ما معنى "عارفا بحقها"؟ وكيف نُدرك حقّ المعرفة بالسيّدة فاطمة المعصومة؟
الشيخ ياسر الشريعتي
منذ 13 ساعة
في قلب مدينة قم المقدسة، يرقد ضريح السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، تلك السيدة الجليلة التي نالت مقامًا رفيعًا في عالم المعرفة والشفاعة. لقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى عظمة شأنها بقوله: "من زارها وجبت له الجنة"، مؤكدًا على مكانتها الخاصة عند الله تعالى. فما هو سر هذا المقام؟ وما معنى "عارفًا بحقها"؟ دعونا نستكشف معًا أبعاد هذه الشخصية النورانية من خلال زيارتها الشريفة.
حق المعرفة – مفتاح الشفاعة
روى الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام حديثاً فريداً يشير فيه إلى مواضع الخصوصية والقداسة في جغرافيا الإسلام، فقال: « إن لله حرما وهو مكة، وإن للرسول حرما وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرما وهو الكوفة، وإن لنا حرما وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنة». (1)
وهذا الحديث الشريف يكشف عن تقدير إلهي عظيم للسيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم عليه السلام، حيث تحدّث الإمام الصادق عن شأنها قبل أن تُخلق بسنوات، وأضفى على مدينة قم صفة الحُرمة، تمامًا كما أضفيت على مكّة والمدينة والكوفة. وهذا التفضيل يشير إلى مكانة هذه السيدة الجليلة في المخطط الإلهي، وإلى أنها ستكون سببًا لنيل رضوان الله ودخول الجنة لمن زارها بقلب صادق.
وفي ضوء هذا النص، تتجلّى أهمية زيارة فاطمة المعصومة عليها السلام، فقد وعد الإمام الصادق عليه السلام زائرها بالجنة، ما يدلّ على أنّ لزيارتها بُعدًا روحيًا عميقًا، وثوابًا جزيلًا. ومع ذلك، فإنّ هذا الوعد لا يُفهم على إطلاقه، بل يُقيَّد بما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام حين قال: "عارفًا بحقّها".
عن علي ابن موسى الرضا عليه السلام قال:« يا سعد عندكم لنا قبر؟ قلت: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى؟ قال: نعم، من زارها عارفا بحقها فله الجنة».(2)
وهنا يبرز سؤال مهم: ما هو المقصود من "عارفا بحقها" في هذا السياق؟ فهي ليست من جملة المعصومين الأربعة عشر لنقول إن طاعتها واجبة كالأنبياء والأئمة، فهل يُراد من العبارة إدراك مكانتها واعتبارها من أولياء الله وأبواب رحمته؟
إنّ فهم هذه العبارة يتطلّب تأملًا أوسع في مفهوم الولاية والقرب من أهل البيت، حيث تكون المعرفة بحقّها إشارة إلى الاعتراف بفضلها وشفاعتها، والتسليم بمقامها عند الله، والتوجّه إليها كواحدة من وجوه التقوى والكرامة في التاريخ الإسلامي.
فما هو هذا الحق؟ إنه الاعتراف بمقامها الرفيع، وإدراك مكانتها كأحد أبواب الله التي يتوجه إليها العباد في التوسل إليه. فمن يزورها معتقدًا بشفاعتها ومكانتها، فإنه لا ريب يدخل جنة عدن التي وعدها الله تعالى عباده المكرمين.
فهم حق المعرفة من خلال الزيارة الشريفة
تبدأ زيارة السيدة المعصومة (عليها السلام) بالسلام على صفوة من الأنبياء، ثم يتغير الخطاب إلى المخاطب المباشر مع النبي محمد (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، مما يدل على ارتباطها الوثيق بهم، وأنها من هذا البيت الطاهر.
