مسير الإمام علي عليه السلام إلىٰ البصرة ووقعة الجمل
اسلام الموسوي
منذ 6 أشهرمسير الإمام إلىٰ البصرة ووقعة الجمل
بينما كان الإمام عليٌّ يجهِّز جيشاً إلىٰ الشام بقيادته ؛ لكسح معاوية وبطانته الفاسدة ، أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة من مكَّة بما عزموا عليه ، فاستعدَّ لحرب الناكثين « وسار عليٌّ من المدينة في تعبئته التي تعبَّاها لأهل الشام آخر شهر ربيع الآخر سنة ستٍّ وثلاثين » (1).
رسم الإمام في سياسته الجديدة خطوط الحكم العريضة ، وكان وسامها : « لا فضل لعربي علىٰ أعجمي » ، أثارت هذه السياسة غضب المتمرِّدين علىٰ الحكم ، وكان منهم ما كان من الخروج عليه ، فلمَّا أدرك طلحة والزبير برفض الإمام أن يجعل لهما ميزة علىٰ غيرهما ، فلا ينالان إلَّا ما ينال المسكين والفقير بعطاء متساوٍ ..
بعد أن أدركا كلَّ هذا سكتا علىٰ مضضٍ ، وأخذا يعملان للثورة ضدَّه ، ضدَّ الحكم الجديد ، فانضمَّا إلىٰ الحزب الأُموي ..
لقد كان قرار التسوية « هو السبب الخفي والحقيقي لخروج من خرج علىٰ عليٍّ ، ولنكوث من نكث بيعته ، وإن توارىٰ ذلك تحت دعوىٰ مفتعلة اسمها دم عُثمان » (2) !
واستغلَّ هذا الجانب سخط عائشة علىٰ الإمام عليٍّ عليه السلام ومواقفها العدائية منه .. فلمَّا كانت بمكَّة ، وقد خرجت إليها قبل أن يُقتل عُثمان ، فلمَّا كانت في بعض طريقها راجعةً إلىٰ المدينة لقيها ابن أمِّ كلاب ، فقالت له : ما فعل عُثمان ؟
قال : قُتل !
قالت : بُعداً وسحقاً ، فمن بايع الناس ؟
قال : طلحة.
قالت : إيهاً ذو الإصبع.
ثمَّ لقيها آخر ، فقالت : ما فعل الناس ؟
قال : بايعوا عليَّاً.
قالت : والله ما كنت أُبالي أن تقع هذه علىٰ هذه ، ثُمَّ رجعت إلىٰ مكَّة (3).
فانصرفت إلىٰ مكَّة وهي تقول : قُتل والله عُثمان مظلوماً ، والله لأطلبنَّ بدمه !
قيل لها : ولِمَ ؟ والله إنَّ أوَّل من أمال حَرْفَه لأنتِ ، ولقد كنتِ تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر.
قالت : إنَّهم استتابوه ، ثُمَّ قتلوه ، وقد قلتُ وقالوا ، وقولي الأخير خيرٌ من قولي الأوَّل.
فقال لها ابن أمِّ كلاب :
فمنكِ البداءُ ومنكِ الغِيرْ |
ومنكِ الرياحُ ومنكِ المطرْ |
|
وأنتِ أمرتِ بقتل الإمام |
وقلتِ لنا : إنَّه قد كفرْ |
|
فَهَبْنا أطعناك في قتلِه |
وقاتِلُه عندنا مَنْ أمرْ |
|
ولم يسقطِ السقفُ من فوقنا |
ولم ينكسف شمسنا والقمرْ |
|
وقد بايع الناس ذا تُدرءٍ |
يزيلُ الشبا ويُقيم الصعرْ |
|
ويلبسُ للحربِ أثوابها |
وما مَنْ وفىٰ مثلُ من قد غدرْ (4) |
وقبل أن يخرج موكب عائشة ويدلو بدلوه ، كان الإمام عليه السلام يقول : « أمرتُ بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين » (5) ، فما مضت الأيَّام حتىٰ قاتلهم ، وهذه من جملة الآيات الدالَّة عليه ، وقوله عليه السلام لطلحة والزبير لمَّا استأذناه في الخروج إلىٰ العمرة ، قال : « والله والله ما تريدان العمرة وإنَّما تريدان البصرة » (6) !
