حقيقة العصمة عن المعاصي
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 157 ـ 163
( 157 )
المرتبة الأولى للعصمة
العصمة عن الذُنُوب
ويقع البحث في مقامات ثلاثة:
الأول ـ بيان حقيقة العصمة عن المعاصي والذنوب.
الثاني ـ بيان مبدأ ظهور فكرة العصمة.
الثالث ـ بيان الدليل على لزوم اتّصاف الأنبياء بها.
ثم نختم البحث بالإجابة عن سؤالين هامَّين.
المقام الأوّل : حقيقة العصمة عن المعاصي
قال ابن فارس : « عَصَمَ : أصلٌ واحدٌ صحيح يدلّ على إمساك ومنع
وملازمة ، والمعنى في ذلك كلِّه واحدٌ . من ذلك « العصمة » : أنْ يعصم الله عبدَه
من سوء يقع فيه. واعتصم العبد بالله تعالى : إذا تَمَنَّعَ . واستعصم : التجأ ،
وتقول العرب : أَعصَمْت فلاناً ، أي هيًأَتُ له شيئاً يعتصم بما نالته يده ، أي
يلتجي ويتمسك به»(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- المقاييس : ج 4 ص 331.
________________________________________
( 158 )
هذا في اصطلاح أهل اللُّغة.
وفي اصطلاَح المتكلِّمين : « العصمة قوة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية ،
والوقوع في الخطأ»(1).
وربما تُعَرّف أيضاً بأنّها : « لطف يفعله الله في المكلف بحيث لا يكون له مع
ذلك داع إلى ترك الطاعة ، ولا إلى فعل المعصية ، مع قدرته على ذلك»(2).
ومن العجب تفسير الأشاعرة العصمة بأنّها عبارة عن أنّه سبحانه لا يخلق في
المعصومين ذنباً(3) ؛ فإنّه تعريف واه سخيف على الأُصول الّتي سلكناها من أنّ
فاعل الذنب وموجده هو العبد مباشرة ، بقوة منه سبحانه ، نعم هو صحيح على
أصولهم القائمة على إنكار السببية والعلّية بين الأشياء.
وفيما ذكرناه من التعاريف كفاية في المقام ، وإنّما المهم بيان حقيقة العصمة
بنحو يرفع الغموض عنها ، وهو يحصل ببيان الوجوه التالية:
الوجه الأوّل: العصمة غصن من دوحة التقوى
إنّ التقوى في العاديين من الناس ، كيفية نفسانية تعصم صاحبها عن
اقتراف كثير من القبائح والمعاصي ، ولأجل ذلك نرى البون الشاسع بينهم وبين
المجرمين ، المليئة حياتهم بالجرائم وقبائح الأعمال ، بينما حياة المتقين خلو منها إلاّ
ما شذّ.
فإذا كان هذا أثر التقوى العمومية ، فما بالك بالتقوى ، إذا ترقت في
مدارجها ، وعَلَت في مراتبها ، إنّها حينذاك تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة ،
والإمتناع المطلق عن ارتكاب أي قبيح من الأعمال ، أو ذميم من الأفعال ، بل
يمتنع معها حتى عن التفكير في خلاف أو معصية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الميزان : ج 8 ، ص 142.
2- إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : ص 310.
3- إبطال نهج الباطل : للفضل بن روزبهان، على ما في ذيل دلائل الصدق : ج 1 ص 370.
________________________________________
( 159 )
وعلى هذا ، فالعصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس ، لها آثار خاصة
كسائر الملكات النفسانية مثل الشجاعة والعفة والسخاء ؛ فإنّ الإنسان إذا كان
شجاعاً وصبوراً ، سخياً وباذلاً ، عفيفاً ونزيهاً ، تراه يتطلب في حياته معالي
الأمور ، ويتجنب سفاسفها ، فيطرد عن نفسه الخوف والجُبْنَ والبُخْلَ والإمساكَ ،
والقبائح والمساوئ ، ولاترى لها أثراً في حياته.
وهكذا نقول في العصمة ؛ فإنّ الإنسان إذا بلغ درجة قصوى من التقوى ،
يصل إلى حدّ من الطهارة لا يُرى معه في حياته أثر من آثار المعصية والتمرّد على
أوامر الله تعالى . وأمّا كيف تحصل فيه هذه الكيفية النفسانية ، فهو ما نبحثه في
الوجه الثاني.
وعلى ذكرنا ، تنقسم العصمة إلى عصمة مطلقة وعصمة نسبية ، والأُولى
تختص بطبقة خاصة من الناس ، والثانية تعمّ كثيراً منهم . فكم من الناس
يتورعون عن السرقة والقتل ونحو ذينك ، وإن عُرضت عليهم المكافآت المادية
الكبيرة ، وما ذلك إلاّ لانتفاء الحوافز إلى هذه الأفاعيل ، في قرارة أنفسهم ، إمّا
نتيجة للتقوى أو غيرها من العوامل . وتصديق العصمة النسبية الملموسة لنا ،
يُقَرِّب تصوُّرَ العصمة المطلقة إلى الأذهان ، والّتي هي كون الإنسان في مرتبة
شديدة من التقوى تمنعه عن اقتراف جميع أنواع القبائح ، طُرّاً.
