذه الأوصاف المادية المنكرة أولى من إثباته رباً للعالم ، لأن الإعتقاد بالبارئ على هذه الصفات يجعل الألوهيّة والدعوة إليها أمراً منكراً تتنفر منه العقول والأفكار المنيرة.
فإِذا كانت تلك الطائفة متهوّرة في تشبيهها ومفرطة في تجسيمها ، فإنّا نجد في مقابلها طائفةً أخرى أرادت التحرز عن وصمة التشبيه وعار التجسيم فوقعت في إسارة التعطيل ، فحكمت بتعطيل العقول عن معرفته سبحانه ومعرفة صفاته وأفعاله ، قائلة بأنه ليس لأحد الحكم على المبدأ الأعلى بشيء من الأحكام ، وليس إلى معرفته من سبيل إلّا بقراءة ما ورد في الكتاب والسنّة ، فقالت : إنّ النجاة كلّ النجاة في الاعتراف بكلّ ما ورد في الشرع الشريف من دون بحث ونقاش ومن دون جدل وتفتيش. فهذا « مالك » عندما سُئل عن معنى قوله سبحانه : ( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) ، قال : الإستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة (6).
وقد نُقل عن سفيان بن عيينة أنّه قال : « كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه » (7).
ولكن هناك طائفة ثالثة ترى أنّ من الممكن التعرف على صفاته سبحانه من طريق التدبّر وترتيب الأقيسة المنطقيّة وتنظيم الحجج العقليّة على ضوء ما أفاض الله سبحانه على عباده من نعمة العقل والفكر ، بشرط أن يكون الباحث محايداً ، منحازاً عن أيّ رأي مسبق ، وأن يكون في بحثه ونقاشه مخلصاً للحقّ غير مبتغ إلّا إيّاه.
وحجّتهم في ذلك أنّ الله سبحانه ما نصّ على أسمائه وصفاته في كتابه وسنّة نبيّه إلّا لكي يتدبّر فيها الإنسان بعقله وفكره في حدود الممكن والمستطاع مجتنباً إفراط المشبهة وتفريط المعطلة. فهذا أمر يدعو إليه العقل والكتاب العزيز والسنّة الصحيحة.
وهناك كلمة قيمة للإمام علي عليه السلام تدعو إلى ذلك الطريق الوسط ، قال عليه السلام : « لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته » (8). والعبارة تهدف إلى أنّ العقول وإن كانت غير مأذونة في تحديد الصفات الإلهيّة لكنّها غير محجوبة عن التعرّف حسب ما يمكن ، كيف وقد قال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (9). والعبادة الصحيحة والكاملة لا تتيسّر إلّا بعد أن تتحقّق المعرفة المستطاعة بالمعبود.
ويكفي في تعيّن هذا الطريق ما ورد في أوائل سورة الحديد من الآيات الستّ ونذكرها تبرّكاً وهي قوله سبحانه : ( سَبَّحَ لِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّـهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (10).
وهل يظنّ عاقل أنّ الآيات الواردة في آخر سورة الحشر إنّما أنزلها الله تعالى لمجرّد القراءة والتلاوة ، وهي قوله سبحانه : ( هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّـهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (11). ومع ذلك فما معنى التدبّر في الآيات القرآنيّة ؟.
وبذلك تقف على مدى وهن ما أُثِر عن بعض علماء السلف حيث يقول : « إنما أعطينا العقل لإقامة العبوديّة لا لإدراك الربوبيّة فمن شغل ما أعطي لإقامة العبوديّة بإدراك الربوبيّة فاتته العبوديّة ولم يدرك الربوبيّة » (12).
إنّ إقامة العبودية الكاملة رهن معرفة المعبود بما في إمكان العبد. وإلّا فإنّ العالم بجميع ذراته يسبّح الله سبحانه ويحمده ويقيم العبوديّة له بما أُعطي من الشعور والإدراك المناسب لوجوده ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (13). فلو كانت وظيفة الإنسان إقامة العبودية مجرّداً عن المعرفة التفصيليّة للمعبود ، تكون عبوديته أشبه بعبوديّة سائر الموجودات بل أنزل منها بكثير ، إذ في وسع الإنسان معرفة معبوده تفصيلاً بمقدار ما أعطي من المقدرة الفكريّة التي لم يعطها غيره.
