الفرضيّة الثالثة: التشيّع فارسيّ المبدأ أو الصبغة
الأراء حول نشوء التشيع
منذ 15 سنةالمصدر : أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم ، تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ص 72 ـ 82
(72)
الفرضيّة الثالثة: التشيّع فارسيّ المبدأ أو الصبغة
وهناك فرضية ثالثة اخترعها المستشرقون لتكوّن مذهب الشيعة في المجتمع الاِسلامي، وهذه الفرضية كسابقتيها تعتمد اعتبار حداثة هذا المذهب قصداً أم جهلاً، فقادها هذا التصوّر الخاطىَ إلى اعتماد نظرية تقول بفارسيّة المبدأ أو الصبغة لمذهب التشيّع، وهذا الترديد بين الاَمرين مرجعه رأيان لاَصحاب هذه النظرية في المقام:
1 ـ إنّ التشيع من مخترعات الفرس؛ اخترعوه لاَغراض سياسية ولم يعتنقه أحد من العرب قبل الفرس، ولكنّهم لما أسلموا اخترعوا تلك الفكرة لغاية خاصّة.
2 ـ إنّ التشيّع عربي المبدأ، وإنّ لفيفاً من العرب اعتنقوه قبل أن يدخل الفرس في الاِسلام، ولمّا أسلموا اعتنقوه وصبغوه بصبغة فارسية لم تكن من قبل.
وهذان الرأيان هما اللّذان عبّرنا عنهما في العنوان بما عرفت، وإليك تفصيل أمرهما:
أمّا النظرية الاَُولى: فقد اخترعها المستشرق دوزي، وملخّصها: أنّ للمذهب الشيعي نزعة فارسية؛ لاَنّ العرب كانت تدين بالحرّيّة، والفرس تدين بالملك والوراثة، ولا يعرفون معنى الانتخاب، ولمّا انتقل النبيّ إلى دار البقاء ولم يترك ولداً، قالوا: علي أولى بالخلافة من بعده.
وحاصله: أنّ الانسجام الفكري بين الفرس والشيعة ـ أعني: كون الخلافة أمراً وراثياً ـ دليل على أنّ التشيّع وليد الفرس.
وهذا التصوّر مردود لجملة واسعة من البديهيات، منها:
أوّلاً: أنّ التشيّع حسبما عرفت ظهر في عصر النبيّ الاَكرم، وهو الذي سمّى أتباع عليّ بالشيعة، وكانوا موجودين في عصر النبيّ وبعده، إلى زمن لم يدخل أحد من الفرس ـ سوى سلمان ـ في الاِسلام.
بلى، فإنّ روّاد التشيّع في عصر الرسول والوصي كانوا كلّهم عرباً ولم يكن بينهم أيّ فارسيّ سوى سلمان المحمّدي، وكلّهم كانوا يتبنّون فكرة التشيّع.
وكان لاَبي الحسن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب7 أيام خلافته ثلاثة حروب: حرب الجمل، وصفّين، والنهروان. وكان جيشه كلّه عرباً ينتمون إلى أُصول وقبائل عربية مشهورة بين عدنانية وقحطانية، فقد انضمّ إلى جيشه زرافات من قريش والاَوس والخزرج، ومن قبائل مذحج، وهمدان، و طي، وكندة، وتميم، ومضر، بل كان زعماء جيشه من رؤوس هذه القبائل كعمّار بن ياسر، وهاشم المرقال، ومالك الاَشتر، وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد، وقيس بن سعد بن عبادة، وعبد الله بن عباس، ومحمّد بن أبي بكر، وحجر بن
________________________________________
(73)
عدي، وعدي بن حاتم، وأضرابهم. وبهذا الجند وبأُولئك الزعماء فتح أمير المؤمنين البصرة، وحارب القاسطين ـ معاوية وجنوده ـ يوم صفّين، وبهم قضى على المارقين.
فأين الفرس في ذلك الجيش وأُولئك القادة كي نحتمل أنّهم كانوا الحجر الاَساس للتشيّع؟ ثمّ إنّ الفرس لم يكونوا الوحيدين ممّن اعتنقوا هذا المذهب دون غيرهم، بل اعتنقه الاَتراك والهنود وغيرهم من غير العرب.
