الأبعاد التربوية الفردية لزيارة الأربعين
دروس من واقعة الكربلاء
منذ 3 ساعاتالأبعاد التربوية الفردية لزيارة الأربعين
زيارة الأربعين أحد أبرز الشعائر الدينية التي يمارسها ملايين المسلمين، لاسيما أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وهي تمثّل ملحمة روحية وإنسانية فريدة تتجلى فيها معاني الإخلاص، والولاء، والتضحية، والصبر، والعدل. وتُقام هذه الزيارة في العشرين من شهر صفر من كل عام هجري، إحياءً لذكرى مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين بن علي عليه السلام في واقعة كربلاء، والتي شكّلت نقطة تحول كبرى في التاريخ الإسلامي.
وعلى الرغم من الطابع الجماهيري والشعبي لزيارة الأربعين، فإنّها تتضمّن أبعاداً تربوية عميقة تؤثّر بشكل مباشر في الفرد، وتُسهم في تهذيب سلوكه، وتطوير شخصيته، وتعزيز ارتباطه بالقيم الدينية والإنسانية. فهذه الرحلة الروحية، التي يقطع فيها الزائرون مئات الكيلومترات سيراً على الأقدام، لا تُعدّ مجرّد طقس تعبّدي، بل هي مدرسة عملية يتدرّب فيها الإنسان على الصبر، والتواضع، والعطاء، والانضباط، والإيثار.
ومن جهة أخرى فإن هذه الزيارة هي أحد علامات المؤمن الخمس. حيث روي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: « علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » (1). ولهذا فإنّ هذه الزيارة، ذوا أهمية كثيرة لدى الشيعة والمحبين لأئمة أهل البيت عليهم السلام. لهذا السبب، قررنا أن نكتب لكم عن الأبعاد التربوية الفردية لهذه الزيارة المليونية العظيمة حتى نشجع الآباء والأمهات في اصطحاب أبنائهم وأطفالهم ومراهقيهم وشبابهم معهم في هذه المسيرة العظيمة الجليلة.
دور مسيرة الأربعين في تنمية البصيرة
البصيرة، في المفهوم الإسلامي، ليست مجرّد المعرفة أو البُعد العقلي، بل هي رؤية نافذة عميقة، تُضيء للإنسان طريق الحق، وتجعله قادراً على التمييز بين الصواب والخطأ، بين الحق والباطل، وبين الشعارات الخادعة والمواقف الصادقة. وفي ظل التحديات الفكرية والسياسية المعاصرة، تبرز الحاجة إلى تعزيز البصيرة كقيمة مركزية في بناء الفرد الواعي والمجتمع المقاوم. وقد قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام حول عمّه أبي الفضل العباس عليه السلام: « كان عمّنا العباس بن علي نافذ البصيرة ، صلب الإيمان ، جاهد مع أبي عبد الله عليه السّلام وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً » (2). وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله: ﴿ قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ (3).
المشاركون في المسيرة يستحضرون ملحمة كربلاء بكل تفاصيلها، لا كحادثة من الماضي، بل كمشروع مستمر، مما يرسّخ في وعيهم ارتباطهم بقضية الحق والعدالة، ويجعلهم جزءاً من امتداد الثورة الحسينية. وأيضا المسيرة ليست نشاطاً نظرياً، بل تجربة عملية يشارك فيها الناس من مختلف الطبقات، ما يُعمّق وعي الفرد بالواقع الاجتماعي، ويُنمّي لديه الشعور بالمسؤولية والعمل الجماعي.
يمكن رصد تغيرات فكرية وعقائدية لدى كثير من المشاركين بعد خوضهم لتجربة المسيرة، سواء من حيث عودة الالتزام الديني، أو تزايد الاهتمام بالشأن العام، أو التحوّل نحو فهم أعمق لرسالة الإمام الحسين عليه السلام. كما ساهمت المسيرة في تنوير العديد من الزائرين غير المسلمين، الذين وجدوا في هذه الظاهرة الإنسانية نموذجاً فريداً للثورة ضد الظلم.
تعزيز الثقة بالنفس في مشاية الأربعين
إنّ من يشارك في هذه المسيرة لا يمرّ فقط بتجربة جسدية وروحية، بل يخوض تمرينًا عمليًا في الصبر والتحمل والكرامة، يُعيد له شعور السيطرة على الذات، والانتماء لهدف أسمى، ويزرع فيه روح العزّة، التي كانت عنوانًا أساسيًا في ثورة الإمام الحسين عليه السلام.
عزة النفس هي الشعور بالقيمة الذاتية والكرامة الداخلية، وهي حالة من القوة الداخلية التي تدفع الإنسان لرفض الذل والمهانة. وقد قال الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء أمام جيش إبن سعد: « ألا و ان الدعيّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة و الذلّة. و هيهات منّا الذلّة. يأبى اللّه ذلك لنا و رسوله و المؤمنون و حجور طابت و طهرت. نؤثر مصارع الكرام على طاعة اللئام » (4). في هذا القول الخالد تتجلّى ذروة العزة والكرامة الإنسانية التي أصبح الحسين عليه السلام رمزًا لها، ومن ثمّ أصبحت زيارته وسيرته مصدرًا لاستنهاض الكرامة في نفوس الأحرار في كل زمان.
المشي في طريق الإمام الحسين عليه السلام ليس مجرد حركة جسدية، بل ارتباط نفسي برسالة مقدسة، ما يمنح الزائر إحساسًا بقيمة ذاته كجزء من مشروع الحق ومقاومة الباطل. وأيضا رؤية التنوع الطبقي والثقافي والاجتماعي في المسيرة، حيث الجميع يتساوون في الخدمة والمشي، تُسهم في كسر مشاعر النقص والتقليل من الذات، وتعزّز الشعور بالكرامة الإنسانية المتساوية.
