أسبوع الرضاعة العالمي: تكريم لفطرة الأمومة وتعاليم السماء
شيخ مهدي المجاهد
منذ 7 ساعاتأسبوع الرضاعة العالمي: تكريم لفطرة الأمومة وتعاليم السماء
تحوّل أسبوع الرضاعة الطبيعية، الممتد من الأول إلى السابع من أغسطس، إلى محطة سنوية يُستحضر فيها الدور الفطري العظيم الذي خصّ الله به الأم. ففي هذا الأسبوع، تتجدّد الدعوات العالمية للاهتمام بالرضاعة، لما لها من أثر عميق في بناء صحة الطفل والأم، وتماسك المجتمع. وحين نقترب من هذا الموضوع عبر هدي الوحي الإلهي، في القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، يتجلّى البُعد الإيماني والنفسي والتربوي لهذه الفطرة التي لا بدّ من إحيائها وتعزيزها.
أولاً: أهمية الرضاعة الطبيعية في ضوء القرآن الكريم
لم يغفل القرآن الكريم ذكر مسألة الرضاعة الطبيعية، بل أفرد لها آيات واضحة تُشير إلى أهميتها وتنظّم فترتها الزمنية، مما يدلّ على مكانتها المحورية في بناء الإنسان السليم.
1. تحديد مدة الرضاعة المثلى
قال تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ (1).
1ـ في هذا المقطع من الآية نلاحظ أن حق الإرضاع خلال سنتي الرضاعة يعود للام، فهي التي لها أن ترضع مولودها خلال هذه المدة وأن تعتني به، وعلى الرغم من أن (الولاية) على الأطفال الصغار قد أعطيت للأب، ولكن لما كانت تغذية الوليد الجسمية والروحية خلال هذه المدة ترتبط ارتباطا لا ينفصم بلبن الأم وعواطفها، فقد أعطيت حق الاحتفاظ به، كما تجب مراعاة عواطف الأمومة، لأن الأم لا تستطيع في هذه اللحظات الحساسة أن ترى حضنها خاليا من وليدها وأن لا تبالي به.
2 ـ ليس من الضروري أن تكون مدة رضاعة الطفل سنتين حتما، إنما السنتان لمن يريد أن يقضي دورة رضاعة كاملة لمن أراد أن يتم الرضاعة ولكن للأم أن تقلل من هذه الفترة حسب مقتضيات صحة الطفل وسلامته.
في الروايات التي وصلتنا من أهل البيت عليهم السلام أن دورة رضاعة الطفل الكاملة سنتان كاملتان، ودورتها غير الكاملة 21 شهرا ، ولعل هذا يأخذ أيضا بنظر الاعتبار مفاد هذه الآية مع الآية (15) من سورة الأحقاف التي تقول وحمله وفصاله ثلاثون شهرا. ولما كانت فترة الحمل 9 أشهر، فتكون فترة الرضاعة الاعتيادية 21 شهرا.
3 ـ نفقة الأم في الطعام واللباس، حتى عند الطلاق أثناء فترة الرضاعة تكون على والد الطفل، لكي تتمكن الأم من الانصراف إلى العناية بطفلها وإرضاعه مرتاحة البال وبدون قلق.
4 ـ لا يحق لأي من الوالدين أن يجعلا من مستقبل وليدهما ومصيره أمرا مرتبطا بما قد يكون بينهما من اختلافات، فيكون من أثر ذلك أن تصاب نفسية الوليد بضربة لا يمكن تفادي آثارها.
5 - ثم تبين الآية حكما آخر يتعلق بما بعد وفاة الأب فتقول: وعلى الوارث مثل ذلك.
6 - وتتحدث الآية أيضا عن مسألة فطام الطفل عن الرضاعة وتجعله بعهدة كل من الأبوين على الرغم مما جاء في الآيات السابقة من تحديد فترة الرضاعة، إلا أن للأبوين أن يفطما الطفل وقت ما يشاءان حسب ما تقتضيه صحة الطفل وسلامته الجسمية (2).
في هذه الآية الكريمة توجيه واضح إلى أن الرضاعة الطبيعية المثالية تستمر لمدة عامين كاملين، وهذا يتطابق اليوم مع ما توصي به منظمات الصحة العالمية.
وقد كرر القرآن هذا التحديد في آية أخرى:
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ (3).
و"الفصال" هنا بمعنى الفطام، وهو يدل على نهاية مدة الرضاعة الطبيعية، ما يؤكد أهمية هذه المرحلة كفترة تكوينية في حياة الطفل.
2. الرضاعة حقٌّ للطفل
في الإسلام، الرضاعة ليست فقط مسؤولية الأم، بل هي حق للطفل في أن يتغذى من أمه بطريقة طبيعية، وهذا ما تُظهره الآية: ﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ﴾.
الآية تضع ضوابط تحفظ كرامة الأم وتحمي مصلحة الطفل، وتؤكد على التوازن بين الحقوق والواجبات في علاقة الرضاعة.
