المبادئ التربوية في مشاية الأربعين وانعاكسها على الأسرة
السيد حسين الهاشمي
منذ 7 ساعاتالمبادئ التربوية في مشاية الأربعين وانعاكسها على الأسرة
مسيرة الأربعين واحدة من أكبر التجمّعات الدينية في العالم، حيث يحتشد الملايين من المؤمنين من مختلف البلدان والثقافات للسير نحو كربلاء إحياءً لذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام. هذه المسيرة ليست مجرد طقس ديني شعائري فحسب، بل هي مدرسة تربوية متكاملة تترسّخ من خلالها مجموعة من القيم والمبادئ الأخلاقية والروحية والاجتماعية، والتي تترك آثاراً عميقة في سلوك الأفراد، وتنعكس بصورة مباشرة على الأسرة والمجتمع. وهذا ما أكّد عليه الأئمة المعصومين عليهم السلام. فقد روي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: « علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » (1). فالعمل الذي يعدّ من علامات المؤمن يجب أن يتوفر فيه الأصول الأخلاقية والدينية والعقائدية.
إنّ مشاية الأربعين توفّر بيئة عملية لتجسيد مفاهيم مثل الصبر، الإيثار، التضحية، التعاون، التواضع، وحسن المعاملة. إذ يُشاهد الزائرون صوراً حية من كرم الضيافة، الخدمة المجانية، وروح الأخوة بين المشاركين، ما يسهم في تعزيز السلوك الإيجابي وترسيخ القيم التربوية لدى الأفراد من مختلف الأعمار. وبما أنّ الأسرة تُعتبر النواة الأولى في تشكيل شخصية الإنسان، فإنّ ما يكتسبه أفرادها من هذه التجربة الروحية والاجتماعية ينعكس بشكل مباشر على تماسكها، أساليب تربيتها، ومستوى الوعي القيمي فيها.
لهذا ولأجل حلول وقت هذه المشاية العظيمة، قررنا أن نكتب لكم عنها وعن المبادئ التربوية التي تتضمنها هذه المشاية وانعاكسها على الأسرة.
الحجاب والعفاف في شعيرة الأربعين
أبرز المظاهر التي تلفت الأنظار في هذه المسيرة العظيمة، هو التزام النساء بالحجاب والعفاف، ليس فقط كفريضة دينية، بل كتعبير عملي عن الولاء لنهج الإمام الحسين عليه السلام الذي ضحّى بنفسه وأهل بيته من أجل حفظ القيم الإلهية وفي مقدمتها صون الكرامة الإنسانية وحفظ الطهارة الأخلاقية. فقد قال الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفية في وصيته إليه حين خروجه من المدينة: « هذا ما أوصى به الحسين بن علي الى أخيه محمد بن الحنفية، إن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وان محمدا عبده ورسوله ... واني لم أخرج أشرا، ولا بطرا، ولا مفسدا، ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله وسلم أريد أن آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق، فالله اولى بالحق، ومن رد علي اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين » (2).
لا يقتصر العفاف على الحجاب فحسب، بل يشمل السلوك والتعامل وطريقة الحديث والنظر والتصرف. ويُلاحظ في مشاية الأربعين حالة من الانضباط الأخلاقي العالي، حيث يُراعى الفصل بين الجنسين، وتحكم العلاقات بآداب الشريعة الإسلامية. هذا العفاف الجماعي يخلق جوًا من الطمأنينة، ويسهم في تهذيب النفس، ويقدّم نموذجًا عمليًا للمرأة المسلمة في كيفية الجمع بين النشاط الاجتماعي والالتزام الديني. وبهذا يمكننا أن نقول إنّ المشاركة النسوية المؤمنة والمحجّبة في مشاية الأربعين تترك أثرًا تربويًا كبيرًا، لا سيما على الأبناء والجيل الناشئ. إذ يتعلم الأطفال من أمهاتهم كيف يكون الحجاب زينًا وكرامة، ويكتسبون مفاهيم الطهر والعفة من البيئة المحيطة بهم. وبالتالي تتحول الأسرة إلى نواة أخلاقية تعكس القيم التي تُجسّد في هذه المناسبة.
