هل طلب الإشفاء والشفاعة والإعانة ودعوة الصالحين شرك ؟
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 3 سنواتهل طلب الإشفاء والشفاعة والإعانة ودعوة الصالحين شرك ؟
1. هل طلب الإشفاء من غيره سبحانه شرك ؟
لا شك في أنّ هذا الكون عالم منظم ، فجميع الظواهر الكونية فيه تنبع من الأسباب والعلل التي ـ هي بدورها ـ مخلوقة لله تعالى ، ومعلولة له سبحانه.
وحيث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها أي كمال ذاتي ، بل وجدت بمشيئة الله ، وصارت ذات أثر بإرادته سبحانه لذلك صح أن ينسب الله آثارها وأفعالها إلى نفسه ، كما يصح أن تنسب إلى عللها.
هذا ما أوضحناه في ما سبق أتم إيضاح وبذلك يظهر أنّ الشفاء تارة ينسب إلى الله سبحانه وأُخرى إلى علله القريبة المؤثرة بإذنه ، وبذلك يرتفع التعارض الابتدائي بين الآيات ، فبينما يخص القرآن الإشفاء بالله سبحانه ويقول :
( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ). (1)
وبينما ينسب الشفاء إلى غيره كالقرآن والعسل ، والجواب انّه ليس هنا في الحقيقة إلّا فعل واحد وهو الإشفاء ينسب تارة إلى الله على وجه التسبيب ، وإلى غيره من الأسباب العادية كالعسل والأدوية وغيرها على وجه المباشرة.
فهو الذي وهب أنبياءه وأولياءه القدرة على الإشفاء والمعافاة والإبراء ، وهو الذي أذن لهم بأن يستخدموا هذه القدرة الموهوبة ضمن شروط خاصة.
فهذا القرآن إذ يصف الله تعالى بأنّه هو الشافي الحقيقي (كما في آية 80 الشعراء) يصف العسل بأنّه الشافي أيضاً عندما يقول :
( فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ). (2)
أو ينسب الشفاء إلى القرآن عندما يقول :
( وننَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ ) (3).
وطريق الجمع الذي ذكرناه وارد هنا وجار في هذا المقام كذلك ، وهو بأن نقول :
إنّ الإبراء والإشفاء ـ على نحو الاستقلال ـ من فعل الله لا غير.
وعلى نحو التبعية واللااستقلال من فعل هذه الأُمور والأسباب ، فهو الذي خلقها ، وأودع فيها ما أودع من الآثار ، فهي تعمل بإذنه وتؤثر بمشيئته.
ففي هذه الصورة إذا طلب أحد الشفاء من أولياء الله وهو ملتفت إلى هذا الأصل (4) كان عمله جائزاً ومشروعاً وموافقاً للتوحيد المطلوب تماماً.
لأنّ الهدف من طلب الشفاء من الأولياء هو تماماً مثل الهدف من طلب الشفاء من العسل والعقاقير الطبية ، غاية ما في الباب أنّ العسل والعقاقير تعطي آثارها بلا إرادة وإدراك منها ، بينما يفعل ما يفعله النبيُّ والولي عن إرادة واختيار ، فلا يكون الهدف من الاستشفاء من الولي إلّا مطالبته بأن يستخدم تلك القدرة الموهوبة له ويشفي المريض بإذن الله ، كما كان يفعل السيد المسيح عليه السلام ، إذ كان يبرئُ من استعصى علاجه من الأمراض بإذن الله والقدرة الموهوبة له من الله.
وواضح أنّ مثل هذا العمل لا يعد شركاً ، إذ لا ينطبق على ذلك معايير الشرك ، أو قل المعيار الواحد الحقيقي.
نعم يمكن المناقشة في أنّهم هل يقدرون على ذلك أو لا ؟ وهل أُعطيت لهم تلك المقدرة أو لا ؟ غير أنّ البحث مركز على كونه طلباً توحيدياً أو غير توحيدي.
ومما يوضح ذلك أنّ الفراعنة كانوا يطلبون من موسى كشف الرجز ، كما في قوله سبحانه قالوا :
( يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ). (5)
ولا نريد أن نستدل بطلب فرعون أو قومه ، بل الاستدلال إنّما هو بسكوت موسى أمام مثل هذا الطلب.
2. هل طلب الشفاعة من غيره سبحانه شرك ؟
لا مرية في أنّ الشفاعة حق خاص بالله سبحانه ، فالآيات القرآنية ـ مضافة إلى البراهين العقلية ـ تدل على ذلك ، مثل آية :
( قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ). (6)
إلّا أنّ في جانب ذلك دلت آيات كثيرة أُخرى على أنّ الله أذن لفريق من عباده أن يستخدموا هذا الحق ، ويشفعوا ـ في ظروف وضمن شروط خاصة ـ حتى أنّ بعض هذه الآيات صرحت بخصوصيات وأسماء طائفة من هؤلاء الشفعاء ، كقوله تعالى :
( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّـهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ). (7)
كما أنّ القرآن أثبت لنبيِّ الإسلام « المقام المحمود » ، إذ يقول :
( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ). (8)
وقد قال المفسرون : إنّ المقصود بالمقام المحمود هو : مقام الشفاعة ، بحكم الأحاديث المتضافرة التي وردت في هذا الشأن.
كل هذا مما اتفق عليه المسلمون ، إنّما الكلام في أنّ طلب الشفاعة ممن أُعطي له حق الشفاعة كأن يقول : « يا رسول الله اشفع لنا » هل هو شرك أو لا ؟
وليس البحث في المقام ـ كما ألمعنا إلى ذلك غير مرّة ـ في كون هذا الطلب مجدياً أو لا ، إنّما الكلام في أنّ هذا الطلب هل هو عبادة أو لا ؟
فنقول : قد ظهر الجواب مما أوضحناه في الأبحاث السابقة ، فلو اعتقدنا بأنّ من نطلب منهم الشفاعة ، لهم أن يشفعوا لمن أرادوا ومتى أرادوا وكيفما ارتأوا ، دون رجوع إلى الإذن الإلهي أو حاجة إلى ذلك ، فإنّ من المحتّم أنّ هذا الطلب والاستشفاع عبادة وإنّ الطالب يكون مشركاً حائداً عن طريق التوحيد ، لأنّه طلب الفعل الإلهي وما هو من شؤونه من غيره.
وأمّا لو استشفعنا بأحد هؤلاء الشفعاء ونحن نعتقد بأنّه محدود مخلوق لله لا يمكنه الشفاعة لأحد إلّا بإذنه ، فهذا الطلب لا يختلف عن طلب الأمر العادي ماهية ، ولا يكون خارجاً عن نطاق التوحيد.