فإن أريد من إدراك الربوبيّة إدراك كنه الذات فهو أمر محال ، ولم يدّعه أحد. وإن أريد معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله حسب المقدرة الإنسانيّة في ضوء الأقيسة المنطقية والكتاب والسنّة الصحيحة القطعيّة فهذه وظيفة العقل.
وجميعنا نرى أنّه سبحانه يذمّ المشركين الذين لم يعرفوه حقّ معرفته ـ بما في وسع الإنسان ـ إذ يقول سبحانه : ( مَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (14).
وباختصار : لوكان الهدف هو معرفة كنه الذات الإلهيّة وحقيقة الصفات والأسماء ، كان ترك البحث متّجهاً ، وأمّا إذا كان المقصود هو التعرّف على ما هناك من الجمال والكمال ونفي ما ربّما يتصوّر في الذّات الإلهيّة من النقص والعجز ، فلا شك أنّ للعقل أن يطرق هذا المجال ، وفي مقدوره أن يصل إليه.
الطرق الصحيحة إلى معرفة الله
إنّ ذاته سبحانه وأسماءه وصفاته وأفعاله ، وإن كانت غير مسانخة لمدركات العالم المحسوس ، لكنّها ليست على نحو يستحيل التعرفُ عليها بوجه من الوجوه. ومن هنا نجد أنّ الحكماء والمتكلّمين يسلكون طرقاً مختلفة للتعرّف على ملامح العالَم الرُّبوبي ، وهم يرون أَنَّ ذلك العالم ليس على وجه لا يقع في أُفق الإِدراك مطلقاً ، بل هناك نوافذ على الغيب عقليّة ونقليّة ، يُرى منها ذلك العالم الفسيح العظيم.
وها نحن نشير إلى هذه الطرق :
الأوّل ـ الطريق العقلي
إِذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غيرَ محتاج إلى شيء ، فإنّ هذا الأمر يمكن أن يكون مبدأ لإثبات كثير من الصفات الجلاليّة ، فإنّ كلّ وصف استلزم خللاً في غناه ونقضاً له ، انتفى عنه ولزم سلبُه عن ذاته.
وقد سلك الفيلسوف الإسلامي نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلاليّة حيث قال : « ووجوب الوجود يدلّ على سرمديّته ، ونفي الزائد ، والشريك ، والمثل ، والتركيب بمعانيه ، والضّدّ ، والتّحيّز ، والحلول ، والإتّحاد ، والجهة ، وحلول الحوادث فيه ، والحاجة ، والألم مطلقاً واللذّة المزاجيّة ، والمعاني والأحوال والصفات الزائدة والرؤية ».
بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لإثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال : « ووجوب الوجود يدلّ على ثبوت الوجود ، والمُلك ، والتّمام ، والحقيّة ، والخيريّة ، والحكمة ، والتجبر ، والقهر ، والقيوميّة » (15).
وقد سبقه إلى ذلك مؤلّف الياقوت إذا قال : « وهو « وجوب الوجود » ينفي جملة من الصفات عن الذات الإِلهية وأنّه ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، ولا حالّاً في شيء ولا تقوم الحوادث به وإلّا لكان حادثاً » (16).
وعلى ذلك يمكن الإذعان بما في العالم الرّبوبي من الكمال والجمال بثبوت أصل واحد وهو كونه سبحانه موجوداً غنيّاً واجب الوجود ، لأجل بطلان التسلسل الذي عرفته. وليس إثبات غناه ووجوب وجوده أمراً مشكلاً على النفوس.
ومن هذا تنفتح نوافذ على الغيب والتعرف على صفاته الثبوتيّة والسلبيّة ، وستعرف البرهنة على هذه الصفات من هذا الطريق.