شهادة المستشرقين على أنّ التشيّع عربي المبدأ:
إنّ عدداً من المستشرقين وغيرهم صرّحوا بأنّ العرب اعتنقت التشيّع قبل الفرس وإليك نصوصهم:
1 ـ قال الدكتور أحمد أمين: الذي أرى ـ كما يدلّنا التاريخ ـ أنّ التشيّع لعليّ بدأ قبل دخول الفرس إلى الاِسلام ولكن بمعنى ساذج، ولكن هذا التشيّع أخذ صبغة جديدة بدخول العناصر الاَُخرى في الاِسلام، وحيث إنّ أكبر عنصر دخل في الاِسلام الفرس فلهم أكبر الاَثر في التشيّع(1) . وسيوافيك الكلام على ما في ذيل كلامه من أنّ التشيّع أخذ صبغة جديدة بعد فترة من حدوثه.
2 ـ وقال المستشرق فلهوزن: كان جميع سكان العراق في عهد معاوية ـ خصوصاً أهل الكوفة ـ شيعة، ولم يقتصر هذا على الاَفراد، بل شمل القبائل ورؤساء العرب(1).
3 ـ وقال المستشرق جولد تسيهر: إنّ من الخطأ القول بأنّ التشيّع في نشأته ومراحل نموه يمثّل الاَثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الاَُمم الاِيرانية في الاِسلام
____________
(1) فجر الاِسلام: 176.
(2) الخوارج والشيعة: 113.
________________________________________
(74)
بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة(1).
4 ـ وأمّا المستشرق آدم متز فإنّه قال: إنّ مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض ردّ فعل من جانب الروح الاِيرانية يخالف الاِسلام، فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلّها عدا المدن الكبرى مثل مكّة وتهامة وصنعاء، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً مثل عمان، وهجر، وصعدة، أمّا إيران فكانت كلّها سنّة، ما عدا قم، وكان أهل إصفهان يغالون في معاوية حتى اعتقد بعض أهلها أنّه نبيمرسل(2).
ولعلّ المتأمّل في كلمات هؤلاء يجد بوضوح أنّهم يقطعون بفساد الرأي الذاهب إلى فارسيّة التشيّع، وأنّهم لم يجدوا له تبريراً معقولاً، بالرغم من عدم تعاطفهم أصلاً مع التشيّع، فتأمل.
5 ـ يقول الشيخ أبو زهرة: إنّ الفرس تشيّعوا على أيدي العرب وليس التشيّع مخلوقاً لهم، ويضيف: وأمّا فارس وخراسان وما وراءهما من بلدان الاِسلام، فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الاِسلام الذين كانوا يتشيّعون فراراً بعقيدتهم من الاَُمويين أوّلاً، ثمّ العباسيين ثانياً، وأنّ التشيّع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً قبل سقوط الدولة الاَُموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها(3).
6ـ وقال السيّد الاَمين: إنّ الفرس الذين دخلوا الاِسلام لم يكونوا شيعة في أوّل الاَمر إلاّ القليل، وجلّ علماء السنّة وأجلاّئهم من الفرس، كالبخاري
____________
(1) العقيدة والشريعة: 204.
(2) الحضارة الاِسلامية: 102.
(3) الاِمام جعفر الصادق: 545.
________________________________________
(75)
والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم النيسابوري والبيهقي، وهكذا غيرهم ممّن أتوا في الطبقة التالية(1).
وأما النظرية الثانية فإنّ التاريخ يدلّنا على أنّ الفرس دخلوا في الاِسلام يوم دخلوا بالصبغة السنّية، وهذا هو البلاذري يحدّثنا في كتابه عن ذلك بقوله:
كان ابرويز وجّه إلى الديلم فأتى بأربعة آلاف، وكانوا خدمه وخاصّته، ثمّ كانوا على تلك المنزلة بعده، وشهدوا القادسية مع رستم، ولمّا قتل وانهزم المجوس اعتزلوا، قالوا: ما نحن كهؤلاء ولا لنا ملجأ، وأثرنا عندهم غير جميل، والرأي لنا أن ندخل معهم في دينهم، فاعتزلوا. فقال سعد: ما لهؤلاء؟ فأتاهم المغيرة بن شعبة فسألهم عن أمرهم، فأخبروا بخبرهم، وقالوا: ندخل في دينكم، فرجع إلى سعد فأخبره فآمنهم، فأسلموا وشهدوا فتح المدائن مع سعد، وشهدوا فتح جلولاء، ثمّ تحوّلوا فنزلوا الكوفة مع المسلمين(2).