وإنّ تصوّر أحد أنّ هذا العمل ، أعني : طلب الشفاعة من أولياء الله ، يشبه ـ في ظاهره ـ عمل المشركين ، واستشفاعهم بأصنامهم ، فهو تصوّر باطل بعيد عن الحقيقة.
لأنّ التشابه الظاهري لا يكون أبداً معياراً للحكم ، بل المعيار الحقيقي للحكم إنّما هو : قصد الطالب ، وكيفية اعتقاده في حق الشافع ، ومن الواضح جداً أنّ المعيار هو النيّات والضمائر ، لا الأشكال والظواهر ، هذا مع أنّ الفرق بين العملين واضح من وجوه :
أوّلاً : أنّه لامرية في أنّ اعتقاد الموحّد في حق أولياء الله يختلف ـ تماماً ـ عن اعتقاد المشرك في حق الأصنام.
فإنّ الأصنام والأوثان كانت ـ في اعتقاد المشركين ـ آلهة صغاراً تملك شيئاً من شؤون المقام الإلوهي من الشفاعة والمغفرة ، بخلاف أهل التوحيد فإنّهم يعتقدون بأنّ من يستشفعون بهم : عباد مكرمون لا يعصون الله وهم بأمره يعملون ، وأنّهم لا يملكون من الشفاعة شيئاً ، ولا يشفعون إلّا إذا أذن الله لهم أن يشفعوا في حق من ارتضاه.
وبالجملة فإنّ تحقق الشفاعة منهم يحتاج إلى وجود أمرين :
1. أن يكون الشفيع مأذوناً في الشفاعة.
2. أن يكون المشفوع له مرضياً عند الله.
فلو قال مسلم لصالح من الصالحين : (اشفع لي عند الله) ، فإنّه لا يفعل ذلك إلّا مع التوجّه إلى كونه مشروطاً بالشرطين المذكورين.
ثانياً : أنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام مضافاً إلى استشفاعهم بها ، بحيث كانوا يجعلون استجابة دعوتهم واستشفاعهم عوضاً عما كانوا يقومون به من عبادة لها ، بخلاف أهل التوحيد فإنّهم لا يعبدون غير الله طرفة عين أبداً.
وأمّا استشفاعهم بأُولئك الشفعاء فليس إلّا بمعنى الاستفادة من المقام المحمود الذي أعطاه الله سبحانه لنبيّه في المورد الذي يأذن فيه الله ، فقياس استشفاع المؤمنين بما يفعله المشركون ليس إلّا مغالطة. وقد مر غير مرّة أنّه لو كان الملاك التشابه الظاهري للزم أن نعتبر الطواف بالكعبة المشرفة ، واستلام الحجر ، والسعي بين الصفا والمروة ، موجباً للشرك وعبادة للحجر.
الوهابيون وطلب الشفاعة
إنّ الوهابيّين يعتبرون مطلق طلب الشفاعة شركاً وعبادة ، ويظنون أنّ القرآن لم يصف الوثنيين بالشرك إلّا لطلبهم الشفاعة من أصنامهم كما يقول سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّـهِ ). (9)
وعلى هذا فالشفاعة وإن كانت حقاً ثابتاً للشفعاء الحقيقيين ، إلّا أنّه لا يجوز طلبه منهم ، لأنّه عبادة لهم ، قال محمد بن عبد الوهاب :
إن قال قائل : الصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم وأرجو من الله شفاعتهم ، فالجواب أنّ هذا قول الكفار سواء بسواء ، واقرأ عليهم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ ) (10) وقوله : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّـهِ ) (11). (12)
وإن قال : إنّ النبي أُعطي الشفاعة ، وأنا أطلبه ممّن أعطاه الله ، فالجواب أنّ الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن طلبها منه ، فقال تعالى : ( فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّـهِ أَحَدًا ) (13) وأيضاً فإنّ الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة يشفعون والأفراد يشفعون والأولياء يشفعون ، أتقول إنّ الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم ؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه. (14)
استدل ابن عبد الوهاب على حرمة طلب الشفاعة بآيات ثلاث :
الأُولى : قوله سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّـهِ ) إذ قال بأنّ عبادة المشركين للأوثان كانت متحققة بطلب الشفاعة منهم لا بأمر آخر.
الثانية : قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ ) (15) قائلاً بأنّ عبادة المشركين للأصنام كانت متحققة بطلب شفاعتهم منها.
الثالثة : قوله سبحانه : ( فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّـهِ أَحَدًا ). (16)
ولابد من البحث حول الآيات التي استدل بها القائل على أنّ طلب الشفاعة ممّن له حق الشفاعة عبادة له فنقول :
أمّا الاستدلال بالآية الأُولى فالإجابة عنه بوجهين :
1. ليس في قوله سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ ) إلى آخر الآية ، أيّة دلالة على مقصودهم ، وإذا ما رأينا القرآن يصف هؤلاء بالشرك فليس ذلك لأجل استشفاعهم بالأوثان ، بل لأجل أنّهم كانوا يعبدونها لتشفع لهم بالمآل.
وحيث إنّ هذه الأصنام لم تكن قادرة على تلبية حاجات الوثنيين ، لذلك كان عملهم عملاً سفهياً ، لا أنّه كان شركاً.
فالإمعان في معنى الآية وملاحظة أنّ هؤلاء المشركين كانوا يقومون بعملين : (العبادة ، وطلب الشفاعة كما يدل عليه قوله : ( وَيَعْبُدُونَ ) و ( وَيَقُولُونَ )) يكشف عن أنّ علّة اتّصافهم بالشرك واستحقاقهم لهذا الوصف كانت عبادتهم لتلك الأصنام وليس استشفاعهم بها ، كما لا يخفى.
ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها في الحقيقة لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى ، أعني : قوله « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا » بعد قوله « ويعبدون » إذ كان حينئذ تكراراً.
إنّ عطف الجملة الثانية على الأُولى يدل على المغايرة بينهما ، إذن لا دلالة لهذه الآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة ، فضلاً عن كون : الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم ، نعم قد ثبت أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة لهم بأدلّة أُخر.
2. أنّ هناك فرقاً بين الاستشفاعين ، فالوثني يعتبر الصنم ربّاً مالكاً للشفاعة يمكنه أن يشفع لمن يريد وكيفما يريد ، والاستشفاع بهذه العقيدة شرك ، ولأجل ذلك يقول سبحانه نقداً لهذه العقيدة : ( قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) (17) والحال أنّ المسلمين لا يعتقدون بأنّ أولياءهم يملكون هذا المقام ، فهم يتلون آناء الليل وأطراف النهار قوله سبحانه :
( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإِذْنِهِ ) (18).