الثاني : المطالعة في الآفاق والأنفس
من الطرق والأصول التي يمكن التّعرف بها على صفات الله ، مطالعة الكون المحيط بنا ، وما فيه من بديع النظام ، فإنّه يكشف عن علم واسع وقدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيّات الكامنة فيه ، وكلّ القوانين التي تسود الكائنات. فمن خلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق أيّ مطالعة الكون ، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الجماليّة. وبهذا يتبين أنّ ذات الله سبحانه وصفاته ـ بحكم أنّها ليس كمثلها شيء ليست محجوبة عن التعرّف المطلق وغير واقعة في أفق التعقّل ، حتّى نعطل العقول ونقول : « إنّما أُعطينا العقل لإقامة العبوديّة لا لإدراك الربوبيّة ». وقد أمر الكتاب العزيز بسلوك هذا الطريق. يقول سبحانه : ( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (17). وقال سبحانه : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ) (18). وقال سبحانه : ( إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّـهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) (19).
وقد سلك هذا الطريق المحقّق الطوسي في إثبات صفة العلم والقُدرة حيث قال : « والإحكام والتجرّد واستناد كلّ شيء إليه دليل العلم » (20).
الثالث : الرجوع إلى الكتاب والسنّة الصحيحة
وهناك أصل ثالث يعتمد عليه أتباع الشّرع ، وهو التعرف على أسمائه وصفاته وأفعاله بما ورد في الكتب السماويّة وأقوال الأنبياء وكلماتهم ، وذلك بعدما ثبت وجوده سبحانه وقسم من صفاته ، ووقفنا على أنّ الأنبياء مبعوثون من جانب الله وصادقون في أَقوالهم وكلماتهم.
وباختصار ، بفضل الوحي ـ الذي لا خطأ فيه ولا زلل ـ نقف على ما في المبدأ الأعلى من نعوت وشؤون. فمن ذلك قولهُ سبحانه : ( هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّـهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (21). وسيوافيك أنّ اسماءه في القرآن مائة وثمانية وعشرون إسماً.
الرابع : الكشف والشّهود
وهناك ثلّة قليلة يشاهدون بعيون القلوب ما لا يدرك بالأبصار ، فيرون جماله وجلاله وصفاته وأفعاله بإدراك قلبي ، يدرك لأصحابه ولا يوصف لغيرهم.
والفتوحات الباطنيّة من المكاشفات والمشاهدات الروحيّة والإلقاءات في الروع غير مسدودة ، بنص الكتاب العزيز. قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّـهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ) (22). أيّ يجعل في قلوبكم نوراً تُفرّقون به بين الحقّ والباطل وتُميّزون به بين الصحيح والزائف لا بالبرهنة والإستدلال بل بالشهود والمكاشفة.
وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (23).
والمراد من النور هو ما يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته ، في معاشه ومعاده ، في دينه ودنياه (24).
وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (25) ، إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أنّ المؤمن يصل إلى معارف وحقائِقَ في ضوء المُجاهدة والتَّقوى ، إلى أَنْ يقدر على رؤية الجحيم في هذه الدنيا المادية ، قال سبحانه : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) (26).
نعم ليس كلّ من رمى أصاب الغرض ، وليست الحقائق رمية للنّبال ، وإنما يصل إليها الأمثل فالأمثل ، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبيّة والفتوحات الباطنيّة إلّا النذر القليل ممّن خلص روحه وصفى قلبُه.
وقد بان بهذا البحث الضافي ، أنّه ليس لمسلم التوقّف عن محاولة التعرف على صفات الله وأسمائه بحجّة أنّه لا مسانخة بين البشر وخالقهم.
نعم ، نحن لا ندّعي أنّ بعض هذه الطرق ميسورة السلوك للعامّة جميعاً ، بل منها ما هو عام متاح لكلّ إنسان يريد معرفة ربّه ، ومنها ما هو خاصّ يستفيد منه من بلغ مبلغاً خاصّاً من العلم والمعرفة (27).
الإِعراض عن البحث عمّا وراء الطبيعة ، لماذا ؟
هناك طوائف تمنع من البحث عمّا وراء هذا العالم المشهود وتعدّ حدود المادّة أقصى ما تصل إليه المعرفة البشريّة وتسلب كلّ قيمة من العلم المتعلّق بما وراء الطبيعة. والعجب أن بعض هذه الطوائف من الإلهيّين الذين يعتقدون بوجود الإله ، ولكن لا يبيحون البحث عمّا وراء الطبيعة على الإطلاق ويكتفون في ذلك بالإيمان بلا معرفة.
