تربية الأبناء بالاقتداء بسيرة الإمام الحسين عليه السلام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 3 ساعاتإنّ تربية الأبناء من أعظم المسؤوليات التي تقع على عاتق الوالدين والمجتمع، فهي التي ترسم مستقبل الأمة وتحدّد شكل حضارتها وأخلاقها. وقدّم أهل البيت عليهم السلام، وفي مقدّمتهم الإمام الحسين عليه السلام، نماذج راقية ومتكاملة في تربية الأبناء، ليس من خلال التوجيه اللفظي فحسب، بل بالمواقف العملية والتضحيات اليومية، فجعلوا من سيرتهم مدارس قائمة لكلّ من أراد أن ينهض بتربية الجيل.
1. مكانة الأمّهات الصالحات في بناء الشخصيّة
من أولى دعائم التربية الناجحة، وجود أمهات صالحات طاهرات. وقد أشار الإمام الحسين عليه السلام إلى هذا العامل في كربلاء، عندما استشهد بأمه فاطمة الزهراء وجدّته خديجة الكبرى، وقال في موقف من مواقف العزة والشرف: « أنشدكم الله أتعلمون أن أمي فاطمة بنت محمد؟" قالوا: نعم.
أنشدكم الله أتعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلامًا؟ قالوا: نعم » (1).
بهذا الحديث يُشير الإمام إلى أن الطهارة المعنوية والتربوية التي نشأ فيها، ساهمت في تكوين شخصيّته الرافضة للظلم والذل. إنّ أثر الأم في صناعة الجيل لا يُستهان به، فهي التي تزرع بذور الإيمان، وتُشرف على نموّها بالعاطفة والعقل.
فالأمّ الواعية الصالحة هي الحصن الأول في بناء شخصية الطفل، لذلك أوصى الإسلام باختيار الزوجة الصالحة لتكون أمًّا واعية ومُربية للأجيال.
2. إظهار المحبّة للأطفال
الحبّ ليس مجرد عاطفة، بل أداة تربوية فعالة. وقد كان الإمام الحسين عليه السلام يُظهر حبّه لأطفاله بطرق متعددة، منها الاحتضان والتقبيل والعبارات الحنونة. يروي عبيد الله بن عتبة:
« كنت عند الحسين بن علي عليه السلام إذ دخل علي بن الحسين الأصغر، فدعاه الحسين عليه السلام وضمّه إليه، وقبّل ما بين عينيه، ثم قال: بأبي أنت، أطيب ريحك وأحسن خلقك » (2).
الاحتضان والتقبيل ليسا تصرفات عاطفية فحسب، بل يُشعران الطفل بالأمان والانتماء، ويعززان ثقته بنفسه، ويقوّيان العلاقة مع والده. وهذا النوع من التعبير العاطفي هو ما يحتاجه الأطفال في جميع مراحل نموهم.
كما أن الحبّ ليس تناقضًا مع الهيبة، بل هو الذي يمنحها روحًا ومعنى، ويجعل الطاعة عن حبّ لا عن خوف.
3. توفير الحاجات المادية للأبناء
الإسلام دين واقعي، لا يكتفي بالتوجيه المعنوي، بل يؤكد على أهمية تلبية الحاجات الأساسية للإنسان. وكان الإمام الحسين عليه السلام، رغم انشغاله بهمّ الأمة، لا يغفل عن حاجات عائلته.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، موقفه يوم عاشوراء عندما قال لأخيه العباس عليه السلام:
« فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء » (3).
هذا الطلب يُظهر مسؤولية الإمام الحسين عليه السلام المباشرة عن رعاية الأطفال، وسعيه لتوفير الضرورات المادية لهم حتى في ظروف الحرب. فالأب الصالح هو الذي يوفّر الطعام والشراب والمسكن والملبس لأهله، ويسعى في حاجاتهم دون منٍّ أو تذمّر.