ومع هذا التفاوت البيّن ، والفارق الواضح ، كيف يصح قياس هذا بذلك ؟
والدليل على أنّ المشركين كانوا معتقدين بكون أصنامهم مالكة للشفاعة أمران :
الأوّل : تأكيد القرآن في آياته بأنّ شفاعة الشافع مشروطة بإذنه سبحانه و ارتضائه.
قال سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) (19).
وقال : ( مَا مِنْ شَفِيعٍ إلّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) (20).
وقال : ( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ ). (21)
وقال : ( لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّـهُ لِمَن يَشَاءُ ). (22)
وقال : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ). (23)
الثاني : تأكيد القرآن على أنّ الأصنام لا تملك الشفاعة ، بل هي لمن يملكها :
قال سبحانه : ( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ ). (24)
وقال سبحانه : ( لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـٰنِ عَهْدًا ). (25)
فالشفاعة محض حق لمالكها ، وليس هو إلّا الله ، كما تصرّح بذلك الآيات السابقة ، وأمّا المشركون فكانوا يعتقدون أنّ أصنامهم تملك هذا الحق ، ولذلك كانوا يعبدونها أوّلاً ، ويطلبون منها الشفاعة عند الله ثانياً.
نعم : انّ الظاهر من قوله سبحانه : ( لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـٰنِ عَهْدًا ). (26)
وقوله سبحانه : ( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ ) (27) هو : انّ المتخذين للعهد والشاهدين بالحق يملكون الشفاعة كما هو مقتضى الاستثناء.
لكن المراد من المالكية في هاتين الآيتين هو : المأذونية بقرينة سائر الآيات ، لا المالكية بمعنى التفويض ، وإلّا لزم الاختلاف والتعارض بين مفاد الآيات ، وما ورد في السير والتواريخ من أنّ المشركين كانوا يقولون عند الإحرام والطواف : ( الا شريك هو لك تملكه وما ملك ) (28) يحتمل الأمرين.
وبذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية الثانية : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا ... ) إذ حمل ابن عبد الوهاب قوله سبحانه : ( مَا نَعْبُدُهُمْ ) على طلب الشفاعة ، مع أنّ الآية المتقدّمة صريحة في مغايرة العبادة لطلب الشفاعة.
نعم إنّما يكون عبادة إذا اتخذ المستشفع المدعو إلهاً ، أو من صغار الآلهة ـ كما تقدم ـ.
وأمّا ما اعترف به ابن عبد الوهاب ( ضمن كلامه المنقول سلفاً ) من أنّ الله أعطى الشفاعة لنبيّه ولكنَّه تعالى نهى الناس عن طلبها منه ، فغريب ، إذ لا آية ولا سنّة تدل على النهي عن طلبها ، مضافاً إلى غرابة هذا النهي من الناحية العقلية ، إذ مثله أن يُعطي للسقّاء ماء وينهى الناس عن طلب السقي منه ، أو يُعطي الكوثر لنبيّه وينهى الأُمّة عن طلبه.
وأمّا قوله : ( فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّـهِ أَحَدًا ) وهي ثالثة الآيات التي استدل بها ابن عبد الوهاب فسيوافيك مفادها عن قريب حيث نبيّن ـ هناك ـ انّ المراد من الدعوة في الآية المذكورة هو : العبادة ، فيكون معنى : فلا تدعوا هو : فلا تعبدوا مع الله أحداً ، فالحرام المنهي عنه عبادة غير الله ، لا مطلق دعوة غير الله ، وليس طلب الشفاعة إلّا طلب الدعاء من الغير لا عبادة الغير ، وبين الأمرين بون شاسع.
ومن ذلك يظهر ضعف دليل رابع لمحمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات ، ما حاصله :
إنّ الطلب من الشفيع ينافي الإخلاص في التوحيد الواجب على العباد في قوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (29).
إنّ دعوة الشفيع ـ بعد ثبوت الإذن له والرضا من الله ـ ليست عبادة للشفيع حتى تنافي إخلاص العبادة لله سبحانه ، بل هو طلب الدعاء منه ، وإنّما يشترط الإخلاص في العبادة ، لا في طلب الدعاء من الغير ، كما لا تنافي دعوة الله ولا تنفك عنها ، إذ الشفاعة من الشفع ، وطلب الشفاعة من الشفيع بمعنى أنّ المستشفع يدعو الشفيع لأن ينضم إليه ، ويجتمعا ويدعوا الله سبحانه ـ معاً ـ فدعوة المستشفع للشافع ليس إلّا دعوة الثاني إلى أن يدعو الله لا أكثر ، فأيُّ ضير في هذا يا ترى ؟!
ومن العجب تفسير طلب الشفاعة من النبي وغيره بأنّه دعاء للنبي مع الله كما في أسئلة الشيخ ابن بليهد : قاضي القضاة عن علماء المدينة (30) حيث قال :
وما يفعل الجهّال عند هذه الضرائح من التمسّح بها ودعائها مع الله.
ولا يخفى ما في كلامه من ضعف :
أمّا أوّلاً : فإنّ هؤلاء المتوسلين عند الضرائح لا يشركون أحداً في الدعاء ( الذي هو مخ العبادة ) ولا يدعون إلّا الله الواحد القهّار ، وإنّما يطلبون من أوليائهم أن يضموا دعاءهم إلى دعاء المتوسلين ، فيشتركوا معهم في دعاء الله لنجاح حاجتهم ، ولولا ذلك لما كان لطلب الشفاعة معنى ، فإنّ الشفاعة مأخوذة من الشفع ـ كما قلنا ـ الذي هو ضد الوتر ، فهو يطلب من وليّه أن ينضم إليه في الدعاء ويجتمع معه في العمل ، فأين ذلك من تشريك غير الله معه في الدعاء ؟
وثانياً : أنّ المسلمين لا يدعون الضرائح ، بل يطلبون من صاحب الضريح أن يشترك معهم في الدعاء ، لأنّه ذو مكانة مكينة عند الله ، وإن كان متوفّياً ، ولكنّه حي يرزق عند ربّه ـ بنص الكتاب العزيز ـ وانّه لا يرد دعاؤه لقوله سبحانه في حق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مثلاً :
( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّـهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ). (31)
( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) (32).
ثم إنّه يظهر من ابن تيمية في بعض رسائله (33) ، وتلميذ مدرسته محمد بن عبد الوهاب في رسالة « أربع قواعد » (34) إنّهما استدلا على تحريم طلب الشفاعة من غير الله بقوله سبحانه : ( قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) (35).
وكأنّ الاستدلال مبني على أنّ معنى الآية هو : ولله طلب الشفاعة فقط.
ولكنه تفسير للآية بغير ظاهرها ، إذ ليس معنى الآية أنّ الله وحده هو الذي يشفع وغيره لا يشفع ، لأنّه تعالى لا يشفع عند أحد ، ثم قد ثبت أنّ الأنبياء والصالحين والملائكة يشفعون لديه.