وإِليك هذه الطوائف :
الطائفة الأولى : المادّيون
وهم الذين يعتقدون بأصالة المادّة وينفون أيّ وجود وراء العالم الطبيعي ، فالوجود عندهم مساو للمادّة. وقد فرغنا عن إبطال هذه النظريّة في الأبحاث السابقة التي دلتنا على حدوث المادّة ونظامها وانتهائها إلى وجود قديم قائم بالذات.
الطائفة الثانية : المفرّطون في أدوات المعرفة
وهؤلاء يعتقدون بما وراء الطبيعة ، غير أنّهم يعتقدون بارتفاع قمم ذلك العالم وشموخها بحيث لا يمكن أن تبلغها العقول وتنالها الأفهام.
وهؤلاء يدعون أمراً ولا يأتون عليه بدليل ، فإنّ عند العقل قضايا بديهية كما أنّ لديه قضايا نظرية منتهية إلى البديهيّة. والقضايا البديهية صادقة بالبداهة في حقّ المادّة وغير المادّة. وكما أنّ العقل يستنتج من إنهاء القضايا النظريّة في الأمور الطبيعيّة إلى البديهيّة ، نتائج كانت مجهولة ، فهكذا عمله في القضايا الراجعة إلى ما وراء المادة. وستقف على كيفيّة البرهنة على صفاته وأفعاله بهذا الطريق في ثنايا الكتاب.
الطائفة الثالثة : مُدّعو الكشف والشهود
وهؤلاء يعتقدون أنّ الطريق الوحيد للتعرف على ما وراء الطبيعة هو تهذيب النفس وجعلها مستعدة لقبول الإفاضات من العالم الرّبوبي ، وهذا في الجملة لا إشكال فيه ، ولكن حصر الطريق بالكشف والشهود ادّعاء بلا دليل. فلا مانع من أن تكون أدوات المعرفة متعدّدة من الحسّ والعقل والكشف.
الطائفة الرابعة : الحنابلة وبعض الأشاعرة
وهؤلاء يعتقدون بأنّ الطريق الوحيد للتعرف على العالم الربوبي هو إخبار السماء ، فلا يجوز لنا الحكم بوحدة الذات الإلهيّة أو كثرتها ، وبساطتها أو تركّبها ، وجسمانيّتها أو تجرّدها ، إلّا بالأخبار والأنباء الواردة من السماء. وقد عزب عن هؤلاء أنّ العقل عنصر سماوي موهوب من قبل الله تعالى للإنسان لا كتشاف الحقائق بشكل نسبي. قال سبحانه : ( وَاللَّـهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (28).
وأَوضح دليل على قدرة العقل على البحث ودراسة الحقائق السّفليّة والعلويّة حثّ الوحي على التّعقّل سبعة وأربعين مرة ، والتّفكّر ثمانية عشر مرّة ، والتّدبّر أربع مرّات في الكتاب العزيز.
وتخصيص هذه الآيات بما وقع في أفق الحسّ تخصيص بلا دليل.
ثمّ لو كان الخوض في البحث عمّا وراء المادة أمراً محظوراً ، فلِمَ خاض القرآن في هذه المباحث ، ودعى جميع الإِلهيّين إلى سلوك هذا الطريق الذي سار عليه. قال سبحانه : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّـهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (29). وقال سبحانه : ( مَا اتَّخَذَ اللَّـهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (30). ترى في هاتين الآيتين أدَقَّ البراهين على التوحيد في التدبير بما لا يُتصوّر فوقه ، وسيوافيك تفسير الآيتين عند البحث عن وصف التوحيد.
إنّ الكتاب الكريم يذمّ المشركين بأنّهم يعتقدون بما لا برهان لهم عليه ، ومن خلال ذلك يرسم الطريق الصحيح للالهيين وهو أنّه يجب عليهم تحصيل البرهان على كلّ ما يعتقدونه في المبدأ والمعاد. قال سبحانه : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) (31).