كثير من الزوّار، خصوصًا من الشباب أو ذوي الاحتياجات أو الطبقات المهمّشة، عبّروا عن تحوّل جذري في نظرتهم لأنفسهم بعد المشاركة في مسيرة الأربعين. بعضهم استعاد الثقة بنفسه، وبعضهم وجد في طريق الحسين معنى لوجوده، وآخرون غيّروا أنماط حياتهم نحو الأفضل بعد اكتساب هذا الشعور بالعزّة والقدرة الداخلية.
الاقتداء والتأسي في مسيرة الأربعين
إنّ الإنسان بطبيعته كائنٌ يتعلّم بالمشاهدة والتقليد، ويبحث عن نماذج يُحاكيها ويحتذي بها. ومسيرة الأربعين، بما تحمله من معانٍ رمزية وروحية، توفّر بيئة مثالية للزائر كي يستلهم القيم السامية من شخصية الإمام الحسين عليه السلام، ويقتدي بسيرته، بل ويتأثّر أيضًا بمن حوله من زوّار وخدّام ونماذج بشرية حيّة تُجسّد معاني الإيثار، الصبر، الإخلاص، والولاء.
الاقتداء هو سلوك تربوي ينطلق من مبدأ التشبّه بشخصية مثالية يُنظر إليها بإعجاب وثقة.
وقد أكّد القرآن الكريم على أهمية القدوة في حياة الإنسان كما قال الله تبارك وتعالى حول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ (5). وأيضا قال الله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ﴾ (6). فالاقتداء والتأسي بالأنبياء والأوصياء والأئمة من أهم التعاليم الإسلامية والتي تربّي الأطفال بشكل صحيح.
وفي مشاية الأربعين يشاهد الزائر أفعالًا عظيمة تصدر من أناس بسطاء: رجل يقدّم الطعام مجانًا، امرأة تخدم الزوار، شاب يواسي شيخًا مسنًا... هذه النماذج اليومية تُلهِم الفرد وتدعوه لتقمّص السلوكيات الفاضلة. كذلك حضور المرأة الزائرة في المسيرة يُستمدّ من صبر زينب وشجاعتها في كربلاء، لتكون نموذجًا تُحتذى به في الإيمان والثبات والدور الاجتماعي الفاعل.
هناك آليات لتفعيل الاقتداء في مسيرة الأربعينية. مثل التمثل الواعي. من خلال المجالس، والمحاضرات، والرايات، والشعارات التي تشرح أبعاد الثورة الحسينية، يتعلّم الزائر كيف يطبّق القيم في حياته. ومثل المعايشة مع القدوات المعاصرة. كثير من الزوّار يعايشون شخصيات مخلصة وبسيطة تعيش القيم الحسينية عمليًا، فيتأثّرون بها أكثر مما يتأثرون بالمواعظ النظرية. من باب المثال نشاهد في كلّ عام الكثير من العلماء وكبار الدين يشاركون في هذه المشاية كباقي الزوار رغم كبر سنهم ومن هنا يمكننا أن نجعلهم قدوة لنا.
التفكير والتزكية الروحية
في زمنٍ تسود فيه المادية، ويُثقل الإنسان بالضجيج والتشتيت، تأتي مسيرة الأربعين كفسحة روحية، يُعيد فيها الإنسان التواصل مع نفسه، ويُعيد ترتيب أولوياته، ويستحضر معنى الحياة والغاية من الوجود، متأملًا في معاني الفداء، الصبر، الحق، والكرامة التي جسّدها الإمام الحسين عليه السلام.
كلّ عام نشاهد أنّ بُعد المشاركين عن ضغوط الحياة، والانغماس في جو تعبّدي بسيط، يهيّئ أذهانهم للدخول في حالة من الصفاء الذهني، تُحفّز التأمل الداخلي ومراجعة الذات. المشي لساعات طويلة في سكون الطريق يخلق بيئة مثالية للتأمل الشخصي، تمامًا كما في طقوس الاعتكاف أو الخلوة الروحية، حيث يصغي الإنسان لصوت باطنه. رؤية أناس يخدمون بلا مقابل، ويساعدون غيرهم بمحبة، تدفع الإنسان لسؤال نفسه: من أنا؟ وماذا أقدّم؟ فتُوقظ في داخله نداء التغيير والنضج.
ومن هنا نرى الزائرين في بكاء وتأمل ودعاء صامت أثناء المسير، وهذه علامات على محاسبة النفس، واستشعار تقصيرها، والتوجّه للتوبة. كثير من الزوار يتركون مناصبهم، أموالهم، وراحتهم، ويخوضون هذه التجربة خالصة لوجه الله وحبًا للحسين، ما يُطهّر النفس من حب الدنيا والرياء.
هذه كانت جملة من الآثار التربوية من الجانب الفردية في مشاية الأربعينية. أتمنى أن نشارك جميعا في هذه المسيرة العظيمة.
1) بحار الأنوار (للعلامة محمد باقر المجلسي) / المجلد: 98 / الصفحة: 329 / الناشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم / الطبعة: 1.
2) إبصار العين في أنصار الحسين (للشيخ محمد السماوي) / المجلد: 1 / الصفحة: 30 / الناشر: مركز الدراسات الإسلامية – طهران / الطبعة: 1.
3) سورة يوسف / الآية: 108.
4) إثبات الوصية (للمسعودي) / المجلد: 1 / الصفحة: 166 / الناشر: نشر أنصاريان – قم / الطبعة: 3.
5) سورة الأحزاب / الآية: 21.
6) سورة الممتحنة / الآية: 4.
التعلیقات