٥ أصول تربوية من سيرة الإمام الحسن عليه السلام لبناء أسرة متماسكة
السيد حسين الهاشمي
منذ 3 ساعاتالمقدّمة
في زمنٍ تزداد فيه التحدياتُ التربويّة وتتزاحمُ المؤثّراتُ على العقول والقلوب، تشرق سيرةُ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كنبراسٍ منيرٍ يُرشدنا إلى بناءِ الإنسانِ والأسرة والمجتمع على أُسسٍ راسخة من الإيمان والحكمة والمحبّة.
هذا الإمامُ العظيمُ، الذي عاش في قلب العواصف السياسيّة والاجتماعيّة، لم يُقصّر في أداء دوره التربوي، بل جسّد القيم الأخلاقيّة في حياته، وكان مدرسةً متحرّكةً في الحلم، والعفو، والصبر، والرحمة.
ومع حلول الثامن والعشرين من صفر، الذي يصادف ذكرى استشهاد هذا الإمام الكريم، ومع استعداد المجتمع فكرياً وروحيّاً لتلقّي المعارف، فإنّنا نقف عند سيرة الإمام الحسن عليه السلام التي امتدّت ثمانية وأربعين عاماً، ونتأمّل فيها من خلال دراستها النظريّة والعمليّة، بالإضافة إلى ما ألّفه الباحثون من مقالات ورسائل موثّقة في هذا المجال، لنتناول بالتحليل هذه الأصول التربويّة الخمسة.
الأصل الأول: الزواج السليم
من المبادئ التربويّة الثابتة في سيرة الإمام الحسن عليه السلام لبناء الأسرة والمجتمع السليم، هو (الزواج السليم). فالزواج السليم لا يكون مجرّد وسيلة لإشباع الغريزة والشهوة، بل يجب أن يُقصد به بناء نسلٍ صالح.
ولا يمكن الوصول إلى هذا الهدف إلا من خلال اختيار الزوج أو الزوجة بوعيٍ وبصيرة، لا على أساس علاقاتٍ عاطفيّة زائفة أو روابط غير أخلاقيّة.
ولهذا السبب، أشار الإمام عليه السلام إلى أهمية دور الزوج المستقبلي ومسؤوليته في إدارة الأسرة، عندما سأله أحد الرجال عن رأيه في خطّاب ابنته، فقال له الإمام : « زَوِّجْها مِن رَجُلٍ تَقِيٍّ ، فإنّهُ إن أحَبَّها أكرَمَها وإن أبغَضَها لَم يَظلِمْها » (١).
فالإمام عليه السلام أوصى بأن يُزوَّج البنت من رجلٍ تقيّ، لأنه إن أحبّها أكرمها، وإن لم يحبّها لم يظلمها.
والإحصائيّات الحديثة حول الزواج والطلاق تؤكّد هذه الحقيقة. فالزيجات الناجحة والمستقرّة، والتي تتحوّل إلى نواةٍ لأسرةٍ متماسكة، هي تلك التي تمّت بعد دراسةٍ ووعي، حيث يتعرّف الطرفان على أخلاق وأصل كلّ منهما قبل الإقدام على الزواج.
أمّا الأسر التي تتفكّك وتنتهي بالطلاق، فهي غالباً تلك التي تمّ فيها الزواج دون دراسة أو تعارف كافٍ، وهذا ما يؤدّي إلى ارتفاع معدّلات الطلاق حتى تُقارِب معدّلات الزواج.
الأصل الثاني: السعي نحو الكمال والرقي
الأصل الثاني لبناء أسرةٍ ومجتمعٍ سليم في سيرة الإمام الحسن عليه السلام، هو (السعي نحو الكمال والرقي)، وهذا لا يتحقّق إلا من خلال طلب العلم والمعرفة.
فإذا أردنا أن يكون لدينا مجتمعٌ حيٌّ نابضٌ بالوعي والحركة، غير خاملٍ ولا راكد، يجب أن تُعتَبر المعرفة وطلب العلم من أهمّ معايير النموّ والارتقاء، وأن يسعى أفراد الأسرة يومًا بعد يوم في سُلَّم التقدّم العلمي.
يجب علينا أن نبعد أبناءنا عن الانشغال بالملهيات والمغريات المنتشرة في شبكات التواصل الاجتماعي، وأن نُوجّههم نحو الكمال الذي لا يُنال إلا بالعلم والتعلّم.
وهذا ما فعله الإمام الحسن عليه السلام مع أبنائه، فقد استخدم هذا الأسلوب التربوي في تشجيعهم على طلب العلم، حيث دعا يوماً أبناءه وأبناء أخيه، وفي جلسةٍ ودّيّةٍ معهم قال :« إِنَّكُمْ صِغَارُ قَوْمٍ وَ يُوشِكُ أَنْ تَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ أَنْ يَحْفَظَهُ فَلْيَكْتُبْهُ، وَ لْيَضَعْهُ فِي بَيْتِهِ» (٢).
