سبب الاقتصار على الاُصول الخمسة
عقائد المعتزلة
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 303 ـ 307
________________________________________(303)
3- سبب الاقتصار على الاُصول الخمسةقد تعرّفت على أنّه لا وجه للاقتصار على الاُصول الخمسة، لما مرّ من أنّ أمر النبوّات والشرائع والمعاد أولى بأن يعدّ من الاُصول، غير أنّ القاضي حاول أن يبيّن وجه الاقتصار على الخمسة فقال: «إنّ المخالف في هذه الاُصول ربّما كفر و ربّما فسق و ربّما كان مخطئاً.
أمّا من خالف في التّوحيد ونفى عن الله تعالى ما يجب إثباته، وأثبت ما يجب نفيه عنه، فإنّه يكون كافراً.
وأمّا من خالف في العدل و أضاف إلى الله تعالى القبائح كلّها من الظّلم والكذب و إظهار المعجزات على الكذّابين و تعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم
________________________________________
(304)
والإخلال بالواجب، فإنّه يكفّر أيضاً.وأمّا من خالف في الوعد والوعيد وقال: إنّه تعالى ما وعد المطيعين بالثّواب، ولاتوعّد العاصين بالعقاب البتّة، فإنّه يكون كافراً، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.
وكذا لو قال: إنّه تعالى وعد وتوعّد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده، لأنّ الخلف في الوعيد كرم، فإنّه يكون كافراً لاضافة القبيح إلى الله تعالى.
فان قال: إنّ الله تعالى وعد و توعّد، ولا يجوز أن يخلف في وعده و وعيده، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط أو استثناء لم يبيّنه الله تعالى، فإنّه يكون مخطئاً.
وأمّا من خالف في المنزلة بين المنزلتين، فقال: إنّ حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة الأوثان والمجوس و غيرهم فإنّه يكون كافراً، لأنّا نعلم خلافه من دين النّبيّ والاُمّة ضرورة.
فان قال: حكمه حكم المؤمن في التعظيم والموالاة في الله تعالى، فإنّه يكون فاسقاً، لأنّه خرق إجماعاً مصرّحاً به على معنى أنّه أنكر ما يعلم ضرورة من دين الاُمّة.
فان قال: ليس حكمه حكم المؤمن ولا حكم الكافر ولكن اُسمّيه مؤمناً، فإنّه يكون مخطئاً.
وأمّا من خالف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً، وقال: إنّ الله تعالى لميكلّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً، فإنّه يكون كافراً، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبىّّ و دين الاُمّة.
فان قال: إنّ ذلك ممّا ورد به التّكليف، ولكنّه مشروط بوجود الإمام فإنّه يكون مخطئاً»(1).
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الوجوه الثلاثة من الكفر والفسق والخطاء، لاتختصّ
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة، ص 125 ـ 126، يريد من العبارة الأخيرة الشيعة الامامية القائلين بأنّ بعض المراتب من الأمر بالمعروف مشروط بوجود الامام المعصوم مع بسط اليد.
________________________________________
(305)
بهذه الخمسة، فهناك اُصول حالها حال الخمسة.فإنّ منكر نبوّة النّبيّ الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم أو عالميّة رسالته أو خاتميّتها كافر. ومنكر عصمته بلا شبفاسق، ومعها مخطىء.وهناك وجه آخر لتخصيص الخمسة من الاُصول بالذكر أشار إليه القاضي في كلامه وقال:«إنّ خلاف المخالفين لنا لا يعدو أحد هذه الاُصول. ألا ترى أنّ خلاف الملحدة والمعطّلة والدهرية والمشبّهة قد دخل في التوحيد. وخلاف المجبّرة بأسرهم دخل في باب العدل. وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد. وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة بين المنزلتين. وخلاف الإماميّة دخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(1).
وهذا الوجه وإن صحّح سبب الاقتصار على الخمسة، لكنّه يدلّنا على شيء آخر غريب في باب العقائد والاُصول، وهو أن السابر في كتب الحنابلة و الأشاعرة والمعتزلة يقف بوضوح على أنّ أكثر الاُصول الّتي اتخّذتها الطوائف الإسلاميّة اُصولاً عقائدية ليست إلاّ اُصولاً كلاميّة ناتجة من المعارك العلمية، وليست اُصولاً للدين أعني ما يجب على كلِّ مؤمن الإيمان به بالتفصيل والبرهنة أو بالاجمال وإن لم يقترن بالبرهان.
والاُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة مؤلّفة من اُمور تعدُّ من اُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن اُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الاُصول لغاية ردّ الفرق المخالفة الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلاميّة.
وعند ذاك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الاُصول، وجعلته في صدر آرائها ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإمامية و غيرهم من الفرق على نحو لولا تلكم الفرق لما سمعت من هذه الاُصول ذكراً، «وليس هذه أوّل قارورة كسرت في الإسلام»، فإنّ السلفيّين و أهل الحديث والحنابلة وبعدهم الأشاعرة ذهبوا هذا المذهب فقاموا بتنظيم قائمة بيّنوا فيها «قولهم
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة، ص 124.