وكان من نتائج هذا التمرُّد ـ كما سنأتي عليه ـ معركة البصرة ، أوَّل نكث لبيعة الإمام عليه السلام التي انتهت بفشل موكب عائشة وقتل طلحة والزبير وعشرات الألوف من المسلمين !
تهيَّأت عائشة للخروج إلىٰ البصرة ، وأتت أُمُّ سلمة فكلَّمتها في الخروج معهم ، فردَّت عليها أُمُّ سلمة قائلةً :
أفأُذكِّرك ؟
قالت : نعم.
قالت أُمُّ سلمة : أتذكرين إذ أقبل رسول الله ونحن معه ، فخلا بعليٍّ يناجيه ، فأطال فأردتِ أن تهجمي عليهما ، فنهيتك فعصيتيني ، فهجمتِ عليهما ، فما لبثت أن رجعتِ باكية ، فقلتُ : ما شأنك ؟ فقلت : إنِّي هجمت عليهما وهما يتناجيان ، فقلتُ لعليٍّ : ليس لي من رسول الله إلَّا يوم من تسعة أيَّام ، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي ! فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليَّ وهو غضبان محمرُّ الوجه ، فقال : « ارجعي وراءك ، والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلَّا وهو خارج من الإيمان » ؟
قالت عائشة : نعم أذكر (7).
لكن لم يردعها كلام ولا رادع ، فلم تنثنِ عن عزمها ، ولم ترجع إلىٰ عقلها ، فتجهَّزت ومن معها إلىٰ البصرة لتؤلِّب الناس علىٰ الإمام عليٍّ عليه السلام فكانت أحداث معركة الجمل.
تحرَّك موكب الناكثين بقيادة عائشة وطلحة والزبير نحو البصرة ، وقد حفَّ به الحاقدون علىٰ الإمام عليٍّ عليه السلام تحت شعار : « الثأر لعثمان » ، فلمَّا بلغوا « ذات عرق » لقيهم سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وأصحابه ، فقال لهم : أين تذهبون وتتركون ثأركم علىٰ أعجاز الإبل وراءكم ؟ ـ يعني عائشة وطلحة والزبير ـ اقتلوهم ثُمَّ ارجعوا إلىٰ منازلكم.
فقالوا : نسير لعلَّنا نقتل قتلة عُثمان جميعاً (8).
ومرَّ القوم ليلاً بماء يُقال له : الحوأب ، فنبحتهم كلابه ، فقالت عائشة : ما هذا الماء ؟
قال بعضهم : ماء الحوأب.
فقالت : إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ، هذا الماء الذي قال لي رسول الله : « لا تكوني التي تنبحكِ كلاب الحوأب ». ثمَّ صرخت بهم : ردُّوني ردُّوني !!
فأتاها القوم بأربعين رجلاً ، فأقسموا بالله أنَّه ليس بماء الحوأب ! وأتىٰ عبد الله بن الزبير ، فحلف لها بالله لقد خلَّفتهِ أوَّل الليل ، وأتاها ببيِّنة زور من الأعراب فشهدوا بذلك (9). فكان ذلك أوَّل شهادة زور أُقيمت في الإسلام.
وبلغوا البصرة ، وعامل الإمام عليها الصحابي عُثمان بن حُنيف الأنصاري ، فمنعهم من الدخول ، وقاتلهم ، ثُمَّ توادعوا ألَّا يحدثوا حدثاً حتىٰ يقدم عليٌّ عليه السلام ، ثُمَّ كانت ليلة ذات ريح وظلمة ، فأقبل أصحاب طلحة فقتلوا حرس عُثمان بن حنيف ، ودخلوا عليه ، فنتفوا لحيته وجفون عينيه ومثَّلوا به ، وقالوا : لولا العهد لقتلناك ، وأخذوا بيت المال (10).