ولو كان عمل السلف في هذا المجال حجّة ، فهذا الإمام علي بن أبي طالب قد خاض في الإلهيّات في خطبه ورسائله وكلمه القصار بما ليس في وسع أحد غيره.
ولأجل ذلك ترجع إليه كثير من المدارس الفكريّة العقليّة في الإلهيّات ، وعنه أخذت المعتزلة العدل والتوحيد ، والإماميّة أصولها وعقائدها.
فلا ندري لماذا تحتجّ سلفيّة العصر الحاضر والماضي بعمل أهل الحديث من الحنابلة والأشاعرة ، ولا تحتجّ بفعل الإمام أَمير المؤمنين علي بن أبي طالب ربيب أحضان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم و تلميذه الأوّل خليفة المسلمين أجمعين.
قال العلّامة الطباطبائي رحمه الله : « إنّ للناس مسالك مختلفة في هذا المجال ، فهناك من يرى البحث عن الحقائق الدينية والتّطلّع إلى ما وراء ظواهر الكتاب والسّنة بدعة ، والعقل يخطّئهم في ذلك ، والكتاب والسنّة لا يصدّقانهم.
فآيات الكتاب تُحرّض كلّ التحريض على التدبّر في آيات الله وبذل الجهد في تكميل معرفته ومعرفة آياته بالتذكّر والتفكّر والنظر فيها والإحتجاج بالحجج العقليّة ، ومتفرّقات السنّة المتواترة معنى توافقها. وهؤلاء هم الذين يحرّمون البحث عن حقائق الكتاب والسنّة ، حتّى البحث الكلاميّ الذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينيّة ثمّ الدفاع عنها بما تيسّر من المقدّمات المشهورة والمسلّمة عند أهل الدين » (32).
عودة نظريّة أهل الحديث في ثوب جديد
لقد عادت نظريّة أهل الحديث في العصر الحاضر بشكل جديد وهو أنّ التحقيق في المسائل الإلهيّة لا يُمكن إلّا من خلال مطالعة الطبيعة. قال محمّد فريد وجدي : « بما أنّ خصومنا يعتمدون على الفلسفة الحسّية والعلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم فنجعلهما عمدتنا في هذه المباحث بل لا مناص لنا من الإعتماد عليهما ، لأنّهما اللذان أوصلا الإنسان إلى هذه المنصّة من العهد الروحاني » (33).
وقال السيّد أبو الحسن النّدوي : « قد كان الأنبياء عليهم السلام أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله ، وعن بداية هذا العالم ومصيره وما يهجم على الإنسان بعد موته وآتاهم علم ذلك كلّه بواسطتهم عفوا بلا تعب ، وكفوهم مؤنة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادؤها ولا مقدّماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول ، لأنّ هذه العلوم وراء الحسّ والطبيعة ، لا تعمل فيها حواسهم ، ولا يؤدّي إليها نظرهم وليست عندهم معلوماتها الأوليّة ... إلى أن قال ... الذين خاضوا في الإلهيّات من غير بصيرة وعلى غير هدى جاؤوا في هذا العلم بآراء فجّة ومعلومات ناقصة وخواطر سانحة ونظريات مستعجلة ، فضلّوا وأضلّوا » (34).
أقول : لا شكّ أنّ القرآن يدعوا إلى مطالعة الطبيعة ، كما مرّ. إلّا أنّ الكلام هو في مدى كفاية النظر في الطبيعة ودراستها في البرهنة على المسائل التي طرحها القرآن الكريم مثل قوله سبحانه :
( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (35).
( وَلِلَّـهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ ) (36).
( لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) (37).
( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ ) (38).
( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (39).
( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (40).
إلى غير ذلك من المباحث والمعارف التي لا تنفع دراسة الطبيعة ومطالعة العالم المادّي في فكّ رموزها والوقوف على حقيقتها ، بل تحتاج إلى مبادئ ومقدّمات عقليّة وأُسس منطقيّة.
إنّ مطالعة العالم الطبيعي تهدينا إلى أنّ للكون صانعاً عالماً قادراً ، و لا تهدينا إلى أنّه سبحانه عالم بكلّ شيء وقادر على كلّ شيء ، وانّه خالق كلّ شيء ، ومدبر كلّ شيء.