لم يكن إسلامهم ـ يوم ذاك ـ إلاّ كإسلام سائر الشعوب، فهل يمكن أن يقال: إنّ إسلامهم يوم ذاك كان إسلاماً شيعياً؟
وأمّا النظرية الثالثة: فإنّ الاِسلام كان ينتشر بين الفرس بالمعنى الذي كان ينتشر به في سائر الشعوب، ولم يكن بلد من بلاد إيران معروفاً بالتشيّع إلى أن انتقل قسم من الاَشعريين الشيعة إلى قم وكاشان، فبذروا بذرة التشيّع، وكان ذلك في أواخر القرن الاَوّل، مع أنّ الفرس دخلوا في الاِسلام في عهد الخليفة الثاني؛ أي ابتداء من عام )17هـ)، وهذا يعني أنّه قد انقضت أعوام كثيرة قبل أن يدركوا ويعلموا معنى ومفهوم التشيّع، فأين هذا من ذاك. وهذا هو ياقوت الحموي يحدّثنا في معجم البلدان بقوله:
____________
(1) أعيان الشيعة ج 1، القسم الاَول: 50 ـ 51 ط 2 ـ دمشق سنة 1363هـ
(2) البلاذري، فتوح البلدان:279.
________________________________________
(76)
قم، مدينة تذكر مع قاشان، وهي مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للاَعاجم فيها، وأوّل من مصّـرها طلحة بن الاَحوص الاَشعري، وكان بدو تمصيرها في أيام الحجّاج بن يوسف سنة (83هـ)، وذلك أنّ عبد الرحمن بن محمّد بن الاَشعث بن قيس، كان أمير سجستان من جهة الحجّاج، ثمّ خرج عليه، وكان في عسكره سبعة عشر نفساً من علماء التابعين من العراقيين، فلمّا انهزم ابن الاَشعث ورجع إلى كابل منهزماً كان في جملة إخوة يقال لهم: عبد الله، والاَحوص، وعبد الرحمن، وإسحاق، ونعيم، وهم بنو سعد بن مالك بن عامر الاَشعري، وقعوا في ناحية قم، وكان هناك سبع قرى اسم احداها «كمندان» فنزل هؤلاء الاَُخوة على هذه القرى حتّى افتتحوها واستولوا عليها، وانتقلوا إليها واستوطنوها، واجتمع عليهم بنو عمّهم وصارت السبع قرى سبع محالّ بها، وسمّيت باسم إحداها «كمندان»، فأسقطوا بعض حروفها فسميت بتعريبهم قماً، وكان متقدّم هؤلاء الاَُخوة عبد الله ابن سعد، وكان له ولد قد ربّي بالكوفة، فانتقل منها إلى قم، وكان إمامياً، وهو الذي نقل التشيّع إلى أهلها، فلا يوجد بها سنّيّ قط (1).
إذن فهذا كلّه راجع إلى تحليل النظـرية من منظار التاريخ، وأمّا دليله فهو أوهن من بيت العنكبوت، فإذا كان الفرس لايعرفون معنى الانتخاب والحرية، فإنّ العرب أيضاً مثلهم، فالعربي الذي كان يعيش بالبادية عيشة فردية كان يحبّ الحرية ويمارسها، وأمّا العربي الذي يعيش عيشة قبلية، فقد كان شيخ القبيلة يملك زمام أُمورهم وشؤونهم وعند موته يقوم أبناؤه وأولاده مكانه واحداً بعد الآخر، فما معنى الحرية بعد هذا؟!
____________
(1) معجم البلدان 4: 396، مادة قم، ويقول في مراصد الاطلاع بأنّ أهل قم، وكاشان كلّهم شيعة إمامية. ولاحظ رجال النجاشي، ترجمة الرواة الاَشعريين فيه.