وأمّا الإمام علي فلما بلغه نبأ مسيرهم إلىٰ البصرة ، حمد الله وأثنىٰ عليه ، ثُمَّ قال : « قد سارت عائشة وطلحة والزبير ، كلُّ واحدٍ منهما يدَّعي الخلافة دون صاحبه ، فلا يدَّعي طلحة الخلافة إلَّا أنَّه ابن عمِّ عائشة ، ولا يدَّعيها الزبير إلَّا أنَّه صهر أبيها. والله لئن ظفرا بما يريدان ليضربنَّ الزبير عنق طلحة ، وليضربنَّ طلحة عنق الزبير ، يُنازع هذا علىٰ الملك هذا.
وقد ـ والله ـ علمتُ أنَّها الراكبة الجمل ، لا تحلُّ عقدةً ولا تسيرُ عقبةً ، ولا تنزلُ منزلاً إلَّا إلىٰ معصيةٍ ، حتىٰ تورد نفسها ومن معها مورداً ، يُقتل ثلثهم ويهرب ثلثهم ويرجعُ ثلثهم.
والله إنَّ طلحة والزبير ليعلمان أنَّهما مُخطئان وما يحملان ، ولربَّما عالم قتله جهلُهُ وعلمه معه لا ينفعه. والله لينبحها كلاب الحوأب ، فهل يعتبر معتبرٌ أو يتفكَّر متفكِّرٌ » !
ثمَّ قال : « قد قامت الفئة الباغية فأين المحسنون » ؟ (11)
ثمَّ دعا علىٰ طلحة والزبير أمام مسلمي الكوفة ، فقال : « قد علمتم ـ معاشر المسلمين ـ أنَّ طلحة والزبير بايعاني طائعين راغبين ، ثُمَّ استأذناني في العمرة فأذنتُ لهما ، فسارا إلىٰ البصرة فقتلا المسلمين وفعلا المنكر.
اللَّهمَّ إنَّهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي وألَّبا الناس عليَّ ، فاحلُل ما عقدا ، ولا تُحكمْ ما أبرما ، وأرهما المساءة فيما عملا » (12).
معركة الجمل :
سُمِّيت بذلك لأنَّ « قائدة الجيش » فضَّلت ركوب الجمل علىٰ البغال والحمير ، وكانت الواقعة في ٤ كانون الأوَّل سنة ٦٤٦ م (13) ، يوم الخميس لعشر خلون من جمادىٰ الآخرة سنة ٣٦ هـ (14).
وكانت الوقعة خارج البصرة ، عند قصر عبيد الله بن زياد (15) وكان عسكر الإمام عشرين ألفاً ، وعسكر عائشة ثلاثين ألفاً (16).
ولمَّا التقىٰ الجمعان قال الإمام لأصحابه : « لا تبدأوا القوم بقتال ، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا علىٰ جريح ، وإذا هزمتموهم فلا تتَّبعوا مدبراً ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثِّلوا بقتيل ، وإذا وصلتم إلىٰ رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ، ولا تدخلوا داراً ، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً .. ولا تهيجوا امرأةً بأذىٰ وإن شتمن أعراضكم ، وسَبَبنَ أمراءكم وصلحاءكم » (17).
وقيل : إنَّ أوَّل قتيل كان يومئذٍ مسلم الجُهني ، أمره عليٌّ عليه السلام فحمل مصحفاً ، فطاف به علىٰ القوم يدعوهم إلىٰ كتاب الله ، فقُتل (18).
ثمَّ أخذ أصحاب الجمل يرمون عسكر الإمام بالنبال ، حتىٰ قُتل منهم جماعة ، فقال أصحاب الإمام : عقرتنا سهامهم ، وهذه القتلىٰ بين يديك ..