الحوار بين أبناء الأمة الإسلامية
في مشاية الأربعين في كلّ سنة نرى الكثير من أبناء باقي المذاهب الإسلامية بل وباقي الأديان يمشون مع الشيعة في هذه المسيرة العظيمة. وعلى الرغم من اختلاف الانتماءات المذهبية والثقافية، فإنّ هذه المسيرة تحوّلت إلى منصة واقعية للحوار الإسلامي حيث تُذوب الخلافات، وتُبنى الجسور بين المذاهب، وتتقارب القلوب تحت راية (الحسين يوحّدنا).
يلتقي الزوار في طريق كربلاء من دول شتى: العراق، إيران، لبنان، البحرين، باكستان، الهند، أفغانستان، سوريا، اليمن، وبلدان الخليج، إضافةً إلى الزوار من الدول الأوروبية والأمريكية. هذا التنوع يخلق فضاءً تلقائيًا للتواصل، حيث يتحدث الناس مع بعضهم، ويتبادلون الطعام، ويبيتون في أماكن واحدة، ويتعاونون في الخدمة. هذا التفاعل العملي يُعدّ من أصدق أشكال الحوار غير الرسمي الذي يزيل الحواجز النفسية، ويقرّب بين الشعوب والمذاهب.
الخدمة المجانية التي يقدّمها الشعب العراقي، لا سيما في مواكب الضيافة، تُعدّ بحد ذاتها رسالة حوار. إذ لا يُسأل الزائر عن مذهبه أو قوميته أو لغته، بل يُقدَّم له الطعام والمأوى بكل حب واحترام. هذا السلوك العملي يُكرّس مبدأ الاحترام المتبادل والكرامة الإنسانية، وهو ما يحتاجه عالمنا الإسلامي بشدة في ظلّ التحديات الطائفية التي تعصف به.
الآثار التربوية لمسيرة الأربعين
لا شك أنّ تربية الجيل الجديد على خط الحسين عليه السلام، لا تكون من خلال التوجيه النظري فقط، بل تتجسد فعليًا عبر المشاركة الواعية في مناسبات كبرى مثل الأربعين، حيث يندمج الطفل أو المراهق في مجتمع يسوده الإيمان، التضحية، الصبر، الخدمة، والوعي الجماعي.
التأثيرات العقائدية
يتعرّف الطفل أو المراهق من خلال المشاركة في مشاية الأربعين عمليًا على مفاهيم أساسية في العقيدة الإسلامية مثل الولاية لأهل البيت عليهم السلام والبرائة من أعدائهم والمعنى الحقيقي للتضحية والشهادة وأهمية الوقوف مع الحق والحقيقية مهما كانت التضحيات والتحديات.
هذه المفاهيم لا تُلقّن بشكل جامد، بل تُكتسب من خلال التجربة الحسية والبيئة العامة، مما يجعلها أكثر ثباتًا في الوجدان. فالطفل الذي يسير مع والديه في أجواء مفعمة بذكر الحسين عليه السلام إنما يُغرس في قلبه حبّ الإمام عليه السلام.
التأثيرات الأخلاقية
مسيرة الأربعين توفّر بيئة أخلاقية نموذجية، حيث يرى الطفل الناس يساعدون بعضهم بلا مقابل وخدمة الزوّار تُقدَّم بروح الكرم والعطاء وكبار السن يُحترمون، والصغار يُدلَّلون والكلمة الطيبة تُتداول، والابتسامة لا تفارق الوجوه. فكلّ هذه المشاهد العظيمة والجميلة تساهم في تربية الأطفال والمراهقين على الإيثار والكرم والإحترام والتواضع والتعامل الحسن مع الآخرين والصدق في العمل والقول. فالمسيرة تتحوّل إلى مختبر أخلاقي حيّ، يغرس في الجيل الجديد سلوكيات نبيلة يصعب أحيانًا تعليمها في المدارس أو المنازل.
التأثيرات الشخصية
المشي في الطريق الطويل إلى كربلاء يعلّم الطفل والمراهق الصبر على التعب والمشقة والانضباط في الوقت والمسير والاعتماد على الذات في بعض المواقف خصوصا المواقف الحرجة والصعبة والاستعداد للمشاركة وتحمل الأعباء.
