السيدة رُباب زوجة الحسين ودمعة كربلاء الخالدة
دور المرأة في واقعة الطّف
منذ 14 ساعةزواج السيدة رباب بالإمام الحسين عليه السلام
قالَ عَوفُ بنُ خارِجَةَ : إنّي عِندَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ في خِلافَتِهِ ، إذ أقبَلَ رَجُلٌ أصعَرُ يَتَخَطّى رِقابَ النّاسِ ، حَتّى قامَ بَينَ يَدَي عُمَرَ ، فَحَيّاهُ تَحِيَّةَ الخِلافَةِ ، فَقالَ عُمَرُ : ما أنتَ؟ فَقالَ : اِمرُؤٌ نَصرانِيٌّ ، وأنَا امرُؤُ القَيسِ بنِ عَدِيٍّ الكَلبِيُّ ، فَلَم يَعرِفهُ عُمَرُ ، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ القَومِ : هذا صاحِبُ بَكرِ بنِ وائِلٍ ، الَّذي أغارَ عَلَيهِم فِي الجاهِلِيَّةِ يَومَ فَلَجٍ .
قالَ عُمَرُ :فَما تُريدُ؟ قالَ : اُريدُ الإِسلامَ ، فَعَرَضَ عَلَيهِ فَقَبِلَهُ ، ثُمَّ دَعا لَهُ بِرُمحٍ ، فَعَقَدَ لَهُ عَلى مَن أسلَمَ مِن قُضاعَةَ ، قالَ : فَأَدبَرَ الشَّيخُ وَاللِّواءُ يَهتَزُّ عَلى رَأسِهِ . قالَ عَوفُ بنُ خارِجَةَ : ما رَأَيتُ رَجُلاً لَم يُصَلِّ سَجدَةً ، اُمِّرَ عَلى جَماعَةٍ مِنَ المُسلِمينَ قَبلَهُ!.
قالَ : ونَهَضَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ومَعَهُ ابناهُ الحَسَنُ وَالحُسَينُ عليهم السلام مِنَ المَجلِسِ حَتّى أدرَكَهُ ، فَأَخَذَ بِرَأسِهِ ، فَقالَ : أنَا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، ابنُ عَمِّ رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله وصِهرُهُ ، وهذانِ ابنايَ مِنِ ابنَتِهِ ، وقَد رَغِبنا في صِهرِكَ فَأَنكِحنا .
قالَ : قَد أنكَحتُكَ يا عَلِيُّ المُحَيّاةَ بِنتَ امرِئِ القَيسِ ، وأنكَحتُكَ يا حَسَنُ سَلمى بِنتَ امرِئِ القَيسِ ، وأنكَحتُكَ يا حُسَينُ الرَّبابَ بِنتَ امرِئِ القَيسِ . وهِيَ الَّتي يَقولُ فيهَا الحُسَينُ عليه السلام :
لَعَمرُكَ إنَّني لَاُحِبُّ دارا
تَحُلُّ بِها سُكَينَةُ وَالرَّبابُ
اُحِبُّهُما وأبذُلُ بَعدُ مالي
ولَيس لِلائِمي فيها عِتابُ
ولَستُ لَهُم وإن عَتَبوا مُطيعا
حَياتي أو يُغَيِّبَنِي التُّرابُ (1).
تزوّج الإمام الحسين عليه السلام من رباب، وكان ثمرة هذا الزواج طفلان: عبد الله الرضيع (علي الأصغر) ، وسكينة بنت الحسين عليها السلام.
هذا التصريح يُظهر عمق العلاقة العاطفية التي جمعت بين الإمام الحسين عليه السلام ورباب، علاقة تميّزت بالمودّة لا بالهيمنة أو السياسة، كما كانت بعض الزيجات آنذاك.
عاشت السيدة رباب في أجواء بيت النبوّة، وتشرّبت تعاليم الإسلام من مصدرها الأصيل، ويُستفاد من سيرتها أنها كانت عاقلة، ديّنة، فصيحة، صابرة، شاعرة، متعلّمة.