عند ذلك استرجع الإمام وقال : « اللَّهمَّ اشهد » ، ثُمَّ لبس درع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتقلَّد سيفه ورفع راية رسول الله السوداء المسمَّاة بالعقاب ؛ فدفعها إلىٰ ولده محمَّد بن الحنفية.
وتقابل الفريقان للقتال ، فخرج الزبير ، وخرج طلحة بين الصفَّين ، فخرج إليهما عليٌّ ، حتىٰ اختلفت أعناق دوابِّهم ، فقال عليٌّ عليه السلام : « لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً ، فاتَّقيا الله ، ولا تكونا ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) (19).
ألم أكن أخاكما في دينكما ، تُحرِّمان دمي ، وأُحرِّم دمكما ، فهل من حدثٍ أحلَّ لكما دمي » ؟!
قال طلحة : ألَّبت علىٰ عُثمان.
قال عليٌّ : « ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ) ، يا طلحة ، تطلب بدم عُثمان ؟! فلعن الله قتلة عُثمان ، يا طلحة ، أجئت بِعرس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تقاتل بها ، وخبَّأتَ عرسك في البيت ! أما بايعتني ؟! ».
قال : بايعتك والسيف علىٰ عنقي!
فقال عليٌّ عليه السلام للزبير : « يا زبير ، ما أخرجك ؟ قد كنَّا نعدُّك من بني عبد المطَّلب حتىٰ بلغ ابنك ابن السوء (20) ، ففرَّق بيننا » وذكَّره أشياء ، فقال : « أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بني غنم ، فنظر إليَّ ، فضحك ، وضحكت إليه ، فقلتَ له : لا يدع ابن أبي طالب زهوه ، فقال لك : ليس به زهوٌ ، لتقاتلنَّه وأنت ظالم له ؟ ».
قال : اللَّهمَّ نعم ، ولو ذكرت ما سرتُ مسيري هذا ، والله لا أُقاتلك أبداً.
فانصرف الزبير إلىٰ عائشة ، فقال لها : ما كنتُ في موطن منذ عقلت إلَّا وأنا أعرف فيه أمري ، غير موطني هذا.
قالت : فما تريد أن تصنع ؟
قال : أُريد أن أدعهم وأذهب.
قال له ابنه عبد الله : جمعت بين هذين الغارين ، حتىٰ إذا حدَّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب ؟! لكنَّك خشيت رايات ابن أبي طالب ، وعلمت أنَّها تحملها فتيةٌ أنجاد ، وأنَّ تحتها الموت الأحمر ، فجبنت !
فاحفظه ـ أي : أغضبه ـ ذلك ، وقال : إنِّي حلفتُ ألَّا أُقاتله.
قال : كفِّر عن يمينك ، وقاتله.
فأعتق غلامه ( مكحولاً ) ، وقيل : سرجيس.
فقال عبد الرحمن بن سلمان التميميُّ :
لم أرَ كاليوم أخا إخوانِ |
عْجَبَ من مُكَفِّرِ الأَيمانِ |
بالعتق في معصية الرحمٰن (21)
وقيل : إنَّه عاد ولم يقاتل الإمام عليه السلام (22).
واحتدمت المعركة بين الفريقين ، وتقاتلوا قتالاً لم يشهد تاريخ البصرة أشدَّ منه ، ثُمَّ إنَّ مروان بن الحكم رمىٰ طلحة بسهمٍ وهو يقاتل معه ضدَّ عليٍّ عليه السلام ! يرميه فيرديه ويقول : لا أطلب بثأري بعد اليوم (23).
واستمرَّ الحال في أشدِّ صراعٍ ، لم يرَ سوىٰ الغبرة وتناثر الرؤوس والأيدي ، فتتهاوىٰ أجساد المسلمين علىٰ الأرض.