هذه العوامل تُسهم في بناء شخصية قوية، قادرة على مواجهة الصعوبات، والتفاعل بإيجابية مع التحديات. كما يُلاحظ في بعض الأطفال سلوكًا ناضجًا أثناء المسيرة، مثل حمل الحقائب، أو تقديم المساعدة للآخرين، وهو ما يدلّ على تحول داخلي في نضج الشخصية.
وأيضا يمكنهم أن يتعلموا من المواعض التي كانت في واقعة الطف. مثل كلام الحرّ بن يزيد الرياحي. فقد روى الشيخ المفيد: « قالَ له المهاجرُ : إِنّ أمْرَكَ لَمُريبٌ ، واللهِّ ما رأيتُ منكَ في موقفٍ قطُّ مثلَ هذا ، ولو قيلَ لي : مَنْ أشجعُ أَهلِ الكوفِة ما عَدَوْتُكَ ، فما هذا الّذي أرى منكَ؟! فقالَ له الحرُّ : إِنِّي واللّه أُخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنّارِ ، فواللّهِ لا أختارُ على الجنّةِ شيئاً ولو قُطًّعْتُ وحُرِّقْت. ثمّ ضربَ فرسَه فلحِقَ بالحسينِ عليه السلام » (3).
التأثيرات الاجتماعية
الأطفال والناشئة يختبرون في الأربعين نوعًا فريدًا من الاندماج الاجتماعي كالتفاعل مع ثقافات ولغات متعددة والشعور بالأمان والانتماء داخل جماعة مؤمنة والمشاركة في أنشطة تطوعية داخل المواكب وتطوير مهارات التواصل الجماعي. كلّ هذه الأمور تعزّز روح المعاونة بينهم والقدرة على بناء العلاقات الإيجابية وتحمل المسؤوليات في البيئة الاجتماعية. فالطفل في هذه البيئة لا يشعر بالانعزال، بل يدرك أنه فرد فعّال ضمن أمة كبرى، ذات هدف مشترك، وهو السير على نهج الإمام الحسين عليه السلام.
التأثيرات النفسية
في زمنٍ يعاني فيه كثير من الأطفال والمراهقين من القلق، العزلة، التشتت الذهني، وضغط التكنولوجيا، تُمثّل مسيرة الأربعين فرصة فريدة للتوازن النفسي عبر الابتعاد عن الشاشات والضوضاء والاتصال بالطبيعة والمسير الهادئ والتفريغ العاطفي من خلال البكاء والزيارة والإحساس بالدعم العائلي والاجتماعي.
هذه العناصر تسهم في تقليل التوتر وارتفاع درجة الطمأنينة الداخلية والتنمية الإيجابية في التفكير وتشجيع الارتباط بالأهداف الكبرى بدل الانشغال بالتفاصيل اليومية.
النتيجة
مسيرة الأربعين ليست مجرد مناسبة دينية، بل هي مدرسة تربوية متكاملة، تُربّي النفوس قبل الأجساد، وتصقل العقول وتطهّر القلوب، خصوصًا في مرحلة الطفولة والمراهقة التي تُعدّ من أهم مراحل بناء الشخصية.
وإذا استطعنا أن نُوظّف هذه الفرصة بالشكل الصحيح، من خلال إشراك الأطفال والناشئة في المسيرة بطريقة مدروسة، فسنُنشئ جيلاً مؤمنًا، مسؤولًا، صبورًا ومتوازنًا نفسيًا، يحمل في قلبه حب الحسين عليه السلام، وفي سلوكه أخلاق الحسين، وفي حياته رسالة الحسين عليه السلام.
1) بحار الأنوار (للعلامة محمد باقر المجلسي) / المجلد: 98 / الصفحة: 329 / الناشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم / الطبعة: 1.
2) كتاب الفتوح (لإبن أعثم الكوفي) / المجلد: 5 / الصفحة: 33 / الناشر: دار الطباعة اللبناني – بيروت / الطبعة: 1.
3) الإرشاد (للشيخ المفيد) / المجلد: 2 / الصفحة: 99 / الناشر: مؤسسة آل البيت – قم / الطبعة: 1.
التعلیقات