وما أحوجنا اليوم إلى أن نعي هذا الدرس، في ظل الغفلة عن حاجات الأبناء المادية التي تؤثر مباشرة على حالتهم النفسية واستقرارهم العائلي.
4. استخدام الكلام الطيب في التخاطب
الكلام الطيب مفتاح القلوب، وقد حرص الإمام الحسين عليه السلام على مخاطبة أهل بيته وأصحابه بكلام مؤثر، عاطفي، وراقي.
فمع ابنته سكينة، يقول: « وفي بعض الكتب أن الحسين لما نظر إلى اثنين وسبعين رجلا من أهل بيته صرعى التفت إلى الخيمة ونادى يا سكينة يا فاطمة يا زينب يا أم كلثوم عليكن مني السلام فنادته سكينة يا أبه استسلمت للموت ؟ فقال كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين فقالت يا أبه ردنا إلى حرم جدنا فقال هيهات لو ترك القطا لنام فتصارخن النساء فسكتهن الحسين وحمل على القوم » (4).
ومع أخيه العباس عليه السلام يخاطبه بأشدّ عبارات الحب والاعتزاز:
« وقالَ له العبّاسُ بنُ عليٍّ رحمةُ اللّهِ عليه : يا أخي أتاكَ القومُ ، فنهضَ ثمّ قالَ : «يا عبّاسُ ، اركَبْ ـ بنفسي أنتَ يا أخي ـ حتّى تَلْقاهم وتقولَ لهم : ما لكم وما بَدا لكم؟ وتسألَهم عمّا جاءَ بهم » (5).
ومع القاسم بن الحسن عليه السلام، حين سأله عن الشهادة، قال: « و أنا فيمن يقتل؟ فأشفق عليه فقال له: يا بني كيف الموت عندك. قال: يا عم أحلى من العسل.
فقال: أي و اللّه فداك عمك إنك لأحد من يقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاء عظيم و ابني عبد اللّه » (6).
هذه العبارات لم تكن تقال مجاملة، بل كانت تُخرج من قلبٍ محبّ، ومربٍ عظيم، يريد أن يغرس الثقة والحب والتضحية في قلوبهم.
5. تعليم الأبناء العقيدة والدين
من الأمور الجوهرية التي لا تُغفل في التربية هي تعليم الأبناء الدين. وقد كان الإمام الحسين عليه السلام سبّاقًا إلى مكافأة من يعلّم ولده القرآن أو العقيدة.
روى أحد المعلّمين أن الإمام الحسين عليه السلام أهداه ألف دينار وألف حلّة حين علّم ابنه جعفر جملة "الحمد لله ربّ العالمين"، وقال: "كيف تساوي عطائي هذا بتعليمه الحمد لله ربّ العالمين؟"
إنّ هذا التقدير الكبير للتعليم يُبرز أنّ الإمام كان يرى في المعلم شريكًا في بناء الروح والعقل، ويؤمن بأن العلم هو الاستثمار الأبقى.
6. الإصغاء لأسئلة الأبناء والتفاعل معهم
من أبرز صور التربية النبوية التي جسدها الإمام الحسين عليه السلام، الإصغاء للأسئلة الحساسة من الأبناء والردّ عليها بمنتهى الحكمة. فعن عقبة بن سمعان قال: « لما ارتحلنا من قصر بنى مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين برأسه خفقة ثم انتبه وهو يقول: انا لله وانا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين. قال: ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا. قال: فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال: انا لله وانا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، يا أبت جعلت فداك مم حمدت الله واسترجعت ؟ قال: يا بنى اني خفقت برأسي خفقة، فعن لي فارس على فرس، فقال: القوم يسيرون والمنايا تسرى إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت الينا، قال له: يا أبت لا أراك الله سوءا ألسنا على الحق ؟ قال: بلى والذي إليه مرجع العباد، قال: يا أبت إذا لا نبالي نموت محقين، فقال له: جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده » (7).