كما أنّه ليس معناها أنّه لا يجوز طلب الشفاعة إلّا منه سبحانه ، بل معناها أنّ الله مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلّا بإذنه.
قال سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) ، وقال : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ).
ويتضح ما قلناه إذا لاحظنا صدر الآية وهو :
( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ). (36)
فالمقطع الأخير من الآية بصدد الرد على الذين اتَّخذوا الأصنام والأحجار شفعاء عند الله ، وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله مع أنّها ما كانت تملك شيئاً ، فكيف كانت تملك الشفاعة وهي لا عقل لها حتى تشفع ؟
يقول الزمخشري ـ في كشافه ـ :
( مِنْ دُونِ اللهِ ) أي من دون إذنه ( قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) أي مالكها فلا يشفع أحد إلّا بشرطين :
أن يكون المشفوع له مرتضى ، وأن يكون الشفيع مأذوناً له ، وهاهنا الشرطان مفقودان جميعاً. (37)
وما ذهب إليه ابن عبد الوهاب ومن قبله ابن تيمية وأتباعهما من أنّ الآية هذه تدل على أنّ طلب الشفاعة لا يكون إلّا من الله وحده ، دون طلبها من المخلوق وإن كان له حق الشفاعة ، لم يذكره أحد من المفسرين.
* * *
ثم إنّه كيف يمكن التفريق بين طلب الشفاعة من الحي وطلبها من الميت ، فيجوز الأوّل بنص قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّـهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (38) ، وبدليل طلب أولاد يعقوب من أبيهم الشفاعة وقولهم : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ) (39) ووعد يعقوب عليه السلام إيّاهم بالاستغفار لهم ، بينما لا يكون الثاني ( أي الاستشفاع بالميت ) جائزاً ؟
أفيمكن أن تكون الحياة والممات مؤثرتين في ماهية عمل ؟! وقد سبق أنّ الحياة أو الممات ليست معياراً للتوحيد والشرك ، وبالنتيجة لجواز الشفاعة أو عدم جوازها.
وإذا لاحظت كتب الوهابيين لرأيت أنّ الذي أوقعهم في الخطأ والالتباس هو مشابهة عمل الموحدين في طلب الشفاعة والاستغاثة بالأموات والتوسّل بهم ، لعمل المشركين عند أصنامهم ، ومعنى ذلك أنّهم اعتمدوا على الأشكال والظواهر وغفلوا عن النيّات والضمائر.
وأنت أيها القارئ لو وقفت على ما في ثنايا هذه الفصول ، لرأيت أنّ الفرق بين العملين من وجوه كثيرة ، نذكر منها :
1. انّ المشركين كانوا يقولون بالوهية الأصنام بالمعنى الذي مرّ ذكره ، بخلاف الموحّدين.
2. انّ الأوثان والأصنام كانت أعجز من أن تلبي دعوتهم ، وهذا بخلاف الأرواح الطاهرة المقدسة ، فإنّها أحياء بنص الكتاب العزيز ، وقادرة على ما يطلب منها في الدعاء.
3. انّ الأوثان والأصنام لم يأذن الله لها ، بخلاف النبي الأكرم فإنّه مأذون بنص القرآن الكريم :
قال سبحانه : ( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ). (40)
والمقام المحمود ـ باتّفاق المفسرين ـ هو مقام الشفاعة.
3. هل الاستعانة بغير الله شرك ؟
إنّ الاستعانة بغير الله يمكن أن تتحقق بصورتين :
1. أن نستعين بعامل ـ سواء كان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى الله بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من الله وإذنه.
وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك عن الاستعانة بالله ذاته ، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل ذلك الأثر وأذن به وإن شاء سلبها وجرّدها منه.
فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس والماء وحرث الأرض ، فقد استعان بالله ـ في الحقيقة ـ لأنّه تعالى هو الذي منح هذه العوامل ، القدرة على إنماء ما أودع في بطن الأرض من بذر ومن ثم إنباته والوصول به إلى حد الكمال.
2. وإذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي أو غير طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقل في وجوده ، أو في فعله عن الله فلا شك أنّ ذاك الاعتقاد يصير شركاً والاستعانة معه عبادة.
فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها ، أو أنّها مستقلة في وجودها ، ومادتها كما في فعلها وقدرتها فالاعتقاد شرك والطلب عبادة.
مع مؤلّف المنار في تفسير حصر الاستعانة
إنّ مؤلف المنار تصوّر أنّ حد التوحيد هو : أن نستعين بقدرتنا ونتعاون فيما بيننا ـ في الدرجة الأُولى ـ ثم نفوّض بقية الأمر إلى الله القادر على كل شيء ، ونطلب منه ـ لا من سواه ـ ويقول في ذلك :
يجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك ونبذل لإتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة وأن نتعاون ، ويساعد بعضنا بعضاً ، ونفوض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء ونلجأ إليه وحده ، ونطلب المعونة للعمل والموصل لثمرته منه سبحانه دون سواه (41).
إذ صحيح أنّنا يجب أن نستفيد من قدرتنا ، أو من العوامل الطبيعية المادية ولكن يجب بالضرورة أن لا نعتقد لها بأية أصالة وغنى واستقلال وإلّا خرجنا عن حدود التوحيد.
فإذا اعتقد أحد بأنّ هناك ـ مضافاً إلى العوامل والقوى الطبيعية ـ سلسلة من العلل غير الطبيعية التي تكون جميعها من عباد الله الأبرار الذين يمكنهم تقديم العون (42) لمن استعان بهم تحت شروط خاصة وبإذن الله وإجازته دون أن يكون لهم أي استقلال لا في وجودهم ولا في أثرهم ، فإنّ هذا الفرد لو استعان بهذه القوى غير الطبيعية ـ مع الاعتقاد المذكور ـ لا تكون استعانته عملاً صحيحاً فحسب ، بل تكون ـ بنحو من الأنحاء ـ استعانة بالله ذاته كما لا يكون بين هذين النوعين من الاستعانة ( الاستعانة بالعوامل الطبيعية والاستعانة بعباد الله الأبرار ) أي فرق مطلقاً.
فإذا كانت الاستعانة بالعباد الصالحين ـ على النحو المذكور ـ شركاً لزم أن تكون الاستعانة في صورتها الأُولى هي أيضاً معدودة في دائرة الشرك ، والتفريق بين الاستعانة بالعوامل الطبيعية والاستعانة بغيرها إذا كانتا على وزان واحد وعلى نحو الاستمداد من قدرة الله وبإذنه ومشيئته بكونها موافقة للتوحيد في أُولى الصورتين ، ومخالفة له في ثانية الصورتين ، لا وجه له.
من هذا البيان اتضح هدف صنفين من الآيات وردا في مسألة الاستعانة :
الصنف الأوّل : يحصر الاستعانة بالله فقط ويعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.