ثانياً: الرضاعة في ضوء السنة والروايات الشريفة
أولى الإسلام اهتمامًا بالغًا بالرضاعة، كما تظهر الروايات الشريفة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام، والتي بيّنت أبعادًا روحية وتربوية وأخلاقية للرضاعة الطبيعية.
1. الرضاعة غذاء للجسم والروح
عن الإمام علي عليه السلام قال: « مَا مِنْ لَبَنٍ يُرْضَعُ بِهِ الصَّبِيُّ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَيْهِ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ » (4).
تُشير هذه الرواية إلى أمرين: أولًا أن لبن الأم هو الأصلح لطفلها، وثانيًا أن البركة مرتبطة به، وهذه البركة قد تكون جسدية في مناعة الطفل وصحته، وقد تكون روحية في أثر الحنان والنقاء الذي ينتقل من قلب الأم إلى رضيعها.
2. تأثير الرضاعة في تشكيل شخصية الطفل
عن الإمام علي عليه السلام: « انْظُرُوا مَنْ تُرْضِعُ أَوْلَادَكُمْ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَشِبُّ عَلَيْهِ » (5).
في هذه الرواية دلالة دقيقة على أن الأخلاق والصفات النفسية قد تُنقل عبر الرضاعة. لذا، أوصى الإمام بأن تكون المُرضعة من ذوات الدين والخلق، لأن لبنها يُسهم في تربية الولد بشكل غير مباشر.
3. الثواب الإلهي للأم المرضعة
عن النبي صلى الله عليه وآله قال: « فَإِذَا أَرْضَعَتْ كَانَ لَهَا بِكُلِّ مَصَّةٍ كَعِدْلِ عِتْقِ مُحَرَّرٍ مِنْ وُلْدِ إِسْمَاعِيلَ، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ رَضَاعِهِ ضَرَبَ مَلَكٌ كَرِيمٌ عَلَى جَنْبِهَا ، وَ قَالَ: اسْتَأْنِفِي الْعَمَلَ فَقَدْ غُفِرَ لَكِ » (6).
هذا الثواب العظيم يدل على عظمة عمل الأم، وعلى أن الإسلام يرى الرضاعة الطبيعية عبادة ومصدرًا للثواب، لا مجرد وظيفة فطرية.
ثالثاً: المستحبات والمكروهات المتعلقة بالرضاعة
من دقة الشريعة الإسلامية أنها لم تترك حتى تفاصيل الرضاعة دون توجيه، بل جعلت لها آدابًا ومستحبات ومكروهات تُحفظ من خلالها كرامة الأم، ونقاء الطفل، وصحة الرابطة بينهما.
1. المستحبات في الرضاعة
أ- إرضاع الأم لولدها بنفسها
وهو أمر مستحب في الشرع الإسلامي. قال الفقهاء إن الأصل أن تُرضع الأم ولدها، ما لم يكن هناك مانع صحي أو ظرفي، لأن في ذلك حنانًا وارتباطًا روحيًا لا يُعوّض.
ب- التسمية قبل الرضاعة
نُقل عن الإمام الصادق عليه السلام أن التسمية قبل إرضاع الطفل من مستحبات الرضاعة، فهي تقي الطفل من بعض الآثار السلبية، وتُحصّنه باسم الله.
ج- بداية الرضاعة من الثدي الأيمن
ورد في بعض الروايات أنه من المستحب أن تبدأ الأم بإرضاع طفلها من الثدي الأيمن، لما في ذلك من رمزية في تقديم الخير والبركة، كما كان دأب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البدء باليمين في أموره الطيبة.
وَ نَظَرَ الإمام الصَّادِقُ عليه السلام إِلَى أُمِّ إِسْحَاقَ بِنْتِ سُلَيْمَانَ وَ هِيَ تُرْضِعُ أَحَدَ ابْنَيْهَا مُحَمَّداً أَوْ إِسْحَاقَ فَقَالَ : «يَا أُمَّ إِسْحَاقَ لَا تُرْضِعِيهِ مِنْ ثَدْيٍ وَاحِدٍ وَ أَرْضِعِيهِ مِنْ كِلَيْهِمَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا طَعَاماً وَ الْآخَرُ شَرَاباً » (7).
ويستحسن في مرحلة الرضاع مناغاة الطفل ، لأنّها تؤثر على سرعة النطق ، ونموّه اللغوي والعاطفي في المستقبل ، حيث يشعر من خلال المناغاة بوجود الأمن والطمأنينية والهدوء ، ولنا في سُنّة أهل البيت عليهم السلام خير منار واقتداء ، فكانت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام تناغي الحسن عليه السلام في هذه المرحلة وتقول :
أشبه أباك يا حسن واعبد إلهاً ذا منن *** واخلع عن الحق الرّسن ولا توالِ ذا الإحَـــنْ
وكانت تناغي الحسين عليه السلام :
أنت شبيه بأبي لست شبيهاً بعـــليّ (8).