فإذا أردنا أن نحدّد مدى المعرفة الحاصلة من النظر في الطبيعة ، فلنا أن نقول : إنّ الإمعان في الطبيعة يوصلنا إلى حدود ماوراء الطبيعة ، ويوقفنا على أنّ الطبيعة تخضع لقوّة قاهرة وتدبير مدبّر عالم قادر ، ولكن لا يمكن للإنسان التّخطّي عن ذلك إلى المسائل التي يطرحها القرآن أو العقل ، وللمثال نقول :
أَوّلاً : إِذا كان ماوراء الطبيعة مصدراً للطبيعة فما هو المصدر لما وراءها نفسها ؟
ثانياً : هل ذلك المصدر أزلِيّ أو حادث ، واحد أو كثير ، بسيط أو مركّب ، جامع لجميع صفات الجمال والكمال أو لا ؟
ثالثاً : هل لعلمه حدّ ينتهي إليه أو لا ؟
رابعاً : هل لقدرته نهاية تقف عندها أو لا ؟
خامساً : هل هو أَوّلُ الأشياء وآخرها أو لا ؟
سادساً : هل هو ظاهر الأشياء وباطنها ؟
إنّ هذه المعارف يطرحها القرآن الكريم ويأمر بالتدبّر فيها ويقول : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (41).
والإمعان في الطبيعة لا يفيد في الإجابة عن هذه التساؤلات ، والوقوف على المعارف المطروحة في القرآن.
وعندئذ لا مناص عن سلوك أحد الطريقين : إمّا أن يصار إلى التعطيل وتحريم البحث حول هذه المعارف. وإمّا الإذعان بوجود طريق عقليّ يوصلنا إلى تحليل هذه المعارف ويساعدنا على الوقوف عليها.
إنّ الذين يُحرّمون الخوض في هذه المباحث يعتمدون على أنّ التعرّف على حقيقة الذات وكنه صفاتها أمر محال ، ولكن ليس كلّ بحث كلامي ينتهي إلى ذلك الحدّ ويحاول البحث عن حقيقة الذات الإلهيّة كما أوضحناه.
إنّ العلوم الطبيعية قد خدمت مسلك الإلهيّين وعزّزت موقفهم ، حيث أثبتت أنّ الكون نظام كلّه ، إلّا أنّها قاصرة عن حلّ كلّ المشاكل المطروحة في مجال العقائد.
نعم ، إنّ التعمّق في هذه الأبحاث ليس متاحاً لكلّ أحد ، وليس ميسّراً لكلّ قاصد ، فهي من قبيل السهل الممتنع ، وذلك لأنّ الإنسان بسبب أنسه بالأمور الحسّية يصعب عليه تحرير فكره عن كلّ ما تفرضه عليه ظروفه حتّى يتهيّأ للتفكّر فيما وراء الطبيعة بفكر متحرّر من أغلال الماديّة.
وهناك وجه آخر لمحدوديّة الإنسان عن درك عميق المعارف الإلهيّة وهو أنّ أدوات الإنسان للتعبير محدودة بألفاظ وكلمات لم توضع إلّا لبيان المعاني الحسيّة المحدودة فلأجل ذلك لا مناص له عن التعبير عن الحقائق الكونيّة العليا المطلقة عن الزمان والمكان بتلك الألفاظ الضّيّقة ، والى ذلك يشير بعض العرفاء بقولة :
ألا إنّ ثَوْباً خِيْطَ مِنْ نَسْجِ تِسْعَةٍ |
وعشرينَ حَرْفاً عن معانيه قاصر |
والشيخ الرئيس ابن سينا يوصي بأن لا تطرح المسائل الإلهيّة العويصة إلّا على أهلها ويقول في إشاراته في خاتمة الكتاب : « أيّها الأخ إنّي قد مخضتُ في هذه الإشارات عن زبدة الحقّ وألقمتك قفّي الحكم في لطائف ، فضُنّه عن الجاهلين والمبتذلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة ، والدّربة والعادة ، وكان صفاه مع الفاغة ، أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة ومن همجهم. فإن وجدتَ من تثق بنقاء سريرته ، وبتوقّفه عمّا يتسرع إليه الوسواس ، وبنظره إلى الحقّ بعين الرضا والصدق ، فاعطه ما يسألك منه مدرّجاً مجزّءاً مُفرّقاً تستفرس ممّا تُسلفه لما تستقبله ، وعاهده بالله وبأيمان لا مخارج لها ليجري في ما يأتيه مجراك ، متأسّياً بكَ ، إن أذعت هذا العلم أو أضعته فالله بيني وبينك وكفى بالله وكيلاً » (42).