ولمَّا رأىٰ الإمام هذا الموقف الرهيب من كلا الطرفين ، وعلم أنَّ المعركة لا تنتهي أبداً مادام الجمل واقفاً علىٰ قوائمه قال : « إرشقوا الجمل بالنبل ، واعقروه وإلَّا فنيت العرب ، ولا يزال السيف قائماً حتىٰ يهوي هذا البعير إلىٰ الأرض ». فقطعوا قوائمه ، ثُمَّ ضربوا عجز الجمل بالسيف ، فهوىٰ إلىٰ الأرض وعجَّ عجيجاً لم يُسمع بأشدِّ منه. فتفرَّق من كان حوله كالجراد المبثوث ، وبقيت قائدة المعركة لوحدها في ميدان الحرب ! وانتهت المعركة بهزيمة المتمرِّدين من أصحاب الجمل.
أمَّا الإمام عليه السلام فقد هاله موقف المسلمين منه ، حتىٰ ساقهم هذا العصيان والتمرُّد علىٰ الحقِّ إلىٰ مثل هذا المصير ، فوقف بين قتلاه وقتلىٰ المتمرِّدين ، تحيط به هالة القلق والتمزُّق فقال : « هذه قريشٌ ، جَدَعْتُ أنفي وشفيتُ نفسي ، لقد تقدَّمت إليكم أُحذِّركم عضَّ السيوف ، وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون ، ولكنَّه الحَين (24) ، وسوء المصرع ، فأعوذ بالله من سوء المصرع » (25).
ثمَّ أمر عليٌّ عليه السلام نفراً أن يحملوا هودج عائشة من بين القتلىٰ ، وأمر أخاها محمَّد بن أبي بكر أن يضرب عليها قُبَّةً ، وقال : « انظر هل وصل إليها شيء من جراحة » ؟ فأدخل رأسه في هودجها ، فقالت : من أنت ؟ قال : أبغض أهلك إليك. قالت : ابن الخثعمية ؟ قال : نعم. قالت : يا بأبي ، الحمد لله الذي عافاك (26) !
فلمَّا كان الليل أدخلها أخوها محمَّد بن أبي بكر البصرة ، في دار صفية بنت الحارث ، ثمَّ دخل الإمام عليه السلام البصرة فبايعه أهلها علىٰ راياتهم حتىٰ الجرحىٰ والمستأمنة ..
ثمَّ جهَّز عليٌّ عليه السلام عائشة بكلِّ ما ينبغي لها من مركبٍ وزادٍ ومتاعٍ وغير ذلك ، وبعث معها كلَّ من نجا ، ممَّن خرج معها ، إلَّا من أحبَّ المقام ، واختار لها أربعين امرأةً من نساء البصرة المعروفات ، وسيَّر معها أخاها محمَّد بن أبي بكر (27).
وقيل : إنَّه لمَّا أُخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل ، فتكلَّم فيه الحسن والحسين عليهما السلام فخلَّىٰ سبيله فقالا له : « يبايعك ، يا أمير المؤمنين ؟ » فقال : « ألم يبايعني بعد قتل عُثمان ، لا حاجة لي في بيعته ، أما إنَّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقىٰ الأُمَّة منه ومن ولده موتاً أحمر ». فكان كما قال عليه السلام (28).
ورُبَّ سائل يسأل : ما هي الآثار التي تركتها فتنة الجمل ؟
فيُجيب الأستاذ محمَّد جواد مغنية بقوله : « لولا حرب الجمل لما كانت حرب صفِّين والنهروان ، ولا مذبحة كربلاء ، ووقعة الحرّة ، ولا رُميت الكعبة المكرَّمة بالمنجنيق أكثر من مرَّة ، ولا كانت الحرب بين الزبيريِّين والأُمويِّين ، ولا بين الأُمويِّين والعباسيِّين ، ولما افترق المسلمون إلىٰ سُنَّة وشيعة ، ولما وجد بينهم جواسيس وعملاء يعملون علىٰ التفريق والشتات ، ولما صارت الخلافة الإسلامية ملكاً يتوارثها الصبيان ، ويتلاعب بها الخدم والنسوان.