السيدة رباب في كربلاء
رافقت السيدة رباب الإمام الحسين عليه السلام في مسيره من المدينة إلى كربلاء سنة 61 هـ، وكانت معه في مكة، ومنها إلى كربلاء. وفي المعركة، كانت شاهدة على أكبر فاجعة في التاريخ الإسلامي، ففقدت زوجها الإمام، وطفلها عبد الله الرضيع، في ساعاتٍ قليلة.
مصرع عبد اللّه الرضيع ابن الحسين عليه السلام على يد حرملة بن كاهل الأسدي
تقدم الإمام الحسين عليه السلام إلى باب الخيمة و قال: ناولوني ولدي الرضيع لأودعه. فأتته زينب عليها السلام بابنه عبد اللّه و أمه الرباب بنت امرئ القيس، فأجلسه في حجره و جعل يقبّله و يقول: بعدا لهؤلاء القوم، إذا كان خصمهم جدك المصطفى. ثم أتى عليه السلام بالرضيع نحو القوم يطلب له الماء، و قال لهم: لقد جفّت محالب أمه، فهل إلى شربة من ماء سبيل؟. ثم قال لهم: يا قوم، إذا كنت أقاتلكم و تقاتلونني، فما ذنب هذا الطفل حتى تمنعوا عنه الماء؟!. (و في رواية) أنه قال: إذا لم ترحموني فارحموا هذا الطفل. فمنهم من رقّ قلبه للطفل، و قال: اسقوه شربة من ماء، و منهم من قال: لا تسقوه و لا ترحموه!.
فخاف عمر بن سعد أن يدبّ النزاع في صفوف جيشه، فقال لحرملة بن كاهل الأسدي و كان راميا: اقطع نزاع القوم. فسدد حرملة سهمه نحو عنق الصبي، فرماه بسهم فذبحه من الوريد إلى الوريد، و هو لائذ بحجر أبيه. فأخذ الطفل يفحص من ألم الجروح، و يرفرف كما يرفرف الطير المذبوح، و دمه يشخب من أوداجه، و الحسين عليه السلام يتلقّى دمه من نحره حتى امتلأت كفه، ثم رمى به نحو السماء.
قال الإمام الباقر عليه السلام: فما وقع منه قطرة إلى الأرض، و لو وقعت منه إلى الأرض قطرة لنزل العذاب.
ثم قال عليه السلام: هوّن ما نزل بي أنه بعين اللّه تعالى. اللهم لا يكن أهون عليك من فصيل ناقة صالح. إلهي إن كنت حبست عنا النصر من السماء، فاجعله لما هو خير منه، و انتقم لنا من الظالمين و اجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل. اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمّد صلى الله عليه و آله و سلم. فسمع عليه السلام مناديا من السماء: دعه يا حسين فإن له مرضعا في الجنة.
ثم نزل عليه السلام عن فرسه، و حفر له بجفن سيفه، و دفنه مرمّلا بدمه، و صلّى عليه. و يقال: وضعه مع قتلى أهل بيته (2).
وكان هذا الرضيع هو ابن السيدة رباب، وهي التي شاهدت هذا المشهد المفجع، وهي تعلم أن لا قبر له إلا صدر أبيه، ولا كفن له إلا الدم، ولا ضريح له إلا الرمضاء.
بعد المأساة: من الحزن إلى الذوبان
بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام، وأسر النساء إلى الكوفة ثم الشام، عادت السيدة رباب إلى المدينة المنورة. وقد أجمع المؤرخون أنها لم تذق طعم الراحة بعد الواقعة، ولم تستظلّ بسقف بيت، حزناً على الحسين، بل عاشت في البكاء والمراثي حتى وافتها المنية بعد عام من الطفّ.
وهذا التصوير يعبّر عن أعلى درجات الوفاء، والذوبان في ذكرى الحبيب الشهيد.
مراثيها لشهيد كربلاء
و قال هشام الكلبي: كانت الرباب من خيار النساء و أفضلهن، و خطبت بعد قتل الحسين عليه السلام فقالت: ما كنت لأتخذ حما بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله.