والصنف الثاني : يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعينة غير الله ويعتبرها ناصرة ومعينة إلى جانب الله.
أقول : من البيان السابق اتضح وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات وتبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً ، إلّا أنّ فريقاً نجدهم يتمسّكون بالصّنف الأوّل من الآيات فيخطّئون أي نوع من الاستعانة بغير الله ، ثم يضطرون إلى إخراج الاستعانة بالقدرة الإنسانية والأسباب المادية من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة بالله بنحو التخصيص بمعنى أنّهم يقولون :
إنّ الاستعانة لا تجوز إلّا بالله ، إلّا في الموارد التي إذن الله بها ، وأجاز أن يستعان فيها بغيره ، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير الله ـ جائزة ومشروعة على وجه التخصيص ، وهذا مما لا يرتضيه الموحّد.
في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً ، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد وهو : عدم الاستعانة بغير الله ، وانّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة بالله بل تكون بحيث تعد استعانة بالله لا استعانة بغيره.
وبتعبير آخر : أنّ الآيات تريد أن تقول : بأنّ المعين والناصر الوحيد والذي يستمد منه كل معين وناصر ، قدرته وتأثيره ، ليس إلّا الله سبحانه ، ولكنه ـ مع ذلك ـ أقام هذا الكون على سلسلة من الأسباب والعلل التي تعمل بقدرته وأمره ، استمداد الفرع من الأصل ، ولذلك تكون الاستعانة بها كالاستعانة بالله ، ذلك لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.
وإليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين :
( وَمَا النَّصْرُ إلّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ). (43)
( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ). (44)
( وَمَا النَّصْرُ إلّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (45)
هذه الآيات نماذج من الصنف الأوّل ، وإليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير الله من العوامل والأسباب :
( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَة ). (46)
( وَتَعَاوَنُوا عَلَىٰ البِرِّ وَالتّقْوَىٰ ). (47)
( مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ). (48)
( وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ). (49)
ومفتاح حل التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه : إنّ في الكون مؤثراً تاماً ، ومستقلاً واحداً غير معتمد على غيره لا في وجوده ولا في فعله وهو الله سبحانه.
وأمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه ، وهي تؤدي ما تؤدي بإذنه ومشيئته وقدرته ، ولو لم يعط تلك العوامل ما أعطاها من القدرة ، ولم تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أية قدرة على شيء.
فالمعين الحقيقي في كل المراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو الله فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً ، لهذه الجهة حصرت مثل هذه الاستعانة بالله وحده ، ولكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير الله باعتباره غير مستقل ( أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية ) ، ومعلوم أنّ استعانة ـ كهذه ـ لا تنافي حصر الاستعانة بالله سبحانه لسببين :
أوّلاً : لأنّ الاستعانة المخصوصة بالله هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى ، فالاستعانة المخصوصة بالله هي : ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات ، وبدون الاعتماد على غيرها ، في حين أنّ الاستعانة بغير الله سبحانه إنّما هي على نحو آخر ، أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهية ، لا بالذات ، وبنحو الاستقلال ، فإذا كانت الاستعانة ـ على النحو الأوّل ـ خاصة بالله تعالى ، فإنّ ذلك لا يدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.
ثانياً : أنّ استعانة ـ كهذه ـ غير منفكة عن الاستعانة بالله ، بل هي عين الاستعانة به تعالى ، وليس في نظر الموحّد ( الذي يرى أنّ الكون كله من فعل الله ومستند إليه ) مناص من هذا.
وممّا سبق يتبيَّن لك أيها القارئ الكريم ما في كلام ابن تيمية من الإشكال ، إذ يقول :
أمّا من أقرّ بما ثبت بالكتاب والسنّة والإجماع من شفاعته صلّى الله عليه وآله وسلّم والتوسّل به ونحو ذلك ، ولكن قال : لا يدعى إلّا الله وإنّ الأُمور التي لا يقدر عليها إلّا الله فلا تطلب إلّا منه ، مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك ، فهذا مصيب في ذلك ، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضاً ، كما قال تعالى :
( وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ ). (50)
وقال : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ). (51)
وكما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّـهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ). (52)
وكما قال تعالى : ( وَمَا جَعَلَهُ اللَّـهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ ). (53)
وقال : ( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا ) (54). (55)
فقد غفل ابن تيمية عن أنّ بعض هذه الأُمور يمكن طلبها من غير الله مع الاعتقاد بعدم استقلال هذا الغير في تحقيقها ، وهذا لا ينافي طلبها من الله مع الاعتقاد باستقلاله وغناه عمن سواه في تحقيقها.
نعم لا تقع هذه الاستعانة مفيدة إلّا إذا ثبتت قدرة غير الله سبحانه على إنجاز الطلب ، ولكنّه خارج عن محط بحثنا ، فإنّ البحث مركز على كون هذا العمل شركاً أو لا ، وأما كون المستعان قادراً أو لا فالبحث عنه خارج عن هدفنا.
وربّما يتوهم أنّها لا تنفع أيضاً إلّا إذا ثبتت مأذونية الغير من قبله سبحانه في الإعانة ، كما يتوقف على ذلك جواز أصل طلب العون ، وإن كان غير شرك.
ولكنه مدفوع ، بأنّ إعطاء القدرة دليل على المأذونية في أعمالها في الجملة ، إذ لا معنى لأن يعطيه الله القدرة ويمنعه عن الأعمال مطلقاً ، أو يعطيه القدرة ويمنع الغير عن طلب أعمالها.
ويكفي في الجواز ، كون الأصل في فعل العباد ، الجواز والإباحة ، دون الحظر والمنع إلّا أن ينطبق على العمل أحد العناوين المحرمة في الشرع.
وأخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلّف المنار حيث إنّه لم يتصور للاستعانة بالأرواح إلّا صورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك ، فقال :
ومن هنا تعلمون : انّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم وتيسير أُمورهم وشفاء أمراضهم ونماء حرثهم وزرعهم ، وهلاك أعدائهم ، وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون ، وعن ذكر الله معرضون (56).
ولا يخفى عدم صحته إذ الاستعانة بغير الله ( كالاستعانة بالعوامل الطبيعية ) على نوعين :
أحدهما عين التوحيد والآخر موجب للشرك ، أحدهما مذكر بالله والآخر مبعد عن الله.
إنّ حد التوحيد والشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية إنّما هو الاستقلال وعدم الاستقلال ، هو الغنى والفقر ، هو الأصالة وعدم الأصالة.
إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلة المستندة إلى الله ، التي لا تعمل ولا تؤثر إلّا بإذنه تعالى ليس فقط غير موجبة للغفلة عن الله ، بل هو خير موجه ، ومذكر بالله ، إذ معناها : انقطاع كل الأسباب وانتهاء كل العلل إليه.