الأصل الثالث: اختيار الصاحب والصديق الصالح
من المبادئ التربويّة المهمّة في بناء الأسرة والمجتمع السليم في سيرة الإمام الحسن عليه السلام، هو (اختيار الصاحب والصديق الصالح)، لأنّ من العوامل المؤثّرة جداً في تكوين شخصيّة الإنسان هو الصديق.
فكلّ إنسان، شاء أم أبى، يتأثّر بصديقه ويؤثّر فيه، والعلاقة بينهما متبادلة نفسيّاً وسلوكيّاً.
ولأجل هذا التأثير المتبادل، قال الإمام الحسن عليه السلام لولده: « يا بني لا تواخ أحدا حتى تعرف موارده ومصادره، فإذا استنبطت الخبرة ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة والمواساة في العسرة » (٣).
وكذلك، في أحد أحاديثه الأخيرة التي وجّهها إلى جنادة بن أميّة في أيّام حياته الأخيرة، أشار الإمام عليه السلام إلى علامات وصفات الصديق الصالح فقال :
« وإذا نازعتكَ إلى صُحبَةِ الرجالِ حاجةٌ، فَاصحَبْ من إذا صاحبتَه زانَك، وإذا خَدَمتَه صانَك، وإذا أردتَ منه معونةً أعانَك، وإنْ قُلتَ صدَّق قولَك، وإنْ صُلتَ شدَّ صَولَك، وإنْ مَدَدتَ يدَك بفضلٍ مدَّها، وإنْ بدَتْ عنكَ ثُلمةٌ سدَّها، وإنْ رأى منك حسنةً عدَّها، وإنْ سألته أعطاك، وإنْ سَكَتَّ عنه ابتدأكَ، وإنْ نزلت بك إحدى الملمّاتِ واساك، من لا يأتيك منه البوائق، ولا يختلف عليك منه الطرائق، ولا يَخذُلك عند الحقائق، وإنْ تنازعتُما مُنقَسِمًا آثَرك » (٤).
وكذلك قال عليه السلام : « القريبُ مَن قرَّبتْهُ المودَّةُ وإنْ بَعُدَ نَسَبُه، والبعيدُ مَن باعدتْهُ المودَّةُ وإنْ قرُبَ نَسَبُه » (٥).
وفي ظروف اليوم، صار كلّ فرد من أفراد المجتمع يحمل في جيبه صديقاً عبر الهاتف المحمول. وإذا لم يكن هناك مراقبة كافية على طريقة استخدام هذا الجهاز، ولم تكن هناك متابعة دقيقة للأبناء، فإنّ تأثير ذلك لن يقتصر على الأولاد الذين لم يكتسبوا خبرة الحياة بعد، بل يمكن أن يمتدّ إلى الرجل والمرأة أيضاً، ويؤثّر على سلوكهما، رغم سنوات العِشرة الطيّبة، وقد يؤدّي إلى انهيار الأسرة وتفكّكها.
الأصل الرابع: الحلم والصبر والعفو
الأصل الرابع في بناء الأسرة والأبناء والمجتمع السليم، هو (الحلم والصبر والعفو).
ومعناه أنّه حين يرتبط الرجل بالمرأة، أو تُعقد علاقة الزواج بين الفتاة والشاب، يجب على الطرفين أن يسلّما منذ البداية بأنّهما شخصان مختلفان، لكلٍّ منهما ثقافة وسلوك وذوق خاصّ.
ومن الطبيعي أن تظهر اختلافات في وجهات النظر بينهما خلال الحياة الزوجيّة. وإذا أصرّ كلٌّ منهما على فرض رأيه وذوقه على الآخر، فإنّ النتيجة ستكون الجدال والنزاع، ثمّ التباعد والانفصال القلبي.
السبيل الوحيد لتحقيق التماسك الأسريّ هو : الحلم، وتحمل الآخر، والعفو والتسامح.
ومن أبرز النماذج التي نراها واضحة أمامنا، سيرة الإمام الحسن عليه السلام مع زوجته جُعدة.
رغم الظلم الذي تعرّض له من قبلها، إلى حدّ أنّها سمّمته، إلّا أنّه عند اقتراب شهادته لم يسعَ إلى الانتقام، بل أوصى أخاه الإمام الحسين عليه السلام بعدم التعرّض لها.
كما ورد في كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد، في فصل استشهاد الإمام الحسن عليه السلام:
حين اقتربت لحظات رحيله، طلب الإمام الحسن عليه السلام من أخيه الحسين عليه السلام أن يأتي إليه، وقال له:
« يا أخي، إنّي مفارقك عن قريب، لاحقٌ بربي، قد سُقيت السمّ، واليوم تقطّع كبدي في الطست، وإنّي لأعلم من الذي فعل بي ذلك، ومن أين جاءني هذا الظلم؛ وإنّي أُخاصمه عند الله، لكن بحقّي عليك لا تُطالبه، ولا تُلاحقه، وانتظر حكم الله فيه » (٦).
إنّ هذه الروحيّة المسامحة والحليمة لم تكن محصورة في علاقاته الأسريّة فقط، بل كان عليه السلام يُعامل بها الغرباء والأعداء أيضاً.
