الإمام زين العابدين عليه السلام: صمود الحق في محنة الشام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 4 ساعاتبلاد الشام، وهي المنطقة التي تضم اليوم سوريا ولبنان وفلسطين، كانت من أوائل المناطق التي لفتت انتباه الرسول صلى الله عليه وآله لنشر دعوة التوحيد والإسلام. جهّز الرسول لهذا الغرض العديد من السرايا والغزوات، وفي أواخر أيامه أعدّ جيشاً بقيادة أسامة بن زيد، وقال: "لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة". لم يكن هدفه صلى الله عليه وآله التوسع الجغرافي، بل كان ذلك أمراً ثانوياً يخدم نشر كلمة التوحيد وهداية الناس إلى الله تعالى. لكن بعد شهادته، تغيرت الأمور، وطغت الدنيا على كثيرين، فأصبحت الغنائم والسلطة والنفوذ دوافع رئيسية للفتوحات.
بعد فتح المسلمين للشام، عيّن عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان والياً عليها، ثم أخاه معاوية بن أبي سفيان، الذي بُويع بالخلافة عام 41 هـ، ليؤسس الدولة الأموية ويجعل دمشق عاصمة الحواضر الإسلامية حتى عام 132 هـ. وفي عام 60 هـ، ورّث معاوية الخلافة لابنه يزيد.
نعم، إن أحداث ركب الإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاده في كربلاء من أشد الوقائع ألماً في التاريخ الإسلامي، حيث تعرضت قافلة النساء والأطفال من آل البيت عليهم السلام لمعاناة شديدة وسوء معاملة أثناء مسيرتهم كسبايا من كربلاء إلى الكوفة ثم الشام. هذه الأحداث، التي تُروى في المصادر التاريخية والروايات، تثير الحزن العميق وتدمي القلوب لما تحمله من ظلم ومأساة.
ورد في الخبر الشريف أنّ أحدهم سأل من الإمام السجّاد عليه السلام فقال : أي المصائب كانت أشدّ عليكم ؟ وإذا بالإمام عليه السلام يجيب ثلاثاً : الشام الشام الشام . أو أنّه قال : آه من الشام قالها ثلاثاً . وفي خبر آخر أنّ الإمام عليه السلام قال للمنذر بن النعمان ما مضمونه : لقد نزلت علينا في الشام سبع مصائب لم نر مثلها من قبل أصلاً منها :
1 ـ أنّ قادة العسكر كانوا يقودوننا في الشام وهم شاهرون سيوفهم حاملون الرماح وكانوا بين الحين والآخر يتجاسرون علينا بكعب الرماح والناس محدقين بنا من كلّ جانب وهم يضربون بالدفوف ويرقصون فرحاً بما يجري علينا .
2 ـ إنّهم مرّوا بالرؤوس الشريفة بين هوادج المخدّرات وجعلوا رأس عمّي العبّاس عليه السلام مقابل عمّاتي زينب وأُمّ كلثوم ، كما يجعلوا رأس علي الأكبر والقاسم قبال عيني سكينة وفاطمة أُختي ، وكانوا يلعبون بالرؤوس تهوي على الأرض أحياناً وتصبح موطأ لأقدام الخيول .
3 ـ كانت النساء الشاميات فوق السطوح ترمينا بالماء والنار حتّى احترقت عمامتي وحيث إنّني مقيّد لم أستطع إخماد النيران فوصلت النار إلى رأسي واحترق بألسنة النار .
4 ـ أوقفونا منذ طلوع الشمس إلى قريب الغروب بين المغنّين وأهل اللهو فأصبحنا فرجة للناس الذين كانوا يأتون من كلّ مكان ليتفرّجوا علينا ، وكان أزلام يزيد يقولون لهم : إنّ هؤلاء الناس لا احترام لهم في الإسلام أصلاً .
5 ـ قيّدونا بالحبال ومرّوا بنا إلى جانب منازل اليهود والنصارى وقالوا لهم : هؤلاء الذين قتلوا أبوهم آباءكم في معركة خيبر فهلمّوا وخذوا بثاراتكم منهم . وقد قال الإمام السجّاد عليه السلام أيضاً : يا نعمان فما بقي أحد منهم إلّا وقد ألقى علينا ما أراد من التراب والأحجار والأخشاب .
6 ـ أخذونا إلى سوق النخاسين وأرادوا أن يبيعونا كما يبيعوا العبيد والجواري لو لا أنّ الله عزّ وجلّ حال دون ذلك .
7 ـ جعلونا في دار لم يكن لها سقف ، فكانت لا تقينا من الحرّ والبرد (1).
لهفي لرأس ابن النبي هديّة
لابن الدعي على سنان العامل
لهفي لزين العابدين مكتّفاً
يكبو له يقتاد بين عقائل
لهفي على حرم الحسين يسقن في
ذلّ السبا وما لها من كافل
لهفي لهنّ وقد برزن حواسراً
من بعد قصم أساور وخلاخل
لهفي لهنّ وقد سلبن معاجراً
شعثاً وقد ركبن فوق رواحل
الإمام زين العابدين عليه السلام مع الشيخ الشامي
بعد أن أقيم السبي على درج باب المسجد، إذا بشيخ قد أقبل حتّى دنا منهم، وقال : الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم!.
قال له الإمام زين العابدين عليه السلام : يا شيخ هل قرأت القران ؟.
فقال : نعم قرأته.
قال عليه السلام : فعرفت هذه الاية : ﴿ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ﴾ ؟ (2).
قال الشيخ: قرأت ذلك.