ومع هذا كيف يقول صاحب المنار : « أُولئك عن ذكر الله معرضون » ولو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان الله والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.
على أنّ الأعجب من ذلك هو شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نص كلمات عبده دون زيادة ونقصان ، وختم المسألة بذلك ، وأخذ بظاهر الحصر في ( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) غافلاً عن حقيقة الآية وعن الآيات الأُخرى المتعرضة لمسألة الاستعانة. (57)
نقد نظر ثالث
وهناك رأي آخر يتوسط بين الرأيين وهو أنّه تجوز الاستعانة بالأسباب الطبيعية في الحوائج الحيوية ، ولا تجوز الاستعانة بالأسباب غير العادية إلّا إذا كان بصورة التوسل والاستشفاع إلى الله سبحانه.
وهذا القول وإن كانت عليه مسحة من الحق ولمسة من الصدق إلّا أنّه ليس عينه.
فإنّ المنع عن الاستعانة بالأسباب غير العادية لماذا ؟ إن كان لأجل كونه مستلزماً للشرك ، فالمفروض عدمه ، إذ المستعين إنّما يستعين ، باعتقاد أنّ المستعان إنّما يعين بالقدرة المعطاة له من الله سبحانه ، ويعملها بإذنه ومشيئته ، وطلب العون مع هذا الاعتقاد لا يستلزم الشرك ، ومع فرضه فأي فرق بين الممنوع ( طلب العون ) والمجاز وهو التوسل والاستشفاع ؟
وإن كان المنع لأجل عدم وجود القدرة فيهم على الإعانة ، فهو مناقشة ، وهو في الصغرى خارج عن موضوع بحثنا ، فإنّ البحث إنّما هو على فرض قدرتهم.
وإن كان المنع ، لأجل كون الأصل في فعل المكلّف ، هو المنع حتى يثبت الجواز ، فهو محجوج بأصالة الإباحة ما لم يمنع عنه دليل قاطع ، وعدم ورود تلك الاستعانة في الأدعية وغيرها على فرض صحته لا يدل على المنع.
ولو كان المنع لأجل أنّ قوله سبحانه : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) شامل لهذه الاستعانة التي لا تنفك عن الاستعانة به سبحانه كما أوضحناه ، فلا يمكن تخصيصه بالتوسل والاستشفاع ، لأنّ لسانه آب عن التخصيص وغير قابل له.
4. هل دعوة الصالحين عبادة لهم ؟
تبيّن من البحوث السابقة أنّ طلب الحاجة من غير الله مع الاعتقاد بأنّه لا يملك شيئاً من شؤون المقام الالوهي ، ولم يفوض إليه شيء ، بل لو قام بشيء لا يقوم به إلّا بإذن الله سبحانه ، لا يكون شركاً.
وبقي في هذا المجال مطلب آخر وهو : انّ القرآن الكريم نهى ـ في موارد متعددة ـ عن دعوة غير الله سبحانه غير أنّ الوهابية استنتجت من هذه الآيات مساوقة الدعوة للعبادة.
وإليك فيما يأتي الآيات المتضمّنة ، بل المصرحة بهذا المطلب :
( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّـهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّـهِ أَحَدًا ). (58)
( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ ). (59)
( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ). (60)
( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ). (61)
( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ). (62)
( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ). (63)
( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ). (64)
( وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ). (65)
( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ). (66)
( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (67).
فقد جعل دعاء الغير ـ في هذه الآيات ـ مساوياً مع دعاء الله ويستنتج من ذلك أنّ دعاء الغير عبادة له ، ومن هذه الآيات يستنتج الوهابيون كون دعوة الأولياء والصالحين ـ بعد وفاتهم ـ عبادة للمدعو.
وملخص كلامهم : أنّ من قال متوسّلاً : يا محمد ، فنداؤه ودعوته بنفسها عبادة للمدعو.
يقول الصنعاني في هذا الصدد :
وقد سمّى الله الدعاء : عبادة بقوله ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) ومن هتف باسم نبي أو صالح بشيء ، أو قال : اشفع لي إلى الله في حاجتي ، أو استشفع بك إلى الله في حاجتي أو نحو ذلك ، أو قال : اقض ديني أو اشف مريضي أو نحو ذلك ، فقد دعا ذلك النبي والصالح والدعاء عبادة بل مخّها ، فيكون قد عبد غير الله ، وصار مشركاً ، إذ لا يتم التوحيد إلّا بتوحيده تعالى في الإلهية باعتقاد أنّ لا خالق ولا رازق غيره ، وفي العبادة بعدم عبادة غيره ولو ببعض العبادات وعباد الأصنام إنّما أشركوا لعدم توحيد الله في العبادة (68).
* * *
ولكن لا مرية في أنّ لفظة الدعاء تعني في لغة العرب : النداء لطلب الحاجة ، فلا يتحقّق مفهوم الدعوة إلّا بطلب الحاجة ، ولو استعملت في مورد في مطلق النداء ولم يكن معه طلب حاجة ، فإنّما هو لأجل أنّ المنادي يطلب توجّه المنادى إلى نفسه ، بينما تعني لفظة العبادة معنى آخر ( وهو الخضوع النابع من الاعتقاد بالإلوهية والربوبية على ما مر تفصيله ) (69) ، ولا يمكن اعتبار اللفظتين مترادفتين ، ومشتركتين في المفاد والمعنى بأن يكون معنى الدعاء هو العبادة لأسباب عديدة هي :
أوّلاً : انّ القرآن استعمل لفظة الدعوة والدعاء في موارد لا يمكن أن يكون المراد فيها العبادة مطلقاً مثل :
( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ). (70)
فهل يمكن أن نقول إنّ مراد نوح عليه السلام هو أنّه عبد قومه ليلاً ونهاراً ؟!
وأيضاً مثل قوله تعالى حاكياً عن الشيطان قوله :
( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ). (71)
فهل يحتمل أن يكون مقصود الشيطان هو أنّه عبد أتباعه ؟ في حين أنّ العبادة ـ لو صحت وافترضت ـ فإنّما تكون من جانب أتباعه له لا من جانبه تجاه أتباعه.
ومثل هاتين الآيتين ما يأتي من الآيات :
( وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ). (72)
( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَىٰ الهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ ). (73)
( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَىٰ الهُدَىٰ لاَ يَسْمَعُوا ). (74)
( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ). (75)
( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ). (76)
ففي هذه الآيات وأمثالها استعملت لفظة الدعاء والدعوة في غير معنى العبادة ، ولهذا لا يمكن أن نعتبرهما مترادفتين ، ولذلك فلو دعا أحد ولياً أو نبياً أو رجلاً صالحاً ، فإنّ عمله ذلك لا يكون عبادة له ، لأنّ الدعاء أعم من العبادة وغيرها (77).