حيث نقول:
السلام عليكَ يا رسول الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا صفيَّ الله، السلام عليك يا محمد بن عبدالله خاتم النبيين.... إلى بقية الأئمة الأطهار سلام الله عليهم الذين نسلّم عليهم واحداً بعد الآخر بلسان المخاطب
وهذا النمط من السلام ليس عبثًا، بل هو انعكاس لواقعٍ روحي ونسَبيّ، يدلّ على أن صاحبة هذا القبر الشريف تنتمي إلى نفس الدوحة النبوية، وأنها من أهل هذا البيت الذي طهّره الله وفضّله، فكانوا أمناء على وحيه، وحملةً لعلمه، وأوصياء على خلقه.
بمعنى آخر، فإن زيارة فاطمة بنت الإمام الكاظم عليها السلام، ليست زيارةً لشخصية عادية، بل هي تواصل روحي مع الامتداد النبوي، حيث نجد أنفسنا نسلّم على النبي وأمير المؤمنين والأئمة الأطهار بلغةٍ مباشرة، وكأننا نُخاطبهم من خلال هذه الروح الطاهرة التي تربطنا بهم.
ومن هنا يتضح أنّ المزارة المقدسة ليست معزولة عن سلسلة الطهارة والعصمة، بل هي جزء حيّ من هذه المنظومة الإلهية التي جعلها الله سببًا للهداية والرحمة في الأرض.
ومن الطبيعي أن تؤثر معرفتنا بمقام المزور في كيفية زيارتنا، فالمعرفة تفتح لنا باب الوعي الروحي وتجعل من الزيارة لقاءً حيًا نابضًا بالمحبة والتقدير، لا مجرّد تلاوة ألفاظ جامدة. ولهذا نجد في الروايات تأكيدًا على أهمية أن نعرف من نزور ولماذا نزوره. وفي زيارة السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام، نجد إشارات واضحة تُعرّفنا بهويتها المباركة ونسبها الشريف، لتُظهر للزائر أنها من السلالة الطاهرة، ومن بيت العصمة والنور، الأمر الذي يرفع من شأن الزيارة ويمنحها بُعدًا معرفيًا وروحيًا ساميًا وهي:
... السلام عليكِ يا بنت رسول الله، السلام عليك يا بنت فاطمة وخديجة، السلام عليكِ يا بنت أمير المۆمنين، السلام عليكِ يا بنت الحسن والحسين، السلام عليكِ يا بنت ولي الله، السلام عليكِ يا أخت ولي الله، السلام عليكِ يا عمة ولي الله، السلام عليكِ يا بنت موسى بن جعفر ورحمة الله وبركاته.
مقام الشفاعة عند الله
من أبرز ما يدل على عظمة هذه السيدة الكريمة ومكانتها عند الله تعالى ما نقرأه في زيارتها، حيث يُطلب منها الشفاعة بقول: "يا فاطمة اشفعي لي في الجنة، فإن لك عند الله شأناً من الشأن". وهذه العبارة تُظهر عمق الإيمان بمنزلتها الرفيعة، إذ إن المؤمن الذي يأتي إلى زيارتها معتقدًا بأنها باب من أبواب الشفاعة ومقامها سامٍ عند المولى جلّ وعلا، يجعلها وسيلته للنجاة والفوز بالنعيم الأبدي. ومثل هذا التوجه لا يَصدر إلا عن يقين راسخ بأن الجنة تُنال ببركة أولياء الله، وأن لهذه السيدة شأناً لا يُدركه إلا من عرف حقها.
لعل المقصود من قوله «عارفاً بحقّها» هو الإيمان بأنها ستُشفع يوم القيامة. وقد دلّ على ذلك حديث الإمام الصادق سلام الله عليه إذ قال: «ألا إن قم الكوفة الصغيرة، ألا إن للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة، بنت موسى، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم». (3)
مكانتها العلمية – "فداها أبوها"
لم تكن السيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها مجرّد زائرةٍ لمدائن المعرفة، بل كانت من ساكنيها وأعلامها في عصرها، فقد حازت قسطاً عظيماً من الفضل والعلم في أقصر مدّة ممكنة، واستمدّت من والدها الإمام الكاظم عليه السلام وأخيها الإمام الرضا عليه السلام ومربّيها الطاهرة السيدة نجمة خاتون، ما جعلها مرآة صافية تعكس أنوار النبوّة والإمامة.