الوجه الثاني: العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي
إنّ العلم القطعي بعواقب الأعمال الخطيرة ، يخلق في نفس الإنسان وازعاً
قوياً يصدُّه عن ارتكابها ، وأمثاله في الحياة كثيرة. فلو وقف أحدنا على أنّ في
الإسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل من يمسّها عارية من دون عائق ، فإنّه
يحجم من تلقاء نفسه من مسّ تلك الأسلاك والإقتراب منها . ونظير ذلك ،
الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم ؛ فإنّه إذا صادف ماءً اغتسل فيه
مصاب بالجُذام أو البَرَص ، أو إناءً شرب منه مصابٌ بالسِّلِّ ، لا يقدم على
الإغتسال فيه أو شربه ، مهما اشتدت حاجته إليه ، لعلمه بما يَجُرّ عليه الشرب
والإغتسال بذاك الماء الموبوء ، من الأمراض ، وقس على ذلك سائر العواقب
________________________________________
( 160 )
الخطيرة ، وإن كانت من قبيل السقوط في أعين الناس ، وفقدان الكرامة وإراقة
ماء الوجه بحيث لا ترغد الحياة معه.
فإذا كان العلم القطعي بالعواقب الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك
المصونية عن الإرتكاب ، في نفس العالم ، فكيف بالعلم القطعي بالعواقبِ
الأُخرويِة للمعاصي ورذائل الأفعال ، علماً لا يداخله ريبٌ ولا يعتريه شكٌ ،
علماً تسقط دونه الحُجُب فيرى صاحبُه رَأُىَ العين ِ، ويَلْمِسُ لَمّسَ الحِسِّ ، تَبِعاتِ
المعاصي ولوازِمَها وآثارَها في النشأة الأخرى . ذَاك العلم الّذي قال تعالى فيه:
(كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)(1)، فمِثْلُ هذا العِلم يخلُق من
صاحبه إنساناً مثالياً ، لا يخالفَ قول ربه قيد أنملة ، ولا يتعدى الحدود الّتي رسمها
له في حياته قدر شعرة ، ولن تنتفي المعصية من حياته فحسب ، بل إنّ مجرّد
التفكير فيها ، لن يجد سبيله إليه. وكأنّ الإمامَ علياً يصف هؤلاء في قوله : « هم
والجنّة كمن قد رآها ، فهم مُنعمون»(2).
إنّ الإنسان إذا وصل إلى المقام الّذي يرى فيه بالعيون البرزخية تبدُّلَ الكنوز
المكتنزة من الذهب والفضة ، إلى جمرات ملتهبة تُكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم
وظهورهم ، يمتنع ـ شهد الله ـ عن كنزها . يقول سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا
فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَ جُنوبُهُم وَ ظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(3).
إنّ قوله سبحانه: (هذا ما كُنْتُمْ)، يعرب عن أنَّ النار الّتي تكوى بها
جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ليست شيئاً غير الذهب والفضة ، وإنّما هي
تلك البيضاء والصفراء الّتي تتجلى بوجودها الأُخروي في تلك النشأة ؛ فإنّ لها
صورتان ، صورةٌ دنيوية معروفة ، وصورةٌ أُخروية هي النيران المحماة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة التكاثر: الآيتان 5 و 6.
2- نهج البلاغة: خطبة المتقين، الخطبة 193.
3- سورة التوبة: الآيتان 34 و 35.
________________________________________
( 161 )
فالإنسان العادي اللامس لهذه المعادن المكتنزة ، لا يحسّ فيها بالحرارة ، ولا
يرى فيها النار واللهيب ؛ لأنّه يفقد حين المسّ الحسّ المناسبَ لدرك نيران
النشأة الآخرة . وأمّا الإنسان الكامل ، المالك لهذا الحسّ إلى جانب بقية حواسه
العادي ، فإنّه يدرك الوجه الآخر لهذه الفلزات ، ويحسّ أيما إحساس بنارها
ولهيبها ، فلذلك هو يجتنبها كاجتنابه النيران الدنيوية ، ولن يقدم أبداً على جمعها
وتكديسها.
وهذا البيان الثاني الّذي ذكرناه ، يفيد أنّ للعلم مرحلة قوية ، راسخة ،
تُغَلِّب الإنسان على الشهوات وتَصُدُّه عن فعل المعاصي والاّثام . ونجد هذا البيان
في كلمات جمال الدين الفاضل مقداد بن عبد الله السُيوري الحلِّي في كتابه القيّم
« اللّوامع الإلهية » ، يقول : « العصمة : ملكة نفسانية تمنع المتصف بها من الفجور
مع قدرته عليه ، وتتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب
الطاعات ؛ لأنّ العفة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما
في المعصية من الشقاء وفي الطاعة من السعادة ، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها
في النفس ، فتصير ملكة»(1).