________________________________________
(77)
تحليل النظرية:
إنّ هذه النظرية وإن كانت تعترف بأنّ التشيّع عربي المولد والمنشأ، ولكنّها تدّعي أنّه اصطبغ بصبغة فارسية بعد دخول الفرس في الاِسلام، وهذا هو الذي اختاره الدكتور أحمد أمين كما عرفت ولفيف من المستشرقين كـ «فلهوزن» فيما ذهبوا إليه في تفسير نشأة التشيّع.
يقول الثانى: إنّ آراء الشيعة كانت تلائم الاِيرانيين، أمّا كون هذه الآراء قد انبثقت من الاِيرانيين فليست تلك الملاءمة دليلاً عليه، بل الروايات التاريخية تقول بعكس ذلك؛ إذ تقول إنّ التشيّع الواضح الصريح كان قائماً أوّلاً في الاَوساط العربية، ثمّ انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي، وجمع بين هؤلاء وبين تلك الاَوساط.
ولكن لمّا ارتبطت الشيعة العربية بالعناصر المضطهدة تخلّت عن تربية القومية العربية، وكانت حلقة الارتباط هي الاِسلام، ولكنّه لم يكن ذلك الاِسلام القديم، بل نوعاً جديداً من الدين(1).
أقول: إنّ مراده أنّ التشيّع كان في عصر الرسول وبعده بمعنى الحبّ والولاء لعليّ لكنّه انتقل بيد الفرس إلى معنى آخر وهو كون الخلافة أمراً وراثياً في بيت عليّ7 وهو الذي يصرّح به الدكتور أحمد أمين في قوله: إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع، والمقصود من الاستيلاء هو جعل الخلافة أمراً وراثياً كما كان الاَمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان وغيرهم.
إلاّ أنّه يلاحظ عليه: أنّ كون الحكم والملك أمراً وراثياً لم يكن من خصائص الفرس، بل إنّ مبدأ وراثية الحكم كان سائداً في جميع المجتمعات، فالنظام السائد بين ملوك الحيرة وغسّان وحمير في العراق والشام واليمن كان هو الوراثة، والحكم
____________
(1) الخوارج والشيعة: 169.
________________________________________
(78)
في الحياة القبلية في الجزيرة العربية كان وراثياً، والمناصب المعروفة لدى قريش من السقاية والرفادة وعمارة المسجد الحرام والسدانة كانت أُموراً وراثية، حتّى أنّ النبيّ الاَكرم لم يغيّرها بل إنّه أمضاها كما في قضيّة دفعه لمفاتيح البيت إلى بني شيبة وإقرارهم على منصبهم هذا إلى الاَبد.
فإلصاق مسألة الوراثة بالفرس دون غيرهم أمر عجيب لا يقرّه العقلاء، فعلى ذلك يجب أن نقول: انّ التشيّع اصطبغ بصبغة فارسية وغسّانية وحميرية وأخيراً عربية، وإلاّ فما معنى تخصيص فكرة الوصاية بالفرس مع كونها آنذاك فكرة عامّة عالمية؟!
إنّ النبوّة والوصاية من الاَُمور الوراثية في الشرائع السماوية، لا بمعنى أنّ الوراثة هي الملاك المعيّـن بل بمعنى أنّه سبحانه جعل نور النبوّة والاِمامة في بيوتات خاصّة، فكان يتوارث نبيّ نبيّاً، ووصيّ وصيّاً، يقول سبحانه:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ }(1).
{وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(2).
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}(3).
لماذا لا يكون سبب تشيّع الفرس مفاد هذه الآيات والروايات التي تصرّح بأنّ الوصاية بين الاَنبياء كانت أمراً وراثياً؟ وإنّ هذه سنّة الله في الاَُمم كما هو ظاهر قوله سبحانه: «لا ينال عهدِي الظالمين» فسمّى الاِمامة عهد الله لا عهد الناس.
____________
(1) الحديد: 26.
(2) البقرة: 124.
(3) النساء: 54.