لقد جمعت حرب الجمل جميع الرذائل والنقائص ، لأنَّها السبب لضعف المسلمين وإذلالهم ، واستعبادهم وغصب بلادهم ، فلقد كانت أوَّل فتنةٍ ألقت بأس المسلمين بينهم ، يقتل بعضهم بعضاً ، بعد أن كانوا قوَّةً علىٰ أعدائهم ، كما فسحت المجال لما تلاها من الفتن والحروب الداخلية التي أودت بكيان المسلمين ووحدتهم ، ومهَّدت لحكم الترك والديلم والصليبيِّين وغيرهم. وباختصار لولا فتنة الجمل لاجتمع أهل الأرض علىٰ الإسلام ، لأنَّ رحمته تشمل الناس أجمعين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) وقال النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : « إنَّما أنا رحمة مهداة » » (29).
الهوامش
1. الكامل في التاريخ ٣ : ١١٤.
2. الزيدية / د. أحمد صبحي : ٤٤ ، مؤسَّسة الزهراء للإعلام العربي ـ ١٩٨٤ م.
3. الامامة والسياسة ١ : ٥٢ ، شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٢١٥ ـ ٢١٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٠ ، كتاب الدلائل : ٩٧.
4. الكامل في التاريخ ٣ : ١٠٠ ، الفتوح ١ : ٤٣٤ ، تاريخ الطبري ٥ : ١٧٢ ، الإمامة والسياسة ١ : ٥٢.
5. إعلام الورىٰ ١ : ٣٣٦ ، المستدرك ٣ : ١٥٠ / ٤٦٧٤ و ٤٦٧٥ ، أسد الغابة ٤ : ١٢٤ ، البداية والنهاية ٧ : ٣٦٢.
6. إعلام الورىٰ ١ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.
7. أنظر : ابن أبي الحديد ٦ : ٢١٧ ـ ٢١٨.
8. الإمامة والسياسة ١ : ٦٣ ، وانظر الكامل في التاريخ ٢ : ١٠٢.
9. أنظر قصَّة ماء الحوأب في : تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨١ ، ابن أبي الحديد ٦ : ٢٢٥ ، تاريخ ابن الأثير ٢ : ١٠٣ ، مسند أحمد ٦ : ٥٢ ، ٩٧ ، المستدرك ٣ : ١١٩ ـ ١٢٠ ، كنز العمَّال ١١ ح / ٣١٦٦٧.
10. أنظر : تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨١ ، تاريخ ابن الأثير ٢ : ١٠٨ ، الإمامة والسياسة : ٦٩.
11. إرشاد المفيد ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.
12. إرشاد المفيد ١ : ٢٥٠ ، الطبعة الحجرية.
13. فضائل الإمام عليٍّ : ١٢٨ ، عن بروكلمن في ( تاريخ الشعوب الإسلامية ).
14. فضائل الإمام عليٍّ : ١٢٨ ، عن الواقدي والمسعودي.
15. سير أعلام النبلاء ( سيرة الخلفاء الراشدين ) : ٢٥٤.
16. الكامل في التاريخ ٣ : ٢٤١ ـ ٢٤٢.
17. الكامل في التاريخ ٣ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.
18. سير أعلام النبلاء ( سيرة الخلفاء الراشدين ) : ٢٥٩.
19. سورة النحل : ٩٢.
20. يريد ابنه عبد الله.
21. تاريخ الطبري ٥ : ٢٠٠ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٣٩ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧.
22. الإمامة والسياسة : ٧٣.
23. سير أعلام النبلاء ( ترجمة الإمام عليٍّ ) : ٢٥٥ ، وانظر ، الكامل في التاريخ ٣ : ١٢٨.
24. الحين : الهلاك.
25. الإرشاد ١ : ٢٥٤.
26. الكامل في التاريخ ٢ : ١٤٠.
27. الكامل في التاريخ ٢ : ١٤٤.
28. إعلام الورىٰ ١ : ٣٤٠.
29. فضائل الإمام عليٍّ : ١٣٨ ـ ١٣٩.
مقتبس من كتاب : الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ / الصفحة : 194 ـ 205
التعلیقات