هذا الحوار العاطفي العميق، يُظهر كيف تعامل الإمام مع سؤال وجودي عميق طرحه ولده. فبدلاً من أن يطلب منه الصمت أو يُخفي الحقيقة، بادره بالصدق الكامل، ممزوجًا بالروح الإيمانية. إنّ التربية على الوضوح، والثقة، والردّ على تساؤلات الأبناء، هو ما يُثمر أبناءً أقوياء في العقيدة، متماسكين عند المحن
7. احترام الحرية الشخصية للأبناء
في ليلة عاشوراء، جمع الإمام الحسين عليه السلام أهله وأصحابه وقال:
« و إنّى قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا فى حلّ، ليس عليكم منّى ذمام، هذا اللّيل قد غشيكم فاتّخذوه جملا، و ليأخذ كلّ رجل بيد رجل من أهل بيتى، و تفرّقوا فى سوادكم و مدائنكم، فانّ القوم إنّما يطلبوننى و لو قد أصابونى لهوا عن طلب غيرى، فأبوا ذلك كلّهم.
فقال مسلم بن عوسجة الأسدي: و اللّه لو علمت انّى اقتل ثمّ أحيى ثمّ أحرق، ثمّ اذرى يفعل بى ذلك سبعين مرّة، ما تركتك، فكيف و إنمّا هى قتلة واحدة ثمّ الكرامة إلى الأبد، و تكلّم سعد بن عبد اللّه الحنفى و زهير بن القين و جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا » (8).
وفي موقف آخر، خاطب عبد الله بن مسلم:
"شهادتُك كافية، خذ بيد والدتك واذهب، فأنت في حلّ من بيعتي".
لكن عبد الله أبى وقال: "والله لا أفضّل الدنيا على الآخرة".
هذه التربية على حرية القرار هي من أسس بناء الشخصية القوية والمستقلة.
الخاتمة
سيرة الإمام الحسين عليه السلام، ليست مجرد مواقف بطولية في يوم عاشوراء، بل مدرسة متكاملة في تربية الأبناء على الإيمان، والعزّة، والمحبّة، والوعي، والحرية. إنّ هذا الإمام العظيم قدّم لأجيال الأمة نموذجًا حيًّا يمكن أن يُقتدى به في كلّ بيت ومجتمع، فلو تربّى الأبناء على مثل هذه القيم، لأصبحوا عمادًا للأمة، وسدًّا منيعًا أمام التحديات.
فهل نبدأ من اليوم باستلهام الحسين عليه السلام في أسلوب تعاملنا مع أولادنا؟
لعلها خطوة صغيرة في الظاهر، لكنها عظيمة في ميزان التربية والنية.
فما رأيك أيها القارئ الكريم؟ هل لديك تجربة تربوية تأثرت فيها بسيرة الإمام الحسين عليه السلام؟ أو فكرة ترى أنها تساعدنا في الاقتداء بنهجه في تربية الأبناء؟
شاركنا رأيك، فربّ كلمة تُكتب تُحيي قلبًا، وتفتح بابًا للتغيير في بيوتٍ تنتظر نور الحسين.
1. اللهوف في قتلى الطفوف / السيد بن طاووس / المجلّد : 1 / الصفحة : 53.
2. مسند الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي عليه السلام / الشيخ عزيز الله العطاردي / المجلّد : 3 / الصفحة : 101.
3. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 45 / الصفحة : 41 / ط مؤسسة الوفاء.
4. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 45 / الصفحة : 47 / ط مؤسسة الوفاء.
5. الإرشاد / الشيخ المفيد / المجلّد : 2 / الصفحة : 90.
6. نفس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم / الشيخ عباس القمي / المجلّد : 1 / الصفحة : 208.
7. مقتل الحسين عليه السلام / أبو مخنف الازديي / المجلّد : 1 / الصفحة : 92.
8. مسند الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي عليه السلام / الشيخ عزيز الله العطاردي / المجلّد : 2 / الصفحة : 7.
التعلیقات