وقد شهد التأريخ لمقامها العلمي بما لا يدع مجالاً للشك، حيث نُقلت عنها روايات في مواضيع عديدة، منها فضل حبّ آل محمد صلى الله عليه وآله، ومكانة أمير المؤمنين عليه السلام، ومقام شيعته، وقد عُرف عنها أنّها كانت تجيب عن المسائل الدينية والفقهية منذ صغرها، ما يكشف عن نبوغٍ استثنائيٍّ ونفسٍ علميّ رفيع.
ومن أعجب ما رُوي في هذا السياق، ما نقله العلّامة السيد نصر الله المستنبط في كتابه "كشف اللئالي"، أنّ جماعةً من شيعة أحد الأمصار قصدوا مدينة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حاملين معهم مسائلهم الشرعية، لعرضها على الإمام الكاظم عليه السلام، كما كانت العادة الجارية آنذاك في مختلف الأمصار الإسلامية. ولكنهم، عندما وصلوا إلى دار الإمام، وجدوا أنّه غير موجود. فخرجت إليهم فتاة صغيرة، لم تتجاوز الثامنة أو التاسعة من العمر، فأخذت منهم الأسئلة وكتبت بأناةٍ وإتقان أجوبةً دقيقة لكلّ مسألة، ثم أعادت إليهم الرسائل مجابةً.
ولمّا عاد الإمام الكاظم عليه السلام واطّلع على ما جرى، أُعجب بعمق علمها، فابتسم ابتسامة الرضا، والتفت إلى أصحابه قائلاً ثلاثاً: "فداها أبوها"، في إشارةٍ جليّة إلى مقامها السامي وعلمها الراسخ، رغم حداثة سنّها آنذاك.
وهذه الحادثة المدهشة، التي جرت في سنين صباها، لا تترك مجالاً للشك في أنّها كانت تمتلك من العلوم والمعارف ما لا يصدر إلّا عن بيتٍ طهّره الله تطهيراً، وأنّها، سلام الله عليها، كانت بحقّ عالمة غير معلَّمة، ومحدَّثة غير محدثة، وأنّ زيارتها ليست فقط تبرّكاً بضريح، بل حضورٌ في حضرة علمٍ وشرفٍ ومقامٍ لا يبلغه إلّا أولي الألباب.
ولعلّ من أبرز مصاديق معرفة حقّ السيّدة المعصومة سلام الله عليها، الإيمان بمقامها العلميّ الرفيع، باعتبارها عالمةً من آل محمد صلى الله عليه وآله، ومِن أهل بيتٍ ورثوا العلم والحكمة جيلاً بعد جيل، حتى غدت سلام الله عليها مناراً من منارات المعرفة الربّانية في عصرها.
أسئلة وأجوبة
ما معنى "عارفًا بحقها"؟
أي مدركًا لمقامها الرفيع ومكانتها عند الله وأهل البيت (عليهم السلام).
لماذا نبدأ زيارة السيدة المعصومة (عليها السلام) بالسلام على الأنبياء؟
للتأكيد على ارتباطها بسلسلة النبوة ومكانتها في هذا البيت الطاهر.
ما هو الشأن الذي لها عند الله؟
هو مقامها الرفيع الذي يشمل الشفاعة وغيرها من الكرامات.
ما دلالة مقولة "فداها أبوها"؟
تدل على محبة الإمام الكاظم (عليه السلام) لابنته ومكانتها الخاصة عنده.
لنحرص على زيارة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بقلوب مفعمة بالحب والمعرفة، ولنطلب شفاعتها في الدنيا والآخرة. فمن زارها عارفًا بحقها، وجبت له الجنة.
1. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : ٥٧ / الصفحة : ٢١٧.
2. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 48 / الصفحة : 316.
3. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : ٥٧ / الصفحة : 228.
التعلیقات