المعاد والعلم الإلهي
الشيخ جعفر السبحاني
منذ سنتينالمعاد والعلم الإلهي
كان المنكرون يعتمدون في إنكارهم علىٰ شبهة ثالثة ، تنحل إلىٰ أمرين :
الأمر الأوّل : انّ انتشار ذرات بدن الإنسان البالي يوجب اختلاط تلك الذرات ، فكيف يمكن تمييز بعضها عن بعض ؟
وبعبارة أُخرىٰ : إذا تعلّق المعاد بإحياء الناس كافة مع اختلاط ذرات بعضهم ببعض ، فكيف يمكن التمييز بين هذه الذرات المختلطة ؟ ولعلّ الآية التالية ناظرة إلى هذا الجانب من الشبهة ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ). (1)
والجواب ما تذكره الآية التالية : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ).
فالآية الثانية تفسر بجوابها واقع الشبهة.
الأمر الثاني : كيف يمكن الإحاطة بالأعمال التي صدرت عن الإنسان خيرها وشرها ، وتمييز عمل كلّ أحد عن عمل الآخر حتى يجزى على وفق أعماله ؟ وكانت الشبهة نابعة عن عجزهم عن درك علمه وسعته والله سبحانه يجيب عن الشبهة ، ويقول : ( مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ). (2)
فليس خلق الناس جميعاً ولا بعثهم إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها ، فإذا كان الثاني أمراً ممكناً غير عسير فخلق الجميع وبعثهم مثله.
وقد شغلت هذه الشبهة العقول منذ عصور غابرة ، وذلك عندما دعا موسى فرعون إلى عبادة الربّ فخاطبه فرعون بقوله : ( فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ ) فأجاب موسى ، بقوله : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ).
وعندها دار بينه وبين فرعون ذلك الحوار الذي نوّه فيه إلى تلك الشبهة والتي يذكرها الذكر الحكيم بقوله : ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ). (3)
يقول فرعون : فما بال الأُمم الماضية ، فانّها لم تقر بالله ومن تدعو إليه ، بل عبدت الأصنام والأوثان مثل قوم نوح وعاد وثمود ؟ فيجيب موسىٰ بأنّ أعمالهم محفوظة عند الله ومكتوبة في لوح خاص يجازيهم بها ، فما يذهب عليه شيء ولا يخطأ ولا ينسى.
الهوامش
1. ق : 3.
2. لقمان : 28.
1. طه : 51 ـ 52.
مقتبس من كتاب : مفاهيم القرآن / المجلّد : 8 / الصفحة : 54 ـ 55
التعلیقات