فقال عليه السلام: فنحن القربى يا شيخ! فهل قرأت في بني إسرائيل : ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ﴾ ؟ (3).
فقال الشيخ: قد قرأت ذلك...
قال عليه السلام : نحن القربى يا شيخ ! ولكن هل قرأت هذه الاية : ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ ﴾ (4) ؟ فنحن ذو القربى يا شيخ، ولكن هل قرأت هذه الاية : ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ ؟ (5).
فقال الشيخ : قد قرأت ذلك.
فقال عليه السلام : فنحن أهل البيت الذين خُصِصنا باية الطهارة.
فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال : اللهم إني أبرأ إليك من عدو ال محمد صلى الله عليه واله، من الجن والانس، ثم قال : هل لي من توبة ؟.
فقال عليه السلام : نعم، إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا.
فقال : أنا تائب.
فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر بقتله. (6)
أعياد الشام و آلام البيت النبوي عليه السلام
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : « لما أدخل رأس الحسين بن علي عليه السلام على يزيد لعنه الله وأدخل عليه علي بن الحسين وبنات أمير المؤمنين عليه السلام، وكان علي بن الحسين عليه السلام مقيداً مغلولاً.
قال يزيد : يا علي بن الحسين، الحمد الله الذي قتل أباك!.
فقال علي بن الحسين عليه السلام: لعن الله من قتل أبي.
فغضب يزيد وأمر بضرب عنقه.
فقال علي بن الحسين: فإذا قتلتني فبنات رسول الله صلى الله عليه واله من يردهم إلى منازلهم وليس لهم محرم غيري؟.
فقال يزيد: أنتَ تردهم إلى منازلهم!.
ثم دعا بمبرد فأقبل يبرد الجامعة من عنقه بيده، ثم قال له : يا علي بن الحسين، أتدري ما الذي أريد بذلك ؟.
قال عليه السلام : بلى، تريد أن لا تكون لأحد عليّ منّة غيرك.
فقال يزيد : هذا والله ما أردت فعله... يا علي بن الحسين : ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ (7).
فقال علي بن الحسين عليه السلام : كلا، ما هذه فينا نزلت، إنما نزلت فينا : ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ (8)، فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا، ولا نفرح بما اتانا منها » (9).
رأس اليهود في مجلس يزيد العام
بعد المحاورة التي جرت بين الإمام زين العابدين عليه السلام ويزيد، التفت إليه حبرٌ من أحبار اليهود وكان حاضراً، فقال : من هذا الغلام يا أمير المؤمنين ؟.
فقال يزيد : صاحب الرأس هو أبوه.
قال الحبر : ومن هو صاحب الرأس يا أمير المؤمنين ؟.
قال : الحسين بن علي بن أبي طالب.
قال : فمن أمه ؟.
قال يزيد : فاطمة بنت محمد صلى الله عليه واله.
فقال الحبر : يا سبحان الله! هذا ابن بنت نبيكم قتلتموه في هذه السرعة! بئس ما خلفتموه في ذريته، والله لو خلف فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه، لظننا أنا كنا نعبده من دون الله، وأنتم إنما فارقكم نبيكم بالأمس، فوثبتم على ابن نبيكم قتلتموه، سوأة لكم من أمة.
قال : فأمر يزيد بكرّ في حلقه، فقام الحبر وهو يقول : إن شئتم فاضربوني أو فاقتلوني أو قرروني، فإني أجد في التوراة أنه من قتل ذرية بني لا يزال مغلوبا أبدا ما بقي، فإذا مات يصليه الله نار جهنم (10).
الخاتمة
إن أحداث الشام، التي شهدت معاناة آل البيت عليهم السلام بعد فاجعة كربلاء، تظلّ رمزاً للظلم والمأساة في التاريخ الإسلامي، لكنها في الوقت ذاته تبرز صمود الإمام زين العابدين عليه السلام وثباته في مواجهة الطغيان. من خلال حواره مع الشيخ الشامي ويزيد، أظهر الإمام عليه السلام قوة الحجة والتزامه بنشر الحق، مستنداً إلى القرآن الكريم ليبيّن مكانة أهل البيت وطهارتهم. هذه الأحداث، رغم قسوتها، كانت بمثابة منارة هداية، حيث استطاع الإمام أن يحوّل لحظات الابتلاء إلى فرصة لإيقاظ الضمائر، كما في توبة الشيخ الشامي وشهادة الحبر اليهودي. إن دروس كربلاء والشام تبقى خالدة، تذكّرنا بأهمية الوقوف مع الحق والعدل، مهما بلغت التضحيات، وتؤكد على مكانة آل البيت عليهم السلام كأنوار هداية في ظلمات الظلم والضلال.
1. السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين عليه السلام / الشيخ علي ربّاني الخلخالي / الصفحة : 99 - 100 ؛ نقلاً عن كتاب تذكرة الشهداء / للملّا حبيب الله الكاشاني / الصفحة 412 .
2. سورة الشورى : الاية 23.
3. سورة الإسراء : الاية 26.
4. سورة الانفال : الاية 41.
5. سورة الأحزاب : الاية 33.
6. اللهوف في قتلى الطفوف / السيد بن طاووس / المجلّد : 1 / الصفحة : 103.
7. سورة الشورى : الآية 30.
8. سورة الحديد : الآية 22 ـ 23.
9. تفسير القمي / علي بن ابراهيم القمي / المجلّد : 2 / الصفحة : 352.
10. الفتوح لابن اعثم / ابن أعثم / المجلّد : 5 / الصفحة : 132.
التعلیقات