2. المكروهات في الرضاعة
أ- الإرضاع في حالة الغضب أو الحزن الشديد
فقد ورد أن نفسية الأم تؤثر في حليبها، وأن الرضاعة وهي في حالة من الحزن أو الغضب قد تنقل هذه الحالة إلى الطفل.
ب- الإرضاع من غير المؤمنات
كما مرّ في رواية الإمام الصادق عليه السلام: "انظروا من ترضع أولادكم"، فإن بعض الروايات نبهت إلى كراهة الاستعانة بمُرضعة لا تحمل صفات الإيمان أو الطهر السلوكي، لما في ذلك من آثار خفية على نفس الطفل.
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: « لَا تَسْتَرْضِعُوا الْحَمْقَاءَ فَإِنَّ اللَّبَنَ يُعْدِي وَ إِنَّ الْغُلَامَ يَنْزِعُ إِلَى اللَّبَنِ يَعْنِي إِلَى الظِّئْرِ فِي الرُّعُونَةِ وَ الْحُمْقِ » (9).
رَوَى ابْنُ مُسْكَانَ عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ: »سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ وَلَدَهُ إِلَى ظِئْرٍ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ تُرْضِعُهُ فِي بَيْتِهَا أَوْ تُرْضِعُهُ فِي بَيْتِهِ قَالَ: تُرْضِعُهُ لَكَ الْيَهُودِيَّةُ وَ النَّصْرَانِيَّةُ وَ تَمْنَعُهَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَ مَا لَا يَحِلُّ مِثْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَ لَا يَذْهَبْنَ بِوَلَدِكَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ وَ الزَّانِيَةُ لَا تُرْضِعُ وَلَدَكَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ وَ الْمَجُوسِيَّةُ لَا تُرْضِعُ لَكَ وَلَدَكَ إِلَّا أَنْ تُضْطَرَّ إِلَيْهَا » (10).
رابعاً: أبعاد اجتماعية ونفسية للرضاعة الطبيعية
الرضاعة ليست فقط وسيلة تغذية، بل هي أيضًا لغة تواصل فطرية تُنشئ رابطة وجدانية قوية بين الأم ورضيعها. وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الأطفال الذين يُرضَعون طبيعيًا أكثر استقرارًا نفسيًا وأفضل تواصلاً مع الأمهات على المدى البعيد.
وفي ضوء تعاليم الإسلام، نرى أن هذه الرابطة حظيت باهتمام بالغ، حيث سُمّيت الأم "بالوالدة" في أكثر من موضع قرآني، للتأكيد على أنها ليست فقط من حملت الطفل، بل من احتوته في صدرها، وغذّته من روحها.
خامساً: في سياق أسبوع الرضاعة العالمي: دعوة إلى العودة للفطرة
إن احتفال العالم بأسبوع الرضاعة هو اعتراف عالمي بحكمة الخالق، وبدور الأمومة في صناعة الإنسان. لكن الإسلام سبق العالم في ترسيخ هذه المفاهيم، حيث اعتبر أن كل ما يخرج من فطرة الله هو الأصل، وأما البدائل فهي استثناءات مؤقتة.
ولهذا، نُناشد في هذا الأسبوع كل أمّ أن تُعيد النظر في قرارها بشأن الرضاعة الطبيعية، وأن تستشعر قداسة هذه المهمة الربانية، وأن تدرك أن الطفل لا يرضع فقط غذاءً، بل يرضع دينًا، عاطفة، وأخلاقًا.
خاتمة:
في زحمة الحياة المعاصرة، تظلّ الرضاعة الطبيعية نبضًا من فطرة الله، تحمل في طياتها غذاءً، وحنانًا، وسكينة.
ندعو كل أم أن تُشاركنا شيئًا من تجربتها في الرضاعة: ذكرى مؤثرة، لحظة صبر، أو شعور لا يُنسى… فلكلماتكن صدى يلهم غيركن، ويُحيي هذه الفطرة الجميلة من جديد.
ـــــــــــــ
1. سورة البقرة : الآية 233.
2. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل نویسنده / الشيخ ناصر مكارم الشيرازي / المجلّد : 2 الصفحة : 176 ـ 178.
3. سورة لقمان : الآية 14.
4. من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق / المجلّد : 3 / الصفحة : 475.
5. الكافي- ط الاسلامية / الشيخ الكليني / المجلّد : 6 / الصفحة : 44.
6. وسائل الشيعة - ط الإسلامية / الشيخ حرّ العاملي / المجلّد : 15 / الصفحة : 175.
7. من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق / المجلّد : 3 / الصفحة : 475.
8. مناقب آل أبي طالب / ابن شهرآشوب / المجلّد : 3 / الصفحة : 159 / ط المكتبة الحيدرية.
9. من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق / المجلّد : 3 / الصفحة : 478.
10. من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق / المجلّد : 3 / الصفحة : 479.
التعلیقات