ففي روايةٍ مشهورة: إنّ شامياً رأى الإمام الحسن عليه السلام راكباً فجعل يلعنه، والإمام الحسن عليه السلام لا يردّ.
فلمّا فرغ أقبل الإمام عليه السلام عليه وضحك، وقال: أيّها الشيخ أظنّك غريباً ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت إرتحالك كان أعود عليك لأنّ لك موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالا كبيراً (٧).
عندما سمع الرجل هذا الكلام العذب، شعر بخجلٍ شديد، وتحوّلت مشاعره تدريجياً، وبدأت ملامح الندم تظهر على وجهه، ولم يتمالك نفسه حتى ذرف الدموع، وقال بتواضع:
«أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته، كنت أنت وأبوك أبغض خلق إليّ والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم» (٨).
ثمّ ذهب مع الإمام إلى بيته، وكان ضيفاً عنده طيلة إقامته في المدينة، وصار بعدها من خلّص أتباع أهل البيت ومحبيّهم.
وفي نفس السياق، يروى : عندما تُوفّي الإمام الحسن عليه السلام، كان مروان، أحد أعدائه المعروفين يبكي في جنازته، فسأله الإمام الحسين عليه السلام: « تحمل اليوم جنازته وكنت بالأمس تجرعّه الغيظ؟ ».
قال مروان: نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (٩).
الأصل الخامس: التخلّص من الرذائل والتخلّق بالفضائل الأخلاقية
الأصل الخامس في بناء الأسرة، وتربية الأبناء، وتشكيل مجتمعٍ سليم، هو التخلّق بالفضائل والمحاسن الأخلاقيّة والتخلّص من الرذائل والصفات السيئة، لأنّ أساس الترابط والتماسك والمحبّة بين أفراد الأسرة، ثمّ بين أفراد المجتمع، هو تزيّنهم بالفضائل الأخلاقيّة، مثل: العفّة والحجاب، الأدب والاحترام، التعاون والمساعدة، الحِلم والصبر، العفو والتسامح، الإيثار والتضحية.
وبالمقابل، فإنّ مصدر التفكّك الأسري والانقسام الاجتماعي هو انتشار الرذائل الأخلاقيّة، والعادات السيّئة، مثل: الغضب والانفعال، التعصّب والعناد، تحقير الآخر، تضخيم العيوب والنقائص.
وهذان الأصلان ـ أي التخلّق بالمحاسن والتخلّص من الرذائل ـ لا يمكن تحقيقهما إلا من خلال تهذيب النفس وتزكيتها، ويجب أن تكون المراقبة الذاتية أساساً للحياة، وجُهداً دائمًا يُبذَل لحفظ النفس من السقوط الأخلاقي.
ولهذا، أشار الإمام الحسن المجتبى عليه السلام إلى أهميّة التربية الروحيّة والمعنويّة، فقال: « عجب لمن يتفكّر في مأكوله كيف لا يتفكر في معقوله!؟ فيجنب بطنه ما يؤذيه ويودع صدره مايريده » (١٠).
وكان عليه السلام يقول أيضاً: « املِكوا أنفسَكم بدَوامِ جِهادِها » (١١).
الخاتمة
إنّ التربية ليست مجرّد كلماتٍ تُقال، بل مسيرةُ بناءٍ طويلٍ يتطلّبُ صبراً ووعياً واقتداءً بأهل البصيرة.
وسيرة الإمام الحسن عليه السلام تُقدّم لنا خريطةَ طريقٍ واضحة، تبدأ بالزواج الواعي، وتمرّ بطلب العلم، واختيار الأصحاب، والتحلّي بالحلم، وتنتهي بالتخلّق بمكارم الأخلاق.
فلنجعل من هذه الأصول نهجاً لحياتنا، ولنتذكّر دائماً أنّ من أحبّ الحسن حقّاً، سلك سبيله واهتدى بهداه.
1. مكارم الأخلاق للطبرسي/ المجلد: ١ / الصفحة: ٢٠٤.
2. منية المريد للشهيد الثاني / المجلد : 1 / الصفحة: ٣٤٠.
3. تحف العقول لابن شعبة الحراني / المجلد : ١ / الصفحة ٢٣٣.
4. مستدرك الوسائل للمحدث النوري / المجلد : ٨ / الصفحة : ٢١١.
5. وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي / المجلد : ٨ / الصفحة : ٤٣٣.
6. الإرشاد للشيخ المفيد / المجلد : ٢ / الصفحة : ١٣.
7. مناقب آل أبي طالب / لابن شهر آشوب / المجلد : ٤ / الصفحة : ١٩.
8. مناقب آل أبي طالب / لابن شهر آشوب / المجلد : ٤ / الصفحة : ١٩.
9. شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد / المجلد : ١٦ / الصفحة : ١٣ / دار الجيل – بيروت / الطبعة الأولى ۱۹۸۷م.
10. بحار الأنوار للمجلسي / المجلد : ١ / الصفحة : ٢١٨ / الطبعة : مؤسسة الوفاء.
11. تصنيف غرر الحكم و درر الكلم / للتميمي الآمدي / المجلد : ١ / الصفحة : ٢٤١.
التعلیقات