وليس المُدَّعى أنّ كل علم بعواقب الأفعال يصد الإنسان عن ارتكابها ، وأنّ
العلم بمجرده يقوم مقام التكليف الإلهي ، فإنّ ذلك باطل بلا ريب ؛ لأنّا نرى
الكثيرين من ذوي العلوم بمَضرَاتِ المُخَدِّرات والمُسكرات والأعمال الشنيعة لا
يتورعون عن ارتكابها، استسهالاً للذم في مقابل قضاء وَطَرهم منها . فلو كان
العلم بعواقب المعاصي من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك ، لتسرب
إليه التخلّف ، لكنّ سنخ العلم الّذي يصيِّر الإنسان معصوماً ، ليس من سنخ
هذه العلوم والإدراكات المتعارفة ، بل علمٌ خاصٌ فوقها ، ربما يعبر عنه بشهود
العواقب وانكشافها كشفاً تاماً لا يبقى معه ريب.
وإن شئت تقريب ذلك أكثر ، فلنفترض أنّ إنساناً يرى أمام ناظريه بركاناً
عظيماً يقذف بكتل هائلة من الحميم الملتهب ، ووقف على أنّ اقتراف عمل ما
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- اللوامع الإلهية : ص 170.
________________________________________
( 162 )
يوجب رميه في جوف هذا البركان الهائل ليبقى محبوساً في أحشائه مدة من الزمن
يناله عذاب الحريق الرهيب ولا يموت. فهل يقدم إنسان يمتلك شيئاً من العقل
على اقتراف هذا العمل؟.
يقول سبحانه: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِلْمُكَذِّبِينَ * اِنْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ * اِنْطَلِقُوا إِلَى ظِلّ ذِي ثَلاَثِ شُعَب * لاَ ظَلِيل وَ لاَ يُغْني مِنَ اللهَبِ *
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَر كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ)(1).
وعلى ضوء هذا البيان ، فشهود نتائج المعاصي وعواقبها ، شهوداً لا يُبقي في
النفس أيَّ ريب وشك ، يصدُّ الإنسان عن اختيار ارتكابها ، صدّاً قاطعاً ، ومع
ذلك لا يتنافى مع اختياره ، ولا يسلب حريته ، كما سيوافيك.
الوجه الثالث : الإستشعار بعظمة الربّ وكماله وجماله
وإنّ هنا بياناً ثالثاً للعصمة لا يخالف البيانين السالفين ، ولبّ هذا البيان يرجع
إلى أنّ استشعار عظمة الخالق ، والتفاني في معرفته ، وحُبِّه وعشقِه ، صادّ عن سلوك
ما يخالف رضاه ، وهذه الدرجة من الحبِّ والعشق ، أحد عوامل حصول تلك
المرتبة من التقوى المتقدمة ، وهي لا تحصل إلاّ للكاملين في المعرفة الإلهية.
إنّ الإنسان إذا عرف خالقه كمال المعرفة الميسورة ، واستغرق في شهود كماله
وجماله وجلاله ، وجد في نفسه انجذاباً نحوه ، وتعلّقاً خاصاً به ، على نحو لا
يستبدل برضاه شيئاً. ويدفعه شوق المحبة إلى أن لا يبتغي سواه ، ويصبح كل ما
يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه ، مقبوحاً في نظره أشدَّ القبح ، وتلك هي درجة
العصمة الكاملة ، ولا ينالها إلاّ الأَوْحَدِيُّ من الناس.
وإلى هذا يشير الإمام عليٍّ ـ عليه السَّلام ـ بقوله : « ما عبدتُك خوفاً من
نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، إنّما وجدتكَ أهلاً للعبادة فعبدتك»(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة المرسلات: الآيات 28 ـ 33.
2- حديث معروف مروي عن الإمام ـ عليه السَّلام ـ .
________________________________________
( 163 )
هذه التحليلات والبيانات الثلاثة الّتي ذكرناها في حقيقة العصمة ، نظريةٌ
واحدةٌ ، تُعْرِبُ بمجموعها عن أَنَّ العصمة قُوّةٌ في النفس تعصم الإنسان عن مخالفة
الرّب سبحانه وتعالى ، وهي معجونةٌ في ذات الإنسان الكامل وهُوِيَّتَهُ الخارجية.
نعم ، كل ما ذكرناه يرجع إلى العصمة بأحد معانيها ، وهو المصونية عن
المعصية والتمرّد على أوامر المولى ، وأمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي أوّلاً ،
والتَّحَفُّظ عليه ثانياً ، وإبلاغه إلى الناس ثالثاً ، والعصمة عن الخطأ في الأُمور
الفردية والإجتماعية ، فلا بدّ لها من عامل آخر ، نتعرض له في الأبحاث الآتية ،
بإذنه تعالى.
* * *
التعلیقات