________________________________________
(79)
ثمّ إنّ من زعم أنّ التشيّع من صنع الفرس مبدأ وصبغة فهو جاهل بتاريخ الفرس، وذلك لاَنّ التسنّن كان هو السائد فيهم إلى أوائل القرن العاشر حتّى غلب عليهم التشيّع في عصر الصفويين، نعم كانت مدن ري وقم وكاشان معقل التشيّع ومع ذلك يقول أبو زهرة: إنّ أكثر أهل فارس إلى الآن من الشيعة، وإنّ الشيعة الاَوّلين كانوا من فارس (1).
أمّا غلبة التشيّع عليهم في الاَوان الاَخير فلا ينكره أحد، إنّما الكلام في كونهم كذلك في بداية دخولهم إلى الاِسلام، فالذي يظهر أنّ الرجل جاهل بتاريخ بلاد إيران وليس له معرفة حقيقية بتفاصيل التركيبة المذهبية المختلفة التي كانت واضحة في أطراف المجتمع الاِيراني وبيّنة فيه.
وإليك ما ذكره أحد الكتّاب القدامى في كتابه «أحسن التقاسيم» لتقف على أنّ المذهب السائد في ذلك القرن، هل كان هو التشيّع أم التسنّن؟ يقول:
« إقليم خراسان للمعتزلة والشيعة، والغلبة لاَصحاب أبي حنيفة إلاّ في كورة الشاش؛ فأنّهم شوافع وفيهم قوم على مذهب عبد الله السرخسى، وإقليم الرحاب مذاهبهم مستقيمة إلاّ أنّ أهل الحديث حنابلة والغالب بدبيل ـ لعلّه يريد أردبيل ـ مذهب أبي حنيفة وبالجبال، أمّا بالريّ فمذاهبهم مختلفة، والغلبة فيهم للحنفية، وبالري حنابلة كثيرة، وأهل قم شيعة، والدينور غلبه مذهب سفيان الثوري، وإقليم خوزستان مذاهبهم مختلفة، أكثر أهل الاَهواز ورامهرمز والدورق حنابلة، ونصف أهل الاَهواز شيعة، وبه أصحاب أبي حنيفة كثير، وبالاَهواز مالكيّون... إقليم فارس العمل فيه على أصحاب الحديث وأصحاب أبي حنيفة... إقليم كرمان المذاهب الغالبة للشافعي... إقليم السند مذاهبهم أكثرها أصحاب حديث، وأهل الملتان شيعة يهوعلون في الاَذان ـ أي يقولون حيّ على خير العمل ـ ويثنّون
____________
(1) تاريخ المذاهب الاِسلامية: 35.
________________________________________
(80)
في الاِقامة ـ أي يقولون الله أكبر مرّتين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله مرّتين أيضاً وهكذاـ ولا تخلو القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة(1).
وأمّا ابن بطوطة في رحلته فيقول: « كان ملك العراق السلطان محمّد خدابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الاِمامية يسمّى جمال الدين بن مطهّرـيعني العلاّمة الحلي (648 ـ 726هـ) ـ فلمّا أسلم السلطان المذكور وأسلمت بإسلامه التتر زاد في تعظيم هذا الفقيه، فزيّن له مذهب الروافض وفضّله على غيره... فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض، وكتب بذلك إلى العراقين وفارس وآذربايجان وإصفهان وكرمان وخراسان، وبعث الرسل إلى البلاد، فكان أوّل بلاد وصل إليها الاَمر بغداد وشيراز وإصفهان، فأمّا أهل بغداد فخرج منهم أهل باب الاَزج يقولون: لا سمعاً ولا طاعة، وجاءوا للجامع وهدّدوا الخطيب بالقتل إن غيّـر الخطبة، وهكذا فعل أهل شيراز وأهل إصفهان(2).
وقال القاضي عيّاض في مقدّمة «ترتيب المدارك» وهو يحكي انتشار مذهب مالك: وأمّا خراسان وما وراء العراق من بلاد المشرق فدخلها هذا المذهب أوّلاً بيحيى بن يحيى التميمى، وعبد الله بن المبارك، وقتيبة بن سعيد، فكان له هناك أئمّة على مرّ الاَزمان، وتفشّى بقزوين وما والاها من بلاد الجبل. وكان آخر من درس منه بنيسابور أبوإسحاق بن القطّان، وغلب على تلك البلاد مذهبا أبيحنيفةوالشافعي(3)
قال «بروكلمان»: إنّ شاه إسماعيل الصفوي بعد انتصاره على «الوند» توجّه
____________
(1)شمس الدين محمد بن أحمد المقدسي، أحسن التقاسيم: 119 (ألّفه عام 375هـ) .