و روي أنه رثت الرباب زوجها الحسين عليه السلام حين قتل فقالت:
ان الذي كان نورا يستضاء به
بكربلاء قتيل غير مدفون
سبط النبي جزاك اللّه صالحة
عنا و جنبت خسران الموازين
قد كنت لي جبلا صعبا ألوذ به
و كنت تصحبنا بالرحم و الدين
من لليتامى و من للسائلين و من
يغني و يأوي إليه كل مسكين
و اللّه لا أبتغي صهرا بصهركم
حتى أغيب بين الرمل و الطين (3).
ويلاحظ في أبياتها عمق الحزن الذي لا يُقاوم، واستحضار تفاصيل الكارثة في نبرة حزينة مليئة بالأسى والافتقاد.
في مجلس الطاغية عبيد الله بن زياد
و عرض عليه علي بن الحسين عليهما السلام فقال له: من أنت؟ فقال: أنا علي بن الحسين. فقال: أ ليس قد قتل اللّه علي بن الحسين؟ فقال له علي: قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس. فقال له ابن زياد: بل اللّه قتله. فقال علي بن الحسين عليه السلام: اللّه يتوفى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد و قال: و بك جرأة لجوابي و فيك بقية للرد علي اذهبوا به فاضربوا عنقه، فتعلقت به زينب عمته و قالت: يا بن زياد حسبك من دمائنا، و اعتنقته و قالت: و اللّه لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها و إليه ساعة ثم قال: عجبا للرحم، و اللّه إني لأظنها ودت إني قتلتها معه، دعوه فإني أراه لما به.
و في تذكرة السبط: و قيل إن الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين عليه السلام أخذت الرأس و وضعته في حجرها و قبلته و قالت:
وا حسينا فلا نسيت حسينا
اقصدته أسنة الأدعياء
غادروه بكربلاء صريعا
لا سقى اللّه جانبي كربلاء (4).
رُباب في الذاكرة الشيعية
تمثّل رباب عند الشيعة نموذجًا للمرأة المؤمنة، الصابرة، التي واجهت الظلم بالصبر، والخذلان بالوفاء، والحزن بالدموع الصامتة. لم تكن شخصية هامشية، بل كانت شريكة الإمام الحسين في مشروعه الرسالي، حين اختارت أن ترافقه رغم علمها بالمصير.
وقد خلدت الذاكرة الشيعية اسمها في المجالس الحسينية، لا بصفتها "أرملة"، بل "الوفية الصامتة"، و"الناطقة بدموعها"؛ المرأة التي لم تخرج عن حدود الإسلام رغم الفاجعة، ولم تتلفظ بكلمة تسيء، بل تحمّلت الألم على نهج الزهراء وفاطمة بنت أسد وزينب بنت علي.
وفاتها ومثواها
توفيت السيدة رباب سنة 62 هـ، أي بعد عام تقريبًا من واقعة الطف، وقيل إنها دُفنت في المدينة المنورة، قرب بقيع الغرقد، ولا يُعلم على وجه الدقة موضع قبرها، شأنها شأن كثير من نساء أهل البيت اللواتي أُخفيت قبورهن.
وتبقى سيرتها سيرة امرأة لم تُعرف بمنزلتها فقط، بل بصمتها الإنسانية والعاطفية، وهي الصفة التي خلدتها في ضمير الأجيال.
خاتمة
إن الحديث عن السيدة رباب حديث عن الحبّ الخالص والوفاء الذي لا يُحدّ. لقد آمنت بمشروع الإمام الحسين عليه السلام، ورافقته بكل وفاء، وتحمّلت الفقد والشهادة، حتى باتت واحدة من رموز الحزن في الوجدان الشيعي.
فكما خلد التاريخ زينب بنت علي عليها السلام لخطابها وموقفها، خلّد رباب لصمتها وحزنها. وإن الوفاء ربما لا يكون بالكلمات فقط، بل أحيانًا في دمعةٍ لا تجف، وصبرٍ لا ينهار.
1. تاريخ دمشق / المجلّد : 69 / الصفحة : 119 ؛ وراجع : الأغاني / المجلّد : 16 / الصفحة : 147.
2. موسوعة كربلاء / لبيب بيضون / المجلّد : 2 / الصفحة : 147.
3. نفس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم: الشيخ عباس القمي / المجلّد : 1 / الصفحة : 480.
4. نفس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم: الشيخ عباس القمي / المجلّد : 1 / الصفحة : 372.
التعلیقات