ثانياً : أنّ المقصود من الدعاء في مجموع الآيات ( المذكورة في مطلع البحث هذا ) ليس هو مطلق النداء ، بل نداء خاص يمكن أن يكون ـ مآلاً ـ مرادفاً للفظ العبادة.
لأنّ مجموع هذه الآيات وردت حول الوثنيين الذين كانوا يتصوّرون بأنّ أصنامهم آلهة صغار قد فوّض إليها بعض شؤون المقام الالوهي ، ويعتقدون في شأنها بنوع من الاستقلال في التصرف والفعل.
ومعلوم أنّ الخضوع والتذلّل أو أي نوع من القول والعمل أمام مخلوق باعتقاد أنّه إله كبير أو إله صغير لكونه رباً أو مالكاً لبعض الشؤون الإلهية ، يكون عبادة.
لا شك أنّ خضوع الوثنيين ودعاءهم واستغاثتهم أمام أوثانهم كانت بوصف أنّ هذه الأصنام آلهة أو أرباب أو مالكة لحق الشفاعة ، وباعتقاد أنّها آلهة مستقلة في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة ، ومن البديهي أنّ أية دعوة لهذه الموجودات وغيرها مع هذه الشروط ، عبادة لا محالة.
وتدل طائفة من الآيات : على أنّ دعوة الوثنيين كانت مصحوبة بالاعتقاد بالوهية الأصنام أو مالكيتها لمقام الشفاعة والمغفرة ، وإليك بعضها :
( فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مِن شَيْءٍ ) (78).
ففي هذه الآية يتضح جلياً بأنّهم كانوا يعبدونها متصوّرين ومعتقدين بأنّها تغنيهم من شيء كما يمكن للإله الحقيقي أن يفعل ذلك.
( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ). (79)
( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ). (80)
( فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ). (81)
فالآيات المذكورة ( في مطلع هذا الفصل ) لا ترتبط بموضوع بحثنا مطلقاً ، إذ الموضوع هو الدعوة دون الاعتقاد بإلوهية ، ولا مالكية لشيء ولا استغناء ، واستقلاله في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة ، بل لأجل أنّ المدعو عبد من عباد الله المكرمين ، وأنّه ذو مقام معنوي استحق به منزلة النبوة ، أو الإمامة ، ولأنّه وعد المتوسّلون به بقبول أدعيتهم ، وإنجاح طلباتهم فيما إذا قصدوا الله عن طريقه ، كما ورد في حق النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم :
( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّـهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ). (82)
ثالثاً : يمكن أن يقال أنّ المراد من الدعاء في هذه الآيات هو القسم الخاص منه ، أعني ما كان ملازماً للعبادة لا بمعنى أنّ الدعاء مستعمل في مفهوم العبادة ابتداء ، بل بمعنى أنّها مستعملة في معناها الحقيقي ، غير أنّها لما كانت في موارد الآيات مقرونة باعتقاد الدعاة بالوهيتهم يكون المنهي عنه ذلك القسم من الدعوة لا مطلقاً ، وتكون عقيدة الدعاة في حق المدعوين قرينة متصلة على أنّ المقصود ذلك القسم المعين لا جميع أقسامها ومن المعلوم أنّ الدعاء مع هذه العقيدة يكون مصداقاً للعبادة.
والدليل على أنّ المراد من الدعوة في هذه الآيات هو القسم الملازم للعبادة أنّه ربّما وردت في إحدى الآيتين ذاتي مضمون واحد لفظة الدعوة ووردت في الآية الأُخرى لفظة الدعاء ، مثل قوله :
( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ). (83)
بينما يقول في الآية الأُخرى وهي :
( قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا ). (84)
ويقول أيضاً في الآية 12 من سورة فاطر :
( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ).
ففي هذه الآية وما قبلها استعملت لفظة « تدعون وندعوا » في حين استعملت في الآية الأُولى لفظة « تعبدون ».
ونظير ما سبق قوله سبحانه :
( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا ). (85)
هذا وقد ترد كلا اللفظتين في آية واحدة وتستعملان في معنى واحد :
( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ ). (86)
وقوله سبحانه : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ). (87)
والآية وما تقدمها ظاهرتان في أنّ المراد من الدعوة هو العبادة لا مطلق النداء وطلب الحاجة ، وذاك ليس بمعنى استعمال الدعاء ابتداء في معنى العبادة حتى يكون الاستعمال مجازياً بل إنّما استعملت في معناها الحقيقي ، أعني : الدعاء ، ولكن لمّا كان الدعاء مقروناً باعتقاد الداعي بالوهية المدعو صار المراد منه ـ بالمآل ـ العبادة ، وقد تقدمت تلك النكتة آنفاً.
ويؤيد ما ذكرناه ما ورد في دعاء سيد الساجدين مشيراً إلى مفاد الآية المتقدمة حيث يقول :
« وسميت دعاءك عبادة ، وتركه استكباراً ، وتوعّدت على تركه دخول جهنم داخرين » (88).
وإنا لنطلب من القارئ الكريم أن يراجع بنفسه مادة الدعوة في المعجم المفهرس ، فسيرى ورود مضمون واحد تارة بلفظ العبادة ، وأُخرى بلفظ الدعاء والدعوة.
وهذا هو أوضح دليل على أنّ المقصود من الدعوة في الآيات المذكورة ( في مطلع هذا الفصل ) هو العبادة وليس مطلق النداء.
هذا والقارئ الكريم إذا درس مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الدعوة وأُريد منه القسم الملازم للعبادة لرأى أنّ الآيات أمّا وردت حول خالق الكون الذي يعترف جميع الموحدين بإلوهيته وربوبيته ومالكيته ، أو وردت في مورد الأوثان التي كان عبدتها يتصورون إلوهيتها وأنّها مالكة لمقام الشفاعة ، وفي هذه الحالة فإنّ الاستدلال بهذه الآيات في مورد بحثنا الذي هو الدعاء مجرداً عن تلك العقيدة لمن أعجب العجب.
سؤال وجواب
إلى هنا تبيَّن أنّ دعوة العباد الصالحين بأي شكل كان ، سواء أكان لأجل التوسل والاستشفاع أم لأجل طلب الحاجة وإنجازها ليست عبادة ، ولا تشملها الآيات الناهية عن الدعوة بتاتاً غير أنّه ينطرح هنا سؤال ، وهو : انّه إذا كان غيره سبحانه لا يملك من قطمير ولا يملك كشف الضر والتحويل ، فما فائدة هذه الدعوة ، إذ قال سبحانه :
( فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ) (89).
( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) ؟. (90)
والجواب : انّ البحث في هذا الفصل مركز على تمييز العبادة عن غيرها ، وأمّا كون الدعوة مفيدة أو لا ، فخارج عن موضوع بحثنا ، أضف إلى ذلك أنّ الآيات التي استدل بها تهدف إلى موضوع آخر لا يرتبط بالمقام.
ملخّص البحث
إنّ هذه الآيات راجعة إلى أصنام العرب الخشبية والمعدنية والحجرية ويتضح ذلك من سياق الآيات ، هذا أوّلاً ، وثانياً أنّ الهدف من نفي المالكية عن غير الله ليس هو مطلقها ، بل المراد المالكية المناسبة لمقامه سبحانه ، أعني : المالكية المستقلة ، ونفي هذه المالكية عن غيره سبحانه لا يدل على انتفاء ما يستند إليه سبحانه ، عنهم ، ويؤيد ذلك أنّه سبحانه يقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (91) والمراد من الفقر هنا هو الفقر الذاتي ولا ينافي القدرة المكتسبة والفعالة بإذنه سبحانه.
والدليل على أنّ العرب كانوا يعتقدون في أصنامهم القدرة المستقلة قوله سبحانه : ( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ). (92)
وقوله سبحانه : ( ويَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمٰوَاتِ والأرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ ). (93)
وعلى ذلك فلو قال سبحانه لا يملكون عن الله كشف الضر ولا تحويلاً فالمقصود هو نفي تلك المالكية لا الأعم منها ومن المكتسبة.
البحث مركز على معرفة التوحيد في العبادة
قد ثبت بحمد الله أنّ طلب الشفاء والشفاعة والعون من عباد الله الصالحين ليست عبادة لهم ، وأمّا أنّهم قادرون على الإجابة أم لا ، مأذونون في الإعانة من قبله سبحانه أو لا ، أو أنّ هذا الطلب جائز في الشرع أو لا وإن لم يكن شركاً ؟ أو غير ذلك من الأسئلة ، فكلّها خارجة عن محط البحث الذي هو التعرف على معايير التوحيد والشرك ، وتطلب أجوبة تلك الأسئلة من مظانها.
نعم كفانا في الإجابة عليها ما كتبه أعلام السنّة والشيعة في هذا المقام ، فراجع « الدرر السنية » للسيد أحمد زيني دحلان المكي ، و « كشف الارتياب » للعلامة الأمين العاملي ، و « التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية » للعلّامة المعاصر محمد الفقي من علماء الأزهر الشريف ، فقد تكفّلت هذه الكتب الإجابة عليها ، ولم تبق لأي مشكك مجالاً للتشكيك ، شكر الله مساعيهم.
الهوامش
1. الشعراء : 80.
2. النحل : 69.
3. الإسراء : 82.
4. نعني كونهم يؤثرون بإذن الله وقدرته ومشيئته.
5. الأعراف : 134.
6. الزمر : 44.
7. النجم : 26.
8. الإسراء : 79.
9. يونس : 18.
10. الزمر : 3.
11. يونس : 18.
12. كشف الشبهات : 7 ـ 9 طبعة القاهرة.
13. كشف الشبهات : 7 ـ 9 طبعة القاهرة.
14. الجن : 18.
15. الزمر : 3.
16. الجن : 18.
17. الزمر : 44.
18. البقرة : 255.
19. البقرة : 255.
20. يونس : 3.
21. طه : 109.
22. النجم : 26.
23. الأنبياء : 28.
24. الزخرف : 86.
25. مريم : 87.
26. مريم : 87.
27. الزخرف : 86.
28. الملل والنحل : 2 / 255.
29. كشف الشبهات : 8.
30. نقلت جريدة أُم القرى في عددها 69 المؤرخ 17 شوال عام 1344 هـ كل نص هذه الأسئلة والأجوبة.
31. النساء : 64.
32. التوبة : 103.
33. رسالة « زيارة القبور والاستغاثة بالمقبور » : 156.
34. ص 25 ، راجع كشف الارتياب : 240 ـ 241 وكشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب : 8.
35. الزمر : 44.
36. الزمر : 43 و 44.
37. تفسير الكشاف : 3 / 34.
38. النساء : 64.
39. يوسف : 97.
40. الإسراء : 79.
41. تفسير المنار : 1 / 59.
42. البحث مركز في أنّ طلب العون والحال هذه شرك أو لا ، وأمّا أنّه هل أُعطيت لهم تلك المقدرة على العون أو لا ؟ فخارج عن موضوع بحثنا وإنّما إثباته على عاتق الأبحاث القرآنية الأُخرى وقد نبهنا على ذلك غير مرة.
43. آل عمران : 126.
44. الحمد : 4.
45. الأنفال : 10.
46. البقرة : 45.
47. المائدة : 2.
48. الكهف : 95.
49. الأنفال : 72.
50. آل عمران : 135.
51. القصص : 56.
52. فاطر : 3.
53. آل عمران : 126.
54. التوبة : 40.
55. مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية الرسالة الثانية عشرة : 482.
56. تفسير المنار : 1 / 59.
57. راجع تفسير شلتوت : 36 ـ 39.
58. الجن : 18.
59. الرعد : 14.
60. الأعراف : 197.
61. الأعراف : 194.
62. فاطر : 13.
63. الإسراء : 56.
64. الإسراء : 57.
65. يونس : 106.
66. فاطر : 14.
67. الأحقاف : 5.
68. تنزيه الاعتقاد للصنعاني كما في كشف الارتياب : 272 ـ 274.
69. راجع ص 455 ـ 468 من كتابنا هذا
70. نوح 5.
71. إبراهيم : 22.
72. غافر : 41.
73. الأعراف : 193.
74. الأعراف : 198.
75. المؤمنون : 73.
76. آل عمران : 61.
77. النسبة بين الدعاء والعبادة عموم وخصوص من وجه : ففي هذه الموارد يصدق الدعاء ولا تصدق العبادة ، وأمّا في العبادة الفعلية المجردة عن الذكر كالركوع والسجود فتصدق العبادة ، لأنّها تقترن مع الاعتقاد بالوهية المسجود له ولا يصدق الدعاء لخلوّه عن الذكر اللفظي.
ويصدق كلا المفهومين : « الدعاء والعبادة » في أذكار الصلاة ، لأنّها دعوة بالقول ناشئة عن الاعتقاد بالوهية المدعو.
78. هود : 101.
79. الزخرف : 86.
80. فاطر : 13.
81. الإسراء : 56.
82. النساء : 64.
83. المائدة : 76.
84. الأنعام : 71.
85. العنكبوت : 17.
86. الأنعام : 56.
87. غافر : 60.
88. الصحيفة السجادية ، الدعاء : 49.
89. الإسراء : 56.
90. فاطر : 13.
91. فاطر : 15.
92. المائدة : 76.
93. النحل : 73.
مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 550 ـ 586
التعلیقات