________________________________________
(306)
الّذي يقولون به، وديانتهم الّتي يدينون بها»(1). و بيّنوا «مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر و أهل السنّة، فمن خالف شيئاً منها في هذه المذاهب أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة، زائل عن منهج أهل السنّة وسبيل الحقّ(2)».وفي الوقت نفسه إنّ أكثر ما جاء في قائمتي الشيخين اُصول كلاميّة نتجت من البحث والنزاع، و صفت لدى الشيخين بعد عراك، ومن تلك الاُصول القول بقدم القرآن و كونه غير مخلوق، مع تصريح أئمّة الحديث بعدم ورود نصّ في ذلك من الرسول ومنها كون خير الاُمّة الخلفاء الراشدين و يتفاضلون بحسب تقدّم تصدّيهم للخلافة، فالأوّل منهم هو الأفضل ثمّ الثاني ... ومعنى هذا أنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل السنّة لم تكن منتظمة ولا مرتّبة في عصر الرسول والصحابة ولا التابعين، وإنّما انتظمت بعد احتكاك الآراء و اختلاف الأفكار حتّى أنتج البحث والنقاش هذه الاُصول والكلّيات. وإنّ ذا من العجب.
إنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل الحديث والأشاعرة هي الّتي مزّقت الاُمّة الواحدة تمزيقاً، وصيّرتها فرقاً شتى، وما هذا إلاّ لأجل إصرارهم على أنّ هذه الاُصول اُصول الديانة، والزائل عنها خارج عن الجماعة. وكان في وسعهم التفريق بين الاُصول العقائدية الّتي لا منتدح لمسلم عن عرفانها والإيمان بها إجمالاً أو تفصيلاً، والاُصول الكلاميّة الّتي وصل إليها البحث الكلامي بفضل النقاش في ضوء الكتاب والسنّة والبرهان العقلي القائم على اُصول موضوعية مبرهنة.
وعند ذلك تتجلّى عندك حقيقة ناصعة وهي أنّ أكثر الفرق الّتي عدّها أصحاب الملل والنحل والمقالات فرقاً إسلاميّة، فإنّما هي فرق كلامية وليست فرقاً دينية إسلاميّة داخلة في الثلاث والسبعين فرقة بحيث تكون الواحدة منها ناجية والبواقي هلكى، لأنّ الإذعان بحكم مرتكب الكبيرة ليس ملاكاً للنجاة والهلاك حتّى تكون فرقة منهم من
________________________________________
1. هذه نفس عبارة الشيخ الأشعري في «الابانة» الباب الثاني، ص 17. 2. وهذه نفس عبارة إمام الحنابلة في كتابه «السنة»، ص 44.
________________________________________
(307)
أهل النجاة و غيرهم من أهل النار، ويكون الإيمان منوطاً بالإذعان به، وعدم الإيمان موجباً للخروج عنها، بل أقصى ما يقال في حقّ هذه الاُصول أنّها اُصول حقّة صحيحة دلّ على صحّتها الدليل، ولكن ليس كلّ حقّ ممّا يجب الإذعان به أو يؤاخذ على عدم الاعتقاد به.هذا هو الشيخ أبو جعفر الطحاوي المصري (م 321) كتب رسالة حول عقيدة أهل السنّة تشتمل على مائة و خمسة اُصول زعم أنّها عقيدة الجماعة والسنّة على مذهب فقهاء الاُمّة: أبي حنيفة، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبدالله محمّد ابن الحسن الشيباني(1)وقد كتب على هذه الرسالة شروح و تعاليق، واحتلّت مكانها ـبعد زمن ـ «العقائد النسفية». واللأسف أنّ كلّ أصل من الكتابين ردّ على فرقة وملّة. فصارت الاُصول الإسلاميّة عبارة عن عدّة اُصول يرد بكلِّ أصل ملّة و نحلة، كالملاحدة والمجبِّرة والقدرية والرافضة من الفرق الكلامية الّتي أنجبتها الأبحاث والتيّارات الفكرية.
ثم إنّي وقفت بعد ما حرّرته على ما نقلته المستشرقة «سوسنه ديفلد» محقّقة كتاب «طبقات المعتزلة» لابن المرتضى عن الاُستاذ «هـ.ريتر»: «من أراد أن يفهم إحدى العقائد السنّية فعليه أن يستحضر في خاطره أنّ كلّ جملة منها إنّما هي ردّ على إحدى الفرق المخالفة لها من الشيعة والخوارج والمرجئة والجهمية والمعتزلة، ولقد تشكّلت عقيدة أهل السنّة بردّ الفرق الضاّلة الّتي لم تسمّ «ضالّة» إلاّ بعد غلبة أصحاب السنّة والجماعة»(2).
فواجب على الباحث المنصف الّذي يبتغي الحقيقة، التفكيك بين اُصول الدين والاُصول الكلامية. وعند ذلك تحصل الوحدة بين الاُمّة أو تقرّب الخطى بين الفرق، ويقلّ التشاحّ والنزاع المؤدّي إلى الهلاك.
إذا عرفت هذه الاُمور فلنأخذ بتفصيل الاُصول الخمسة واحداً بعد آخر:
________________________________________
1. شرح العقائد الطحاوية: ص 25. 2. طبقات المعتزلة لابن المرتضى: المقدمة. ط بيروت.
التعلیقات