ولسنا هنا مدعين أنّ هذه المباحث مباحث عامة يجوز لكلّ أحد ارتيادها لدقّة مسالكها ، وكثرة مزالقها. بل خاصّةٌ بجماعة أوتوا مقدرة فكريّة فائقة.
فلأجل ذلك نطرح المعارف الإلهيّة في ضوء العقل والوحي مستمدين من الله سبحانه أن يرينا الحقّ ويحفظنا عن ركوب الباطل ، إنّه عزيز حكيم.
الهوامش
1. سورة الرحمن : الآية ٧٨.
2. الأسفار ، ج ٦ ، ص ١١٨.
3. الأسفار ، ج ٦ ، ص ١١٨.
4. الميزان ، ج ١٠ ، ص ٢٧٣.
5. الملل والنحل ، ج ١ ، ص ١٠٤.
6. الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٩٣.
7. الرسائل الكبرى لابن تيميّة ، ج ١ ، ص ٣٢.
8. نهج البلاغة ، الخطبة ٢٩.
9. سورة الذاريات : الآية ٥٦.
10. سورة الحديد : الآيات ١ ـ ٦.
11. سورة الحشر : الآيات ٢٢ ـ ٢٤.
12. الحجّة في بيان المحجّة ، كما في « علاقة الاثبات والتفويض » ، ص ٣٣.
13. سورة الأسراء : الآية ٤٤.
14. سورة الحج : الآية ٧٤.
15. تجريد الإعتقاد ، باب إثبات الصانع وصفاته ، ص ١٧٨ ـ ١٨٥.
16. أنوار الملكوت في شرح الياقوت ، ص ٧٦ و ٨٠ و ٨١ و ٩٩.
17. سورة يونس : الآية ١٠١.
18. سورة آل عمران : الآية ١٩٠.
19. سورة يونس : الآية ٦.
20. تجريد الإعتقاد ، ص ١٧٢ ، طبعة مطبعة العرفان ـ صيدا.
21. سورة الحشر : الآيتان ٢٣ و ٢٤.
22. سورة الأنفال : الآية ٢٩.
23. سورة الحديد : الآية ٢٨.
24. أَمّا في الدنيا فهو النور الذي أَشار إليه سبحانه بقول : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) [ سورة الأنعام : الآية ١٢٢ ].
وأمّا في الآخرة فهو ما أَشار إليه سبحانه بقوله : ( يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ) [ سورة الحديد : الآية ١٢ ].
25. سورة العنكبوت : الآية ٦٩.
26. سورة التكاثر : الآية ٥ ـ ٦.
27. راجع في الوقوف على مفتاح هذا الباب : مفاهيم القرآن ، الجزء الثالث ، ص ٢٤٤ إلى ص ٢٥٩.
28. سورة النحل : الآية ٧٨.
29. سورة الأنبياء : الآية ٢٢.
30. سورة المؤمنون : الآية ٩١.
31. سورة الأنبياء : الآية ٢٤.
32. الميزان ، ج ٨ ، ص ١٥٣.
33. على أطلال المذهب المادي ، ج ١ ، ص ١٦.
34. ماذا خسر العالم ، ص ٩٧.
35. سورة الشورى : الآية ١١.
36. سورة النحل : الآية ٦٠.
37. سورة طه : الآية ٨ ، سورة الحشر : الآية ٢٢.
38. سورة البقرة : الآية ١١٥.
39. سورة الحديد : الآية ٣.
40, سورة الحديد : الآية ٤.
41. سورة محمد : الآية ٢٤.
42. الإشارات ، ج ٣ ، ص ٢١٩.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 81 ـ 103
التعلیقات