(2) رحلة ابن بطوطة: 219 ـ 220.
(3) ترتيب المدارك 1: 53.
________________________________________
(81)
نحو تبريز فأعلمه علماء الشيعة التبريزيون أنّ ثلثي سكان المدينة ـ الذين يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف ـ من السنّة(1).
إذن فالنصوص المتقدّمة تدلّ دلالة واضحة على أنّ مذهب التسنّن كان هو المذهب السائد إلى القرن العاشر بين الفرس، فكيف يمكن أن يقال: إنّ بلاد فارس كانت هي الموطن الاَصلي للتشيّع؟
وممّا يؤكّد ذلك أيضاً ما رواه ابن الاَثير في تأريخه من أنّ أهل طوس كانوا سنّة إلى عصر محمود بن سبكتكين، قال: إنّ محمود بن سبكتكين جدّد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر عليّ بن موسى الرضا وأحسن عمارته، وكان أبوه سبكتكين أخربه، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره، فمنعهم ابنه عن ذلك، وكان سبب فعله ذلك أنّه رأى في المنام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وهو يقول: إلى متى هذا؟ فعلم أنّه يريد أمر المشهد، فأمر بعمارته(2).
ويؤيّد ذلك ما رواه البيهقي: أنّ المأمون العباسي همَّ بأن يكتب كتاباً في الطعن على معاوية، فقال له يحيي بن أكثم: يا أمير المؤمنين، العامّة لا تتحمّل هذا ولا سيما أهل خراسان، ولا تأمن أن يكون لهم نفرة (3).
إلاّ أنّ المتوكل عمد وبصلافة وتهتّك إلى هدم قبر الحسين_عليه السلام_ وفي ذلك قال الشاعر المعروف بالبسّامي:
تالله إن كانت أميّة قد أتت * قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
____________
(1)تاريخ المذاهب الاِسلامية 1: 140.
(2) الكامل في التاريخ 5: 139.
(3) المحاسن والمساوىَ 1: 108.
________________________________________
(82)
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله * هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبّعوه رميما(1)
فقد بان ممّا ذكر أمران:
1 ـ إنّ التشيّع ليس فارسيّ المبدأ، وإنّما هو حجازي المولد والمنشأ، اعتنقه العرب فترة طويلة لم يدخل فيها أحد من الفرس ـ سوى سلمان المحمّدي ـ وإنّ الاِسلام دخل بين الفرس مثل دخوله بين سائر الشعوب، وأنّهم اعتنقوا الاِسلام بمذاهبه المختلفة مثل اعتناق سائر الاَُمم له، وبقوا على ذلك طويلاً إلى أن اشتد عود التشيّع وكثر معتنقوه في عهد بعض ملوك المغول أو عهد الصفوية (905هـ).
2 ـ إنّ كون الاِمامة منحصرة في عليّ وأولاده ليس صبغة عارضة على التشيّع، بل هو جوهر التشيّع وحقيقته، ولولاه فقد التشيّع روحه وجوهره، فجعل الولاء لآل محمّد أو تفضيل عليّ على سائر الخلفاء أصله وجوهره، واعتبار هذا الاَمر ـ كما يعتقده البعض ـ أمراً عرضياً دخيلاً على مذهب التشيع، تصوّر لا دليل له إلاّ التخرص والاختلاق.
قال المفيد ـ رحمه الله ـ: الشيعي من دان بوجوب الاِمامة ووجودها في كل زمان وأوجب النصّ الجليّ والعصمة والكمال لكلّ إمام، ثمّ حصر الاِمامة في ولد الحسين بن عليّ8 وساقها إلى الرضا عليّ بن موسى8.
____________
(1) تاريخ أبي الفداء